وصف السلاح :
يقول ابن قتيبة في آخر ترجمته لأوس بن حجر : " وهو أوصف الناس للقوس ، ثم تبعه الشماخ (1) " . ويعلق الخالديان على وصف أوس للقوس بقولهما : " وأما ذكره القوس ، ووصفه لها ، وحمل الذي قطعها نفسه على التسلق في الجبال والهضاب العالية حتى ظفر بها بعد طول الجهد ، ثم نقله إياها من حال إلى حال حتى بلغت نهاية ما أراد ، فهي صفة ما نعرف لها نظيرا في الشعر فنأتي به ، ولقد أجاد في كل ذلك ، وأتى بما لم يتعاطه بعده أحد من الشعراء في هذا المعنى ، من ذكر القوس خاصة ، ولو أن صفته هذه ، وما حمل نفسه من المكروه وعاناه من المشقة، في طلب جوهرة نفيسة ، أو درة خطيرة ، لكان قد استغرق في ذلك مجهوده ، وبلغ نهاية جبلته (2) " .

الموقف النفسي الذي وجّه أوسا إلى وصف السلاح :
يفرغ أوس في هذا النموذج إلى ضرب نادر من الفخر الشخصي ، إذ يفتتح النموذج ببيتين في النسيب ، يضمّنها معنى الصحوة عن الحب بعد رحيل الحبيبة ، لينفذ من ذلك إلى موقفه من أبناء عمه ، وإساءتهم إليه رغم إحسانه إليهم ، مما قد يشير إلى أنه كان يعاني مرارة موقف قبلي عنيف ، لنا أن نلمح أثره الواضح في قوله ( ) :
أقيم بدار الحزم ما دام حزمها             وأحر  إذا حالت بأن أتحولا
وأستبدل  الأمر  القوي بغيره             إذا عقد مأفون الرجال تحللا
ويبدو أن هذا الموقف أملى على أوس أحد اختيارين  : إما قبول ظلم أبناء عمه ، وإما الاعتماد على الذات في التحول عن مواقف الذل . وقد اختار التهديد بالطريق الثاني ، ولهذا اندفع إلى وصف عدته ، وسلاحه ، وصفا طويلا استغرق ثمانية وثلاثين بيتا ، تناول فيها أوصاف رمحه ودرعه ، ثم فرغ لقصة طويلة تحدث فيها عن مغامرة حصوله على غصن شجرة ، نمت فوق طود منيف ، وطريقة معالجته له حتى غدا قوسا هيأ لها أسهما من أغصان الغرب ، وركب لها أنصلا كجمر الغضا ، وريشا لؤاما يعينها على أن تبلغ من أهدافه ما يريد ، حتى إذا انتهى من ذلك كله عاد إلى الفخر بأسيد ، فتحدث عن إبائها ، ورفضها للظلم ، ثم اختتم القصيدة بحكمة حدد فيها رفضه للعلاقات الاجتماعية الشاذة ، فكان معناها         ( الحكمة ) خلاصة المعاناة التي أثارتها تجربة الصراع بين الذات وبين الكيان الذي يفترض أن تفنى فيه الذات ، وتلك تجربة قاسى مرارتها الكثير من الشعراء .
ومما قاله في وصف قوسه ( )    :
ومبضوعةً من رأس فرع شظيةً    على ظهر صفوانٍ كأن متونه      يطيف بها راع يجشم نفسه         فلاقى أمرأ من ميدعان وأسمحت   فقال له : هل تذكرن مخبرا        على خير ما أبصرتها من بضاعة  فويق جبيل شامخ الرأس لم تكن    فأبصر ألهابا من الطود دونها      فأشرط فيها نفسه وهو معصم      وقد أكلت أظفاره الصخر كلما     فما زال حتى نالها وهو معصم     فأقبل لا يرجو التي صعدت به      فلما نجا من ذلك الكرب لم يزل   فأنحى عليها ذات حد دعا لها       1على فخذيه من براية عودها       فجردها صفراء لا الطول عابها    كتوم طِلاعُ الكفّ لا دون ملئها     إذا ما تعاطوها سمعت لصوتها     وإن شد فيها النزع أدبر سهمها    وحَشْوَ جفير من فروع غرائب      تخيرن أنضاء ورُكّبن  أنصلا      فلما قضى في الصنع منهن فهمه    كساهن من ريش يمان ظواهرا     فذاك  عتادي في الحروب إذا التظت            بطود تراه بالسحاب مجللا           عُللْنَ بدهن يزلق المتنزلا            ليكلىء فيها طرفه متأملا             قرونته باليأس منها فعجلا            يدل على غنم ويقصر معملا         لملتمس بيعا بها أو تبكلا             لتبلغه حتى تكل وتعملا              ترى بين رأسي كل نيقين مهبلا      وألقى بأسباب له وتوكلا             تعايا عليه طول مرقى توصلا       على موطن لو زل عنه تفصلا       ولا نفسه إلا رجاء مؤملا            يمظعها ماء اللحاء لتذبلا             رفيقا بأخذ بالمداوس صيقلا          شبيه سفى البهمى إذا ما تفتلا         ولا قصر أزرى بها فتعطلا          ولا عَجْسُها عن موضع الكف أفضلا  إذا أنبضوا عنها نئيما وأزملا         إلى منتهى من عجسها ثم أقبلا       تنطع فيها صانع وتنبلا              كجمر الغضا في يوم ريح تزيلا     فلم يبق إلا أن تسن وتصقلا          سخاما لؤاما لين المسّ أطحلا        وأردف بأس من خطوب وأعجلا     .
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
إن هذا النموذج كان رائد الشماخ في وصفه لقوس الصياد ،" ولم تكن قوسه من القسي سهلة المنال ، بل كانت نموذجا للسلاح الذي بذل فيه من أعده أغلى ما لديه من جهوده منذ لقي مادة هذا القوس في غابها، إلى أن مظعها ماء لحائها ، وصنعها نموذجا فذا من نماذج القسي ، وقد برع الشماخ في وصفه هذه القوس والمضـي معها منذ ولادتها فكرة حتى صارت تصول وتجول بين يدي من اشتراها( ) " . فقال مصورا هذا كله( ) :
تخيرها القواس من  فرع  ضالة   لها  شذب  من  دونها وحواجـز
نمت في مكان كنها واستوت  به   فما  دونها  من  غيلها  متلاحـز
فما زال ينجو  كل رطب ويابس   وينغل  حتى  نالها  وهو  بـارز
فأنحى  إليها  ذات  حد  غرابها           عدو  لأوساط  العضاه  مشـارز
فلما اطمأنت في يديه رأى  غنى   أحاط  به  وازور  عمن يـحاوز
فمظعها  عامين  ماء لحائهــا           وينظر  منها  أيها  هو  غامــز
أقام  الثقاف  والطريدة درأهـا           كما قومت ضغن الشموس المهامز
وقد استوحى الشماخ معظم معانيه من شعر أوس ، إلا أنه طرق معاني جديدة ، لم يتعرض لها أوس ، وذلك من خلال هذا المشهد الرائع الذي رسمه للسوق التي بيعت فيها هذه القوس الفذة ، فقد كان القوم يغلون أثمان السلاح ( ) ، فقال مصورا هذا المشهد بأسلوب وجداني :
فوافي بها أهل المواسم فانبـرى   لها بيع يغلي بها السوم  رائــز
فقال له : هل  تشتريها  فإنهــا  تباع  بما  بيع التلاد  الحرائــز
فقال : إزار  شرعبي  وأربــع   من السّيراء أو أواق  نواجـــز
ثمانٍ  من  الكيري  حُمْرٌ كأنهـا   من الجمر ما ذكّى على النار خابز
وبردان من خال وتسعون درهما        ومع ذاك مقروظ  من  الجلد ماعز
فظل  يناجي  نفسه  وأميرهــا   أيأتي  الذي  يعطي بها  أم يجاوز
فقالوا له : بايع أخاك  ولا يكـن   لك اليوم عن ربح من  البيع لاهز
ثم يمضي فيصور لنا تجربته الإنسانية مع هذه القوس ، " فيصور تدله الإنسان بصنع يديه ، ويعبر عن عاطفة إنسانية راقية يستشعرها كل منا إزاء عمله  الذي يودع فيه طائفة من نفسه ،( ) فقال مصورا تعلقه بقوسه :
فلما شراها فاضت العين عبرة            وفي الصدر حرازمن الوجد حامز 

7- وصف الخمرة ومجالسها :
        لم يكن وصف الخمرة عند الشعراء الجاهليين موضوعا مستقلا و "إنما كانوا يمسونها مسّا، أو يطيلون في وصفها إذا سنحت بذلك سانحة ( )" .
واللهو - كما نعلم - مفخرة كل شاب من شباب ذلك العصر، والأسود بن يعفر النهشلي عشق الخمرة، وأجاد وصفها ، فنراه يرسم لنا لوحة فنية من خلال تشبيه رضاب صاحبته بها، قال ( ) :
كان ريقتها بعد الكرى اغتبقت    سلانة الدن مرفوعا نصائبه         وقد ثوى نصف حول أشهرا جددا   حتى تناولها صهباء صافية           .        صرفا تخيرها الحانون خرطوما مقلد الفغو والريحان ملثوما     بباب أفان يبتار السلاليما    يرشو التجار عليها والتراجميا   .
فرضاب صاحبته طيب الرائحة عند نهوضها من نومها، فكأنها شربت عشاء قبل نومها خمرة غير ممزوجة، اختارها الخمارون من صفوة الدن، تغمره أغصان الريحان، وتحفه أعواد الطيب، فكانت خمرا صهباء صافية، ولم يرفع الشاعر ريشته عن هذه اللوحة حتى سجل لنا حركة هذا الرجل الدائبة الطويلة، إذ مكث أكثر من نصف عام يحتال في شرائها منتقلا في أماكن خزنها، يرشو التجار والمترجمين.
وكما اهتم الأسود في كثير من نماذجه بوصف الخمرة، اهتم أيضا بوصف مجالسها، فاستمع إلى قيثارة الأسود وهو يعزف هذه الألحان ( ) :


ولقـد لهـوت وللشبـاب  لـذاذةٌ        
من خمر ذي نطف أغنّ منطّق    يسعى بها ذو تومتين مشمر      والبيض تمشى كالبدور وكالدمى   والبيض يرمين القلوب كأنها     ينطقن معروفا وهن نواعم         ينطقن مخفوض الـحديث تهامساً  .          بسلافـة مزجـت بمـاء غواد وافى بها لدراهم الأسجاد        قنأت أناماله من الفرصاد         ونواعم يمشين بالأرفاد          أدحي بين صريمة وجماد       بيض الوجـوه رقيقـة الأكبـاد
فبلغن ما حاولـن غيـر  تنـاد  .
وقد ركز الأسود عدسته الفنية على الساقي الذي كان يقدم لهم الخمرة، فهو فتى بهي، في صوته غنة، وقد شدّ حضره بالمنطقة، يقبل على الندامى بالخمر، ويدفعون له ثمن الراح من دراهم الأكاسرة، وقد شمّر عن ساعديه، واصطبغت يداه بالفرصاد، وقد تدلت من أذنيه لؤلؤتان.
ونراه يستكمل عناصر هذه اللوحة فيرسم صورة للغانيات اللواتي كُنّ يطفنَ بالشراب، وينطقن الحديث تهامسا، فيشرب الندامى الخمر من أيديهن وأفواههن، وينتشون بخمر الأقداح، وحديث الأفواه.
حقا لقد أجاد الأسود وصف الساقي والساقيات، وأحسن تصوير مجلس الشراب، وصوره تصويرا كامل الأجزاء، تام العناصر، حتى أنه ليحبب إلى من يسمع ألحانه أن يشهد ذلك المجلس.
ورسم علقمة الفحل لوحة فنية خلابة لمجلس خمر كان يغشاه، فقال ( ) :
قد أشهد الشّرب فيهم مزهر رنم   كأسُ عزيز من الأعناب عتقها   تشفى الصداع ولا يؤذيك صالبها عانية قرقف لم تُطّلع سنة        ظلت ترقرق في الناجود يصفقها  كأن إبريقهم ظبي على شرف    أبيض أبرزه للضخ راقبه         .             والقوم تصرعهم صهباء خرطوم    لبعض أربابها حانية حوم          ولا يخالطها في الرأس تدويم      يجنّها مدمج بالطين مختوم         وليدُ أعجم بالكتان مفدوم           مفدّم بسبا الكتان ملثوم             مقلد قضـب الريحان مفغوم         .
             
            
            
             
            
            
       وحينما تستمع إلى هذه الألحان العذبة ، فإنك تجد علقمة لا يتحدث عن الخمر فحسب، بل تشعر بأن الشاعر "يذيقك في بيته الثاني طعم هذه الخمر ( ) ". وقد وقف الدكتور النويهي عند هذه الأبيات وقفتين متأنيتين، مفصّلاً القول في جمال التصوير، وسعة الخيال عند علقمة.
       ولحسان بن ثابت جهود فنية متميزة في وصف الخمر، وما قاله ( ) :
ولقد شربت الخمر في حانوتها   يسعى  علـي  بكأسها  متنطف إن  التي  ناولتنـي  فرددتهـا  كلتاهما حلب العصير فعاطني  بزجاجة رقصت بما في قعرها  .            صهباءَ صافيةً كطعم الفلفل      فيعلني  منها  ولو  لم أنهل      قتلت -قتلت- فهاتها لم تقتل    بزجاجة  أرخاهمـا  للمفصل   رقص القلوص براكب  مستعجل .    
            
            
            
            
            
            
       فقد صور الساقي غلاما مقرطا، يسعى إليه بالخمر في خفة، فيسقيه مرة بعد مرة، ويقص قصة تلك الخمرة الصافية التي تشبه الفلفل في طعمها، وكيف شربها صرفا بعد أن ردها على الساقي حين قتلها بالماء، فإنهما وإن كانتا من أصل واحد، إلا أنه يطلب لنفسه أشدها سورة.
       وما أجمل هذه الصورة، صورة رقص الخمر في زجاجتها، ورقص الزجاجة بها من نشوتها، رقص ناقة سريعة براكب مستعجل.

8- وصف استخراج اللؤلؤ :
       ونقع على عدة لوحات فنية، اثنتان منها للأعشى، وواحدة للمخبل السعدي، وأخرى لأبي ذؤيب الهذلي. وتعد هذه اللوحات وثيقة تاريخية صادقة للبحث عن اللؤلؤ في العصر الجاهلي، وتبدد كل المزاعم التي قيلت عن جهل العربي بالبحر، وخوفه منه، بما تحويه من تفصيل دقيق، ومعاناة صادقة بحثا عن المعدن الثمين في أعماق البحر.
       ونبدأ بقصيدتي الأعشى، وأوّلهما قصيدة عامة يصور فيها الغواص وهو يستخرجها من لجج عميقة، يدفع حياته ثمنا لها، فهي غاية ما يرجوه ويتمناه في حياته. والأعشى لا ينسى أن يصور لنا الخوف ومواجهة الموت الجاثم في أعماق البحر، لأولئك الصيادين الذين يبحثون عن الدر. ولا يفوته أن يصور لنا ندرة هذه الدرة، فقد تولى الجنُّ حراستها، خوفا من أيدي السارين والسرقا (الصيادين)، يقول( ) :
كأنها درة زهراءُ أخرجها          قد رامها حججا مُذْ طُرّ شاربه     لا النفس توئسه منها فيتركها       ومارد من غواة الجن يحرسها    ليست له غفلة عنها يطيف بها     حرصا عليها لو ان النفس طاوعها في حوم لُجّة آذيّ له حدب         من نالها نال خلدا لا انقطاع له           .            غواص دارين يخشى دونها الغرقا   حتى تسعسع يرجوها وقد خفقا      وقد رأى الرغب رأي العين فاحترقا ذو نيقة مستعد دونها نزقا            يخشى عليها سُرى السارين والسرقا منه الضمير لبالى اليم أو غرقا       من رامها فارقته النفس فاعتلقا       وما تمنى فأضحى ناعما أنقا         .
            
            
            
            
            
            
            
       أما قصيدته الثانية فهي لوحة تاريخية وفنية صادقة، كان شاعرنا قد تحسسها، ورسم خيوطها بنظره وخياله، وهي بالحقيقة تمثل أروع ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي عن صيد اللؤلؤ.
       والقصيدة يبدأها الأعشى بوصف أربعة من صيادي اللؤلؤ، ويصفهم بأنهم مختلفو الألوان والأصل، وقد اجتمعوا على الصيد. ويصف اختلافهم في أمر رحلتهم حتى اتفقوا، فأسلموا قيادتهم إلى رئيسهم، وخضعوا له، وأطاعوه. فإذا ما وصلوا إلى مكان الصيد، وأرسلوا سفينتهم، بعدما ألقوا المراسي، قذف صاحبهم نفسه في البحر، بعد أن طلي جسده بالزيت، خوفا من ملوحة ماء البحر. ثم يواصل الأعشى وصفه لهذا الغائص، وهو يبحث عن درته، وكيف يمج ويقذف بالزيت من فيه، كي يضيء له الطريق في لجة البحر، وهذه طريقة تستعمل في صيد اللؤلؤ، ولا ينسى الأعشى أن ينقل لنا الصراع النفسي الذي يعيشه الصياد في بحثه عن اللؤلؤ.
فأبوه قبله مات بحثا عنها. وهو الآن في مواجهة مع الموت، فإما أن يلحق به، وإما أن يحصل عليها، ويتحرر من الفقر، ويعيش في غنى ورفاه.
ثم يصف الأعشى الغائص، وقد ناصف النهار عليه، وهو غاطس تحت الماء، وشريكه فوق السفينة ينظر، وهو ممسك بالحبل، ولا يدري ما حل بصاحبه. ولم يزل يبحث عن الدرة حتى وقع عليها، فحملها مسرورا، وخرج إلى أصحابه، وتوجهوا بها إلى السوق ليبيعوها، فلما وصلوا إلى السوق أسرع التجار إليهم، فأحاطوا بهم، وأخذوا يسومون الدرة، فأبى رئيسهم أن يبيعها لهم، لأنه استقلّ ما دفعوه من ثمن فيها. وفي هذا يقول الأعشى ( ) :
كجمانة البحريّ جاء بها          صلب الفؤاد رئيس أربعة        فتنازعوا حتى إذا اجتمعوا        وعلت بهم سجحاء خادمة        حتى إذا ما ساء ظنهم            ألقى مراسيه بتهلكة              فانصب أسقف رأسه لبد         أشغى يمج الزيت ملتمس        قتلت أباه فقال أتبعه             نَصَفَ النّهار الماء غامره         فأصاب منيته فجاء بها           يعطى بها ثمنا ويمنعها           وترى الصراري يسجدون لها    فتلك شبه المالكية إذ              .         غواصها من لُجّة البحر        متخالفي الألوان والنجر        ألقوا إليه مقالد الأمر          تهوي بهم في لجة البحر      ومضى بهم شهرٌ إلى شهر     ثبتت مراسيها فما تجري      نزعت رباعيتاه للصبر       ظمآن ملتهب من الفقر         أو أستفيد رغيبة الدهر        وشريكه بالغيب ما يدري      صدفية كمضيئة الجمر         ويقول صاحبه ألا تشري      ويضمها بيديه للنحر           طلعت ببهجتها من الخدر      .
            
            
            
            
            
            
            
            
            
            
أما اللوحة الثالثة فنجدها عند المخبل السعدي حيث صور فيها رعشة الخوف من الموت لدى الغائص، وهو في لجة البحر، وتحت سمك القرش. وقد شبهه بسرعة السهم في سرعته ومضائه، وهو يحمل درته الثمينة، وقد تلبد على صدره زبد البحر، والزيت الذي علق به في أثناء قذفه له داخل البحر في أثناء بحثه عن الدر، يقول ( ) :
كعقيلة الدر استضاء بها        أغلى بها ثمنا وجاء بها        بلبانه زيت وأخرجها           .          محراب عرش عزيزها العجم      شَخْتُ العظام كأنه سهم            من ذي غوارب وسطه اللخم       .
            
            
9- وصف الأمطار والسيول
       يعد المطر واحداً من الموضوعات التي ترد في الشعر الجاهلي، وهو كغيره من الموضوعات نادر الورود في قصيدة مستقلة به وحده، ولكنه يأتي ملتصقا بموضوعات أخرى، كالطلل، والمرأة، والأوابد، والقرى، والقبر ( ) .


موضع المطر الأساسي
       في هذا الموضع يعنى الشعراء بملاحظة البرق، ومراقبة الغيم، ويتتبعون تحرك الرياح، ويرقبون الغيوم والسحب، وقدموا لنا لوحاتٍ فنيةً رسموا لنا فيها مشاهد المطر الرائعة ( )     . إذ "ليس هناك ما هو أكثر جاذبية من وصف المطر في الشعر الجاهلي، لأن المطر أهم ما أقلق الشاعر الجاهلي وأحزنه، ولأن المطر -في الصحراء الكنود العقيم- أغلى من الدر. وأنفع من العسجد، ولأن المطر أجمل ما في حياة العربي، فكان نبع إلهامه، وسر فنه ( ) " .
ونلاحظ أن المطر في هذه اللوحات الفنية غير ملتصق بغيره، بل إن غيره من الموضوعات جاءت رديفة له.
ويعرض علينا أوس بن حجر، شاعر تميم الكبير، مشهدا للسحاب، ونراه يصف لنا مطرا هطولا، بدأ ينهمر ليلا من عارض جلل السماء، والبرق يلمع من خلاله، كأنه الصبح المنير ( ) :
حقا لقد أجاد أوس وصف السحاب، وأعجب الأصمعي بهذا الوصف، فقال: لقد أحسن أوس في وصف السحاب ( ) .
قال أوس ( ) :
إنّي أرقْتُ ولم تأرق معي صاحي   يا مَنْ لبرق أبيت الليل أرقبه      دانٍ مُسفّ فويق الأرض هيدبه     كأن ريقه لما علا شطبا            هبّت جنوبٌ بأعلاه ومال به      فالتج أعلاه ثم ارتج أسفله          كأنما بين أعلاه وأسفله            ينزع جلد الحصى أجشُّ مبتركٌ    فأصبح الروض والقيعانُ ممرعةً    .         لمستكفّ بعيْد النّوم لوّاح           في عارض كمضيء الصبح لماح  يكاد يدفعه مَنْ قام بالرّاح           أقراب أبلق ينفي الخيل رماح      أعجاز مُزْن يسحّ الماءَ دلاح       وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح   ريط منشرة أو ضوء مصباح     كأنه فاحص أو لاعب داحي        من بين مرتفق منها ومنطاح        .
            
            
            
            
            
            
            
       فهو يتحدث عن إعجابه بمنظر المطر، وأنه قضى يتأمل السحاب، وهو يتجمع في السماء، والبرق يلمع في نواحيه، فيجعل الليل المظلم كالنهار المشرق، وكيف أن هذا السحاب كان يدنو حتى يكاد مَنْ قام أن يمسّه، ويدفعه براحته لقربه من الأرض … ويذكر أنه لما مر فوق جبل شطب في ديار بني تميم، كان البرق يلمع فيه … ولم تلبث ريح الجنوب أن هبت على أعالي هذا السحاب، فاضطربت أطرافه المثقلة بالماء، فأخذ المطر ينصبّ منها انصبابا، وكان الرعد يقصف في أعاليه، فتهتز أسافله. وتعجز عن حمل الماء، فينهمر منها المطر، وظل البرق يتلألأ في جوانبه، فكأنه ملاء بيض منشورة، أو مصابيح معلقة في السماء.
واستمر الماء ينهل من هذا السحاب ويسوق كل ما يعترضه على وجه الأرض، حتى غمر الأماكن المرتفعة والمنخفضة، فإذا من استتر منه في بيته كمن كان خارجه، فكلهم قد دهمه الماء، وإذا بعضه يتدفق في الرياض، وبعضه يستقر في القيعان، فتدب فيها الحياة، وتعشب، وتزهر.
       وقد برع شعراء نجد في وصف مشاهد الأمطار والسيول ( )، ومن أجود اللوحات التي رسموها تلك التي رسمها امرؤ القيس في قوله ( ) :
ديمة هطلاءُ فيها وَطَفُ       تخرج الودَّ إذا ما أشجذت     وترى الضَبّ خفيفا ماهرا     وترى الشجراء في ريقه      ساعة ثم انتحاها وابل         راح تمريه الصبا ثم انتحى    ثج حتى ضاق عن آذيه       قد غدا يحملني في أنفه        .          طَبقُ الأرض تحرى وتدر     وتواريه إذا ما تشتكر         ثانيا برثنه ما ينعفر          كرؤوس قُطّعتْ فيها الخمر    ساقط الأكناف واه منهمر      فيه شؤبوبُ جنوبٍ منفجر     عرض خيم فجفاف فيسر     لاحق الإطلين محبوكٌ ممر    .
            
            
            
          
       تلك صورة عاصفة ممطرة، بدأت بمطر غزير، سال في البطاح، وغمر الوديان، حتى غطى كثيرا من الأشياء، وجعل الحيوانات تولى فزعة هاربة، وارتفع إلى مسافة كبيرة لدرجة أن الأشجار لم يظهر منها إلا رؤوسها، وبعد فترة أعقبه وابل منهمر، جاءت به ريح عاصفة فانسابت منه فيضانات عارمة، وسيول جارفة، ملأت كل الجهات، وضاقت عنها جميع الأمكنة. وقد امتطى فرسه القوي، وأخذ يسير به في أول هذا المطر، ليستمتع بمنظره البديع.

مواضيع ذات صلة 

الــوصـــف في الشعر العربي
الوصف الشعر عن العرب
تعريف غرض الوصف
فن الوصف في الشعر العربي
غرض الوصف في الشعر العربي
الوصف في الشعر العربي
شعر الوصف في العصر الجاهلي
الوصف في الشعر العباسي
شعر الوصف والغزل
فن الوصف في الشعر الجاهلي



Previous Post Next Post