رواية الشعر الجاهلي وتدوينه


تمهيد :


       لم يكن العربيّ في العصر الجاهلي أُميّا ، يعيش في صحرائه المترامية الأطراف ، لا يعرف عن الحياة شيئا ، يرحل فيها طلبا للماء والعشب ، فإذا فقدهما مات في صحرائه ، فذهب مع الغابرين . إنّ التاريخ يذكر أن العرب كان لهم كيان مستقلّ ، فأنشأوا دولهم في أرضهم ، وتركوا في أطرافها آثاراً كبيرة ، تدلّ على عظم ذلك الكيان ، وتلك الحضارة الرائعة ، وحفظ لنا أسماء أمرائهم وملوكهم في اليمن ، وتدمر ، والحيرة ، وفي وسط الجزيرة .




       ولا يعقل الاّ تكون لهذه الدّول مواثيقها وعهودها ، وهي ذات صلة وثيقة مع الدول الأخرى ، كالأحباش ، والفرس ، والروم .




       وإلى جانب هذا نجد أسماء الكثيرين من الكهنة والأطباء والمترجمين ، وأسماء الأسواق الأدبية التي كانوا يقيمونها في مواضع مختلفة من تلك الجزيرة … كل ذلك يدل على حضارة إنسانية ، وتطور ملحوظ في حياة الناس ، ممّا يمكننا إزاءها أن نتصور إسهام معارفهم وعلومهم في تأصيل هذه ا لحضارة ، وإرساء قواعدها ، وتثبيت أسسها . ومن هنا نستطيع أن نحكم أن هذه الأمّة قد عرفت الكتابة ، وانتشرت في أنحاء جزيرتهم انتشاراً واسعا ، فجاء ذكر الكتابة والكتاب والصحيفة والمهارق والألواح في شعر كثير من شعرائهم ، وما ذلك الاّ أهم دليل من أدلة انتشارها ، وقال الدكتور عبد الحكيم بلبع ( ): " وانتشارها في الأوساط المتحضرة والمتبدية منها على السواء " .




 




معرفة الشعراء الجاهليين بالقراءة والكتابة :




والشعراء الجاهليون أرقى طبقات المجتمع عقلا ، وأوسعهم ثقافة ، ويدل استقراء الشعر الجاهلي على أن عددا كبيرا  منهم ، قد عرفها ومارسها ، فمن ذلك :




قول نهشل بن حرّي النهشلي ( ) :




       كأن منازلا بالفأو منها            مدادُ معلم يتلوه واحي




ونحن أمام عملية تعليمية متكاملة ، فقد ذكر الشاعر الصحيفة ، والمعلم الذي يتلو ما كتب فيها ، وفي البيت إشارة ضمنية إلى طلاب يستمعون إلى ما يقرأه ذلك المعلم .




وقولُ الأسود بن يعفر النهشلي ( ) :




       سطور يهوديين في مُهرقيهما            مجيدين من تيماء أو أهل مدين




فمعرفة الأسود بالكتابة دفعته إلى التمييز بين الكتابة الجيدة ، والكتابة الرديئة .




وقولُ عبيد بن عبد العزّى السلامي ( ) :




       رسوما كآيات الكتاب مبينةً       بها للحزين الصبّ مبكى وموقف




وقولُه أيضا ( ) :




       فلم يتركا إلا رسوما كأنها         أساطير وحي في قراطيس مقتري




وقولُ بشر بن عُلَيْق الطائي ( ) :




       أذاعتْ به الأرواح حتى كأنما            حسبتَ بقاياه كتابا مُنَمْنَما




وقولُ عبد الله بن سليم بن الحارث الأزدي ( ) :




       لمن الديار تلوح بالغمرْ           دُرستْ لمـرّ الريـح والقطرِ




       فبشطّ بسيانِ الرّياغِ كما           كَتَبَ الغلامُ الوَحْيَ في الصّخرِ




      




 




وقولُ الأخنس بن شهاب التغلبي ( ) :




       لابنة حِطّان بن عوف منازل             كما رقش العنوان في الرق كاتب




وقول الزبرقان بن بدر( ) :




       هم يهلكون ويبقى بعدما صنعوا          كأن آثارهم خطّت بأقلام




وقول المرقِّش ( ) :




       الدار قفر والرسوم كما            رقش في ظهر الأديم القلم




       وواضح مما تقدم أن ذكر الكتابة وأدواتها ورد في مقدمة القصائد الطللية ، وفي معرض التشبيه ، إلا أننا نذهب إلى ما ذهب إليه أحمد الحوفي " أن هذه التشبيهات لا تدل على معرفة الشاعر الجاهلي بالكتابة فحسب ، بل تدل على خبرته بها ، وممارسته لها ( ) " .




 




شواهد تدل على سعة انتشار الكتابة وكثرة القرّاء :




1- يألف الناس ، في أيامنا هذه ، أن يروا في الصباح ملصقات تعلّق على الجدران، أو كتابة شعارات معينة على الأسوار ، تنديدا بظاهرة سياسية معينة. وقد عرف الجاهليون هذا اللون من النشاط السياسي السرّي ، فمن ذلك ما ذكروه من أن الناس في مكة شاهدوا ذات صباح شعرا سياسيا مكتوبا على دار الندوة :




ألهى قُصيا عن المجد الأساطير          ورَشوَةٌ مثل ما ترشى السفاسير




وأكلها اللحم بحتا لا خليط لـه           وقولها رحلت  عيـر أتت عير




2- أسهمت الحيرة ، وهي كما يسميها بلاشير " العاصمة الثقافية ( ) " للساحل الشرقي ، بنشر الثقافة ، فقد بنت أم عمرو بن هند ديرا ، وكتبت في صدره : " بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الملكة بنت الأملاك ، وأم الملك عمرو بن المنذر ، أمة المسيح ، وأم عبده ، وبنت عبيده …




وروى ياقوت أن يحيى بن خالد البرمكي خرج مع الرشيد إلى الحيرة لمشاهدة آثار قبر النعمان ، فطالعا كتابة على أحد جدران الدير ( ) :




       إن بني المنذر عام انقضوا              بحيث شاد البيعة الراهب




       شرُّ البقايا من بقي بعدهـم       قـلّ وذلّ جـده خائـب




       وواضح أن ما كتبته تلك السيدة يشبه في أيامنا هذه " حجارة التاريخ " التي تثبت على أبرز مكان في العمارات ، ويفترض المرء أنها لم تكن لتقدم على الكتابة على صدر ديرها إلا لعلمها بأن غالبية من يمرون بهذا المكان ، ان لم يكن جميعهم، يقرؤون .




 




3- كثرة المعلمين في العصر الجاهلي :




       على الرغم من أن ما أشارت المصادر العربية إليه في معرفة العرب التعلم وطريقته قليل إلا أن الاشارات القليلة قد تلقي الضوء على الطريق التي كانوا عليها في نشره ، فالمعلم كان معروفا عندهم ، وقد ذكر ابن حبيب ( ) من أشراف المعلمين في ذلك العصر :




بشر بن عبد الملك السّكوني ، وسفيان بن أمية بن عبد شمس ، وأبا قيس بن عبد مناف ، وغيلان بن سلمة الثقفي ، وعمرو بن زرارة ، وكان يسمى الكاتب .




       وهذا يدل على أنهم علّموا أبناءهم ، ولكن الطريقة كانت غير مفصّلة ، بيد أن هناك إشاراتٍ ذكرتها المصادر تدل على أن عدداً من الآباء ،أو غيرهم كان يعلّم بالطريقة الخاصة . فمن ذلك أن عائشة بنت سعد تعلّمت الكتابة عن أبيها ، وروي أن حماد بن زيد علّمته أمّه الكتابة في بيت أبيه ، فكان حماد أول من كتب في بني أيوب ، وطلب حتى صار كاتب الملك النعمان الأكبر ، وعلّم ابنه زيدا ( ) . وعبد الله بن جدعان علم حرب بن أمية ، وبشر بن عبد الملك علم أبا سفيان ( ) .




       هذه طريقة عرفت في العصر الجاهلي ، وهي طريقة التعليم الخاص ، ويبدو أنها كانت الطريقة المألوفة ، ولكن المصادر تشير إلى وجود أماكن للتعليم سُميت " الكُتّاب " فقد جاء في ترجمة عدي بن زيد أن أباه طرحه في الكُتّاب حتى إذا حذق أرسله المرزبانُ مع ابنه شاهان مرد إلى كُتّاب الفارسية ، فكان يختلف مع ابنه ، ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية ( ) . وذكر عن خالد بن الوليد أنه عندما سار مرّ بعين تمر ، ووجد في كنيسه صبيانا يتعلمون الكتابة في قرية من قراها ، يقال لها : النقيرة ، وفيهم حمران مولى عثمان بن عفان .


أدلة صريحة على تقييد الشعر الجاهلي :




لقد تدفق الشعر الجاهلي – من عصر إنشاده إلى عصر تدوينه على يد طائفة كبيرة من الرواة العلماء – عبر قناتين :




القناة الأولى – التدوين :




       وهناك أدلة صريحة مباشرة على أن بعضا من الشعر الجاهلي كان مدوّنا ، فمن ذلك :




1- أن عمرا أخا حسان بن تبان عندما أراد قتل حسان ، أشار أهل اليمن بقتله إلا ذا رعين فإنه نهاه عن ذلك ، فعمد إلى صحيفة فكتب فيها ( ) :




       ألا مَنْ يشتري سهراً بنوم        سعيدٌ من يبيت قرير عَيْنِ




       وأما حمير غدرت وخانت         فمعذرة الإله لذي رعيـن




2- عثر على جثة ذي جدن ملك حمير في صنعاء ، ووُجد على رأسه لوح مسطور ، عليه شعر بلغة عربية فصحى ، والشعر هو ( ) :




       مـا بـال أهلك يا رباب   خـزرا كـأنهم غضاب




3- وتقف قصيدة لقيط بن يعمر الإيادي العينية على رأس المجموعات الشعرية التي دونت ، عصرئذ ، فقد أرسلها إلى قومه ينذرهم بأن كسرى عازم على غزوهم  وقد كتب لتلك القصيدة مقدمة شعرية من أربعة أبيات ، وهي ( ) :




وقد أورد قصيدته العينية ،بعد هذه المقدمة ، وصف فيها حال قومه وضعفهم وتخاذلهم ، وبين لهم ما يجب أن يتحلى به من يسندون إليه قيادتهم ، ومطلع العينية( ) :




       يا دار مية من محتلها الجرعا           هاجت لي الهمَّ والأحزان والوجعا




وختمها بقوله :




       هذا كتابي إليكم والنـذير لكم             لـمن رأى رايه منكم ومن سمعا




4- أسلم بجير بن زهير بن أبي سلمى ،وحينما علم أخوه كعب بذلك ، كتب إليه ( )




ألا أبلغا عني بجيرا رسالة     سقيت بكأس عند آل محمد    فخالفت أسباب الهوى وتبعته        .          فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا فأنهلك المأمون منها وعلّكا         على أي شيء ويب غيرك دلكّا    .          




فلما أتى الكتاب بجيرا كتب إلى كعب يقول ( ) :




من مبلغ كعبا فهل لك في التي       إلى الله –لا العزّى ولا اللات-وحده  .       تلوم عليها باطلا وهي أحزم     فتنجو إذا كان النجاء وتسلم         .




5- بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده ، فدعا كاتبا من العرب ، فكتب إليه ( )




ألا أبلغ النعمان عني رسالةً     متى تلقني في تغلب بنة وائل     .        فمدحك حوليٌّ وذمك قارح      وأشياعها ترقى إليك المسالح      .




وهناك شواهد كثيرة ، أثبتها الدكتور ناصر الدين الأسد ، لا داعي لذكرها ( ) .




 




 




 مواضيع ذات صلة




 رواية الشعر الجاهلي وتدوينه




الرواية والتدوين في العصر الجاهلي




الشعر الجاهلي بين الرواية والتدوين




من هم رواة الشعر الجاهلي




اشهر رواة الشعر الجاهلي




الكتابه والتدوين في العصر الجاهلي




مصادر الشعر الجاهلي




درس تدوين الشعر الجاهلي للصف الثاني عشر




اهم رواة الشعر الجاهلي


Previous Post Next Post