الشعر العربي في الصعر الجاهلي
تحديد العصر الجاهليّ وأوليّة الشّعر

إنّ تحديد عصر أدبي يعتمد أساساً على مجموع الخصائص الفنية المشتركة بصورة عامة في فترة زمنية محددة، وفي بيئة يساعد على انتشار هذه الخصائص فيها علاقاتٌ اجتماعيةٌ ، لها أهميتها في توحيد سماتها العامة. والعصر الأدبيّ يستمدّ باستمرار تلك الخصائص حيّة شائعة في البيئة ، وينتهي أو يتغير بظهور مؤثرات جديدة تنقلها من عصر أدبي إلى عصرأدبي آخر( ).
وحين نتحدث عن القصيدة الجاهليّة ينبغي لنا أن نشير إلى أننا نتحدث عن القصيدة المكتملة التي أرسى مهلهل وامرؤ القيس تقاليدها الفنية ، ثم أورثوها أجيال الشعراء بعدهما، أما النماذج التي سبقت هذين الشاعرين، فان القليل النادر الذي تنقله مصنفات القدامى منها، لا يشير إلى نضج واستواء يتيحان للدراسة فرصة الفوز بما يعين على تحديد أبعاد فكرية وفنية واضحة ( )، وذلك ما يعزز لدينا قيمة الحقائق التي قررها القدامى قبلنا، وضمّنوها نتائج بحثهم في هذه المسألة الدقيقة ، كقول ابن سلاّم: " لم يكن لأوائل العرب من الشعر الاّ الأبيات يقولها الرجل في حادثة ، وإنما قُصّدت القصائد، وطُوّل الشعر ، على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف( )" . وقول الجاحظ:" أما الشعر ، فحديث الميلاد صغير السنّ، أول مَنْ نهج سبيلَهُ، وسهّل الطريقَ إليه امرؤ القيس بن حُجْر ومهلهل بن ربيعة … فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له – إلى أن جاء الإسلام – خمسين ومئة عام، وإذا استظهرنا بغاية الإستظهار ، فمائتي عام( )، وقول ابن رشيق الذي جمع فيه بين القولين السابقين: " زعم الرواة أن الشعر كلّه إنّما كان رجزاً وقطعاً ، وأنه انما قُصّد على عهد عبد المطلب بن عبد مناف، وكان أول مَنْ قصّده مهلهل وامرؤ القيس ، وبينهما وبينَ الإسلام مئة ونيّف وخمسون سنة".( )

اعتراض المحدثين
وقد أثار الباحثون المعاصرون جملة اعتراضات على هذا ، لأن الشعر الجاهليّ الذي في حوزتنا بعضه الآن بلغ مرحلة ناضجة مكتملة من الوزن والتعبير والتركيب والبلاغة والأداء. يقول جويدي : " ان قصائد القرن السادس الميلادي جديرة بالإعجاب، وتنبئ بأنها ثمرة صناعة طويلة . فان ما فيها من كثرة القواعد والأصول في لغتها، ونحوها ، وتراكيبها، وأوزانها ، يجعل الباحث يؤمن بأنه لم تستو لها تلك الصورةُ الاّ بعد جهود عنيفة، بذلها الشعراء في صناعتها . وإن في موسيقا الشعر ما يفسر بعض هذه الجهود…( )".
ويرى حسين مروّة أنه لا يجوز لنا أن نظُن أن البنيةَ اللغويةَ، والصفاتِ الفينولوجيةَ، والبنيةَ الأسلوبيةَ للغة الشعر والنثر الجاهليّين في القرنين الخامس والسادس للميلاد ولدت كلّها من البداية في هذين القرنين: لقد ظهر الإسلام في شبه الجزيرة فوجد اللغة المعبرة عن دعوته بمبادئها، وتفسيراتها للعالم، وتشريعاتها، حاضرة وقادرة على أداء كل ذلك. سواء بدلالاتها السابقة المباشرة، أم بالدلالات الجديدة غير المباشرة ، مما حملت من مبادئ وعقائد وتشريعات : أي انه وجد أداته اللغوية والبيانية الناضجة ، لا للتعبير عن الظروف التاريخية الناضجة لظهوره فحسب، بل للتعبير عن احتمالات الظروف التاريخية الآتية بعد ظهوره كذلك" ( ).
فاستواء الشكل الفني، والصنعة الدقيقة لهذا الشعر يثبتان أن هناك مراحل أكثر تقدماً سبقت عصر امرئ القيس ومهلهل ، وهي مراحل نما فيها الشعر، وتطـور مـن صورتـه الأولى (الرجز او الحداء) حتى وصل إلى هذا المستوى المكتمل عند أقدم شاعرين، وصل إلينا شعرهما. يقول كارل نالينو: "إن مَنْ يسرّح أبصاره في رياض الشعر الجاهليّ لا يجد في شذراته التي نجت من أيدي الضياع ما يدلّ على كونه فناً صغير السنّ، فان جميع ما نقل الينا منه يظهر لنا في غاية الاتقان وزناً ، وتقفية، وفي نهاية التفننّ… وليس من الممكن مثل هذا الكمال في صناعة حديثة ، لأن من المعلوم أن كل مبتدئ لشيء لم يسبق إليه، وكل مبتدع لأمر لم يتقدم فيه عليه، لا بد أن يكون قليلاً ثم يكثر، وصغيراً ثم يكبر… وخلاصة الأمر أن العلماء من العرب الذين قالوا مدة مئة وخمسين سنة تقريباً للشعر الجاهليّ يبعدون عن الصواب، إذا فرضنا أنهم أرادوا بذلك ما وصل إلينا من الأشعار القديمة ".( )
 أما د. عمر فروّخ فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، فرأى أن الشعر الجاهليّ ليس وليد مئتي سنة قبل الهجرة ، ولا ألف سنة ايضاً ، بل انه قديم جداً . ويرى أن الشعر الذي وصل الينا " من الجاهليّة يمثل دوراً راقياً ، لا يمكن أن يكون قد بلغ إليه في أقلّ من ألف سنة على الأقل"( ).
وراح هؤلاء الباحثون المعاصرون وغيرهم يبحثون عن أصول الشعر في السّجع ، أو الحداء ، أو الغناء( )، والرجز( )، ونحن لا نريد أن نناقش هذه الاعتراضات، ولكن لنا أن نطمئن إلى أن العلماء الذين قرروا هذه الحقيقة أقرب الباحثين إلى العصر الجاهليّ ، فهم أدرى بما يتحدثون عنه، وأنهم احتاطوا لأنفسهم، حين توخّوْا الدقة العلمية ، فقرروا أنهم يتحدثون عن أولية القصيدة ، لا أولية الشعر العربي . فضلاً عن أن العلماء الذين عاصروهم حاولوا ان يفوزوا بما يغير من الحقيقة ، أو يعدّلها، فانتهى تنقيرهم إلى أسماء شعراء أسبقَ من مهلهل وامرئ القيس ، لم تحتفظ ذاكرة الرواة الاّ بأبيات لكل منهم ، قالها في حادثة ، فكانت نتيجة ذلك كله دعم موقف ابن سلام ، ومَنْ تابعه  من العلماء .

فساد التقسيم السّياسي للأدب :
إن تقسيم عصور الأدب بحسب التاريخ السياسي فيه افتئات على تطور الشعر ، وعلى طبيعة هذا التطور، لأنه لا يرتبط بالأحداث السياسية ارتباطاً كاملاً. ويجب التنبيه إلى أن هذه الحدود الزمانية التي وضعها مؤرخو الأدب " ليست الاّ حدوداً صناعية اصطلاحية أثبتوها على وجه التقريب ، فان عصراً ما من تاريخ الأدب لا يحصر في مواقيت معينة بذلك … لأن التغيّر في الأدب ، والانتقال من حال إلى حال لا يحصل الاّ بالتدريج البطيء حتى لا يُشعَر – في الأغلب – بالفروق بين الدرجة القادمة، والدرجة التالية لها " ( ).
وأول مَنْ خرج على هذا التقسيم السياسي المستشرق "جب" ثم تبعه بلاشير الذي يقول : إننا لا نحتاج إلى إمعان النظر، والتفكير ، لكي ندرك أن مثل هذا التقسيم يقوم على خبط عشواء ،لأنه لا يستوفي الاعتباراتِ الأدبيةَ … فالرسالة النبوية ، مثلاً ، أحدثت انقلاباً عظيماً في حياة العرب السياسية ، والدينية ، والاجتماعية ، ولكنها لم تدفع الشعراء المخضرمين إلى الخروج على مذاهبهم التقليدية في الشعر "( ).

توقّف التجربة الشّعرية الجاهليّة :
وعلى الرّغم من أَننا نستطيع أن نقرّر دون تردد أنّ بزوغ نور الإسلام هو النهاية الحاسمة للعصر الجاهليّ ، يبدو أن علينا ان نتريث قبل الحكم بانتهاء النمط الشعري الجاهليّ بمجرد ظهور الإسلام. والعصر الجاهليّ بمعناه الأدبي " لم ينتهِ بمجرد ظهور الإسلام ، بل استمرّت التَقاليدُ الفنيّةُ الجاهليةُ بعد ظهورِ الإسلامِ أجيالاً كثيرةً…"( ) ذلك ان ظهور الإسلام تحول جذري في حياة العرب ، ولكن التحولات الجذرية التي تمتلك القدرة على إنهاء نظام ما بشكل حاسم تستنـزف في العادة وقتاً أطول لحسم ما انبثق عن ذلك النظام من توجهات فكرية واجتماعية ، كما أن التحول نفسه لا يمكن أن ينبثق منقطع الجذور عن المرحلة التي يسعى لتغييرها ، ولهذا فان من السذاجة المفرطة أن نتصور بأن كلّ ما جاء به الإسلام وجد طريقة إلى عمق الحياة العربية ، حتى غدا جزءاً من شخصية الأمة بمجرد ظهوره وانتشاره .
وحقيقة الأمر أن التطور الأدبي لا يمكن أن يكون ظاهره فجائية يقترن بتغير نوع الحكم، وبمجيء دولة ، وذهاب أخرى( )، ولم يكن من السهل على أولئك الشعراء أن ينتقلوا من طور إلى طور بين ليلة وضحاها . وأن يُبدّلوا أفكاراً ومبادئ بأفكار ومبادئ أخرى ، كما يخلع الانسان ثوباً قديماً بالياً ليلبس بدلاً منه ثوباً جديداً قشيباً ( ).
تُرى مَنْ هو الانسان الفنان الذي نستطيع اعتباره خاتمة الشعراء الجاهليّين؟ وإلى متى استمرت التجربة الشعرية الجاهليّة في النمو والتدفق ؟ وكيف حدث التحوّل ؟
أُطلق على الفترة الزمنية التي سبقت الإسلام بمئتي عام العصرُ الجاهليُّ، ونعلم أن الانسان الذي عاش في هذا الإطار الزمانيّ كان يتمتع بخصائصَ معينة، يتقارب فيها ابن الجزيرة ، وابن العراق، وابن الشام ، وهي البيئات التي انتشر فيها الشّعر ، او هي البيئات التي كانت مسرحاً لتجربتنا الشعرية الناضجة ، ومن هذه الخصائص اعتداد الانسان بذاته ، وذوده عن شرفه ، وحبه للضيف، وحبه للمرأة . وكان مسرفاً في حُبّه، ومسرفاً في بغضه . ونلاحظ أن هذه الصّفاتِ ، وغيرَها ، قد انعكست في أشعارهم ، حتى ليستطيع قارئ هذا الشعر ان يرسم صورة دقيقة واضحة لذلك الانسان ، من خلال أثره الأدبي الذي كثيراً ما اعتزّ به ، ومنحه الكثير من ذاته .
فقارئ شعر الصّعاليك لا تغيب عن إدراكه صورة الصعلوك الذي اطلع على التوزيع السيء للثروة ، فثار وتمرد . وقارئ شعر طرفة ينهض أمام بصره ذلك الانسانُ المتمردُ، الذي ادرك عبثية الحياة فعكفَ على شرب الخمر، ومعاقرة اللذائذ بين ذراعي المرأة . وقارئ شعر عنترة يلمس روح الانسان الشفافة ، وعاطفته النبيلة ، وعفته المتعالية ، وحبه الذي لا حدود له ، وشجاعته التي تفوق الأساطير. وقارئ شعر النابغة، وزهير، والأعشى، ولبيد، يرى بوضوح مجموعة من القيم حرص الشاعر العربي على تنميتها وصقلها .
فهؤلاء وغيرهم خلّفوا لنا قيماً، كانت برأيهم الانسان الفاضل في العالم، ولو قمنا بتلخيصها، أو بإيجاد مفردات لها لكانت : الكرم، والتسامح، والبحث عن اللذة، والأخذ بالثأر، والعصبة القبلية ، وحبّ القتال، وتفضيل الموت قتلاً ، وعدم الإيمان بالبعث…
وكل هذه الخصائص استخلصناها من الشعر نفسه ، وهنا نسأل : أين يقف أو ينتهي الانسان ، الشاعر الذي ألحَّ على إبراز هذه الخصائص وتنميتها ؟ ونرى أن الجواب يكون عندما تتوقف في شعره أو تمّحى لتحلّ محلّها قيمٌ جديدة ، أو بمعنى أخر ، عندما يعثر على فلسفة خاصة في الحياة، فتتحول مفاهيمه بشكل جذري . أما اذا استمر بتنميتها وتهذيبها وابرازها كمثل اعلى للانسان المتكامل ، فليس ثمّة ما يدفعنا إلى الاعتقاد أنه توقّف.
ومَنْ يتتبع أخبار الشعراء في هذه الحقبة الأولى من الإسلام، وهي أزهى الفترات الدينية على الإطلاق ، يخرج بحكم، لا تختلف عليه الرّوايات، وهو أن الشعراء في مجموعهم كانوا هم الاستثناءَ أو الشّذوذَ في الوضع المثالي الذي بلغه هذا الجيل المعاصر للرسول – صلى الله عليه وسلم – عقيدة وسلوكاً ( ).
وتُجمعُ الرّوايات على أن بعض هؤلاء الشعراء كان متّهماً في عقيدته نفسها، كأبي الطمّحان القينيّ الذي تصفه الرّوايات بأنه كان خبيث الدين في الجاهليّة والإسلام ( ). والحطيئة الذي تصفه الرّوايات بأنه رقيق الإسلام لئيم الطبع وقد أنكر الزّكاة . وأنكر خلافه ابي بكر( ) وعتبة بن مرداس والمشهور بابن فَسْوَة يصفه ابن عباس بالكفر والعصيان ، والرّوايات تصفه بأنه خبيث اللسان في جاهليته واسلامه.( ) والمغيرة بن الأسود الأسدي تصفة الرّوايات بأنه كان ماجناً فاسقاً فاجراً مُدْمنَ خمر ، وكان يسخر من معالم الإسلام كسخريته من الصلاة ، حين قيل له : اتّقِ الله وَصَلِّ ، فقال بعد أن ضيقوا عليه : إما أن اصلي ولا أتطهر ، أو أتطهر ولا أصليّ، ثم صلىّ بغير وضوء( ). ومنهم أيضاً أبو محجن الثقفي الذي اشتهر عنه وَلَعهُ الشديد بالخمر ، وروي عنه قوله :
    إذا متُّ فادفنّي إلى أصل كَرْمةٍ    ترويّ عظامي بعد موتي عروقُها

وتذكر الرّوايات انه قد تعدى نَهمُهُ في الخمر إلى ادعاء أنها حلال ، ملتمساً في ذلك بعض التأويل ، مع أن مثل هذا يعدّ كفراً ، لذا أفتى عليُّ بن ُ أبي طالب بقتله هو وجماعته التي ادّعت حلّها ، ثم تراجعوا، وقالوا بتحريمها ، فأقام عليهم الحدّ. فلما جُلد أبو محجن ، قال شعراً يؤكد إصراره على الخمر ، من مثل قوله :
        وإنيّ لذو صبْر وقد ماتَ إخوتي    ولستُ على الصهباءِ يوما بصابرِ
ومن المتهمين في عقيدتهم شبيلُ بنُ ورقاءَ الذي يوصف إسلامه بأنه إسلام سوء ، وكان لا يصوم رمضان ، وحين أنكرت ابنته ذلك منه ، قال ( ) :

          تأمرني بالصّوم لا درَّ درُّها           وفي القبر صومٌ لا أباك طويلُ

ومنهم النّجاشي الحارثي الشاعر ، الذي تصفه الرّوايات بأنه فاسق رقيق الإسلام ، وكان يفطر رمضان علانية . حتى ضربه الامام علي بن ابي طالب ثمانين سوطاً ، وزاده عشرين، فقال له النجاشي : ما هذه العلاوة يا أبا الحسن ؟ فقال : هذه لجرأتك على الله في رمضان .( )
ومنهم حُرْيث بن زيد الخيل الطّائي الذي قتل معلّم القرآن، الذي أرسله عمر بن الخطاب، وقتل عدداً ، من أصحابه ، ثم هجا قريشاً، لأن هذا المعلّم ، واسمه أبو سفيان ، قتل رجلاً طائياً من قرابة زيد الخيل .( )
وأميّة بن الأسكر تغلبه العصبية على الدين ، فيهجو رجلاً ، لمجرد أنه أعان النبيّ والمسلمين على قومه هوازن في سريّة بني المصطلق .( )
ومنهم أيضاً ، عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، الذي قدم على النبي – عليه السلام- وآمن به عند لقائه، نجده ما إن يعلم بوفاة النبيّ حتى يرتد عن الإسلام( ) ، وقال في ذلك شعراً قبيحاً.
وأبو بكر بن الأسود الذي أوجعه قتلُ زعماء قريش في بدر، فقال بعد ردّته عن الإسلام شعراً يرثيهم ،ويتفجع على قتلهم ، مُنكراً ما في الإسلام من حديث عن البعث ، فمن ذلك قوله( ) :

           تُحيّـا بالسّلامـةِ أُمُّ  بكرٍ     وهل لي بعدَ قومي من سلامِ
           فماذا في بالقليب قليبِ بدرٍ     من القيناتِ والشـرّبِ الكرامِ
           يخبرنا الرّسولُ بأنْ سنحيا     وكيف حيـاة أصـداءٍ  وهامِ

أما شعراء البادية فكانوا أقل الناس تشبثاً بالدين، وكانوا أسرع الناس ارتداداً عن الإسلام، لذا خصّهم القرآن الكريم بأكثر من وصف {الاعرابُ أشدُّ كفراً ونفاقاً}( ) ، وكقوله تعالى : {قالت الأعراب آمناً قلْ لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم}( ) وحكمُ الله تعالى أكثر انطباقاً على شعراء البادية ، لأنهم أضعف الناس تهيؤا للايمان العميق الثابت . وأخبار هؤلاء الشعراء تدلّ على أن نفسياتهم لم تنفعل بالدين من اعماقها ، فأخذوا في أشعارهم يحنون إلى الجاهليّة، فمن ذلك قولُ أبي خّراش الهذلي، الذي كان صعلوكاً فاتكا ثمّ جاء الإسلام ، وأسلم  ولم يَرَ في قيوده التشريعية الاّ قيوداً وسلاسلَ ، يقول ( ) :
           فلـيس كعهد الدّارِ يا أمّ مالك  ولكـنْ أحاطتْ بالرقابِ السّلاسلُ
           وعادَ الفتى كالكهل ليس بقائلٍ  سوى الحقّ شيئاً فاستراح العواذلُ

ويروى عن أبي خراش أيضاً ، أنه رثى دُبيَّةَ السلميَّ سادنَ العزّى، الذي قتله خالد بن الوليد ، بعد أن هدم العزّى، صنمَ غطفان ( ) .
وتميم بن أُبيّ بن مُقبل أسلم ، وعاش في الإسلام طويلاً ، كان في الإسلام يبكي أهل جاهليته . فقيل له : تبكي أهل الجاهليّة ، وأنت مسلم ، فقال ( ) :
         وما لـيَ لا أبكـي الدّيارَ وأهلَها وقد زارها زوّارُ عكّ وحميرا
         وجاء قطا الأجباب من كلّ جانبٍ فـوقّع فـي أعطاننا ثمّ طيّرا
وهو يذكر اهل الجاهليّة ، ويكنى عن الإسلام وما أحدثه ، ويمثل المسلمين وعمالهم وجيوشهم التي تجوب البلاد بقطا الأجباب.
ويدل شعر ابن مقبل على انه كان يعيش بروحه وفكره في الجاهليّة ، وما زال في الإسلام يذكر أيامها ، ويحنّ اليها ، ويشعر بالوحدة ، والوحشة في المجتمع الجديد. وشعره ، الذي قاله في الإسلام ، يمّجد الحياة الجاهليّة ويتلهف عليها .
أمّا الشمّاخ بن ضرار الذبياني فمن يقرأ شعره فلا يجد فيه سمة من سمات الدين الجديد، وسماحته، وتعاليمه النيّرة. بل يقرأ شعراً جاهلي اللفظ والمعنى والغرض … و"كأنه لم يسمع القرآن الكريم " ( ).
وإذا ما يَمّمنا وجهنا شطر حسان بن ثابت ، الذي قضى في الإسلام - كما تقول الرّوايات – ستين عاماً ، وقضى مثلها في الجاهليّة ، الفيناه ينطلق في فخره من القيم الجاهليّة،  ففي همزيته تغلب عليه العصبية للقحطانية ، اذ يقول :
لنا في كل يوم من مَعَد      سبابٌ أو قتال أو هجاء

وهو في هذا يركّز هجومه على العدنانيين ، وكان عليه أن يشنّ هجومه على الكافرين، سواء أكانوا قحطانيين أم عدنانيين .
وفي القصيدة نفسها يتعصب للانصار دون المهاجرين ، ولم يستطع أن ينخلع عن موروثه الجاهليّ ، فيقول :
وقال الله قد سيّرت جنداً    هم الأنصارُ عرضتُها اللقّاءُ

فقد تجاهل دور المهاجرين ، وحصر انتصارات المسلمين بالانصار دون سواهم . وأما في باب الفخر بقومه فلم يستطع الإسلام أن يغير من طبيعته، ومعنى هذا أن شعراء الإسلام قد عجزوا عن أن يبتدعوا لأنفسهم نوعاً جديداً من الشعر، يستمدون من الدين روحه ، ومن كتابه لغته( ).
واذا ما نظرتَ في لامية كعب :
      بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ متيم إثرها لم يُفْدَ مكبولُ

التي أنشدها بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ألفيت كعباً قادماً من الجاهليّة، يحمل على منكبيه عباءتها ، سواء أكان ذلك في لغة القصيدة، أم في بنائها الفني ، أم في صورها الشعرية ،فبدت صورة الرسول – عليه السلام – في القصيدة مغايرةً تمام المغايرة للصورة المشرقة التي بدت في القرآن الكريم ، ولم ير كعبٌ في الرسول إلاّ صورة شيخ من شيوخ القبائل ، او ملك من ملوك الغساسنة .
وقد حاول في بعض الأبيات أن يقدم بعض المعاني المستمدة من الإسلام، فظهر فيها الجهدُ العقليُّ ، وانعدامُ الصورة الفنية ، وضعفُ التدفّق الوجداني، ولم يسعْهُ هذا طويلاً ، فقد عاد بعد ذلك، ليمدح الرسول الكريم وصحبه المهاجرين برؤية جاهلية ، لم تتحرر من الرواسب الجاهليّة والقبلية.
ولو قرأتَ يائية مالك بن الريب ، التي رثى فيها نفسه ، ونظمت بعد نزول القرآن بعشرات السنين، لما وجدت فيها أثراً للاسلام، ولا يرى القارئ فيها أكثر من البناء الشعري الجاهليّ، بكل عباراته، وموسيقاه، وصوره ، وتشبيهاته.
وإذا ما مَدَدْنا أبصارنا إلى الشعر الأموي نفسه ، ألفينا فخرهم، وهجاءهم ، ورثاءهم، وكثيراً من موضوعات شعرهم تغلغلت فيها " الروح القبلية الموروثة عن العصر الجاهليّ".( )
ولما كانت القصيدة هي المنفذ الابداعي المعبر عن آثار تفاعلات الحياة، صحّ لدينا التوقف عن الربط العنيف بين ظهور الإسلام، وانتهاء النمط الشعري الجاهليّ ، وتلك مسألة تنبه لها الباحثون، وذهبوا مذاهب شتى في رصدها ، وتقرير مواقفَ معينة منها ، فقد ذهب محمد النويهي إلى أن التقاليد الفنية الجاهليّة سادتْ قسماً كبيراً من الشعر العربي بعد ظهور الإسلام أجيالاً كثيرة ( )، وذهب بطرس البستاني إلى أن شعر المخضرمين جاهلي ( ) ، وذهب بلاشير إلى أن أثر الإسلام لم يظهر الا بعد عشرين عاماً من وفاة الرسول – عليه السلام( )- أي بعد سنة 50هـ. وامتد خالد محيي الدين بالعصر الجاهليّ الأدبي إلى ما بعد ظهور الاسلام بمئة عام.( ) ورأى أن روح الإسلام لم تَسُدْ إلا بعد ظهور العباسيين ( ).
ويبدو لنا أن انقراض جيل الشعراء المخضرمين ، الذين وُلدوا وقالوا الشعر قبل الإسلام، قد يمثل بداية النهاية لتراجع النفَس الشعري الجاهليّ .


 مواضيع ذات صلة
الشعر العربي في العصر الجاهلي
خصائص الشعر في العصر الجاهلي
الشعر في العصر الجاهلي
بحث عن الشعر الجاهلي مع المراجع
الادب في العصر الجاهلي
الشعر الغزلي في العصر الجاهلي
بحث عن العصر الجاهلي
ملخص الادب في العصر الجاهلي
الادب في العصر الجاهلي
أهمية الشعر في العصر الجاهلي
أدب جاهلي
أنواع النثر الفني العربي في العصر الجاهلي


Previous Post Next Post