حال العرب
العلاقات بين القبائل عند العرب وقت الجاهلية
الأحلاف  بين القبائلفي العصر الجاهلي
شاعت في المجتمع الجاهلي أنواع متعددة من الأحلاف القبلية : منها الحلف بين قبيلتين متجاورتين أحداهما أقوى من الأخرى ، كالتحالف الذي كان بين الأوس واليهود ضد الخزرج عندما تغلّب الخزرج على الأوس في يوم بُعاث ( ). ومنها حلف يعقد بين قبيلتين متساويتين في الحقوق والواجبات ، كحلف عبس وضبّة ، الذي عقد بينهما ، عندما كانت ضبّة تريد نصيرا لها في حربها ضد تميم ( ). ومنها أحلاف دائمة كحلف المطيبيّن من قريش ، فقد دفعت الضرورة القبائل الحجازية العربية إلي تكوين أحلاف للمحافظة على الأمن والدفاع عن مصالحها المشتركة( ). ومنها أحلاف بين بطون القبيلة الواحدة ، كالأحلاف التي كانت بين كثير من بطون تميم ( )، ومنها حلف بني نهشل وبني يربوع ( )، ويدل هذا الحلف على مدى الوعي القومي الذي وصل إليه هذان البطنان التميميان ، وامتدحه علقمة الفحل ( ) .
ومنها أحلاف دينية ، كحلف "الحُمْس ( ) "الذي عقد بين كنانة، وقريش ، وخزاعة ، وطوائف من بني عامر بن صعصعة .
ومنها أحلاف كانت الغاية منها دفع الظلم والشر ، وخير ما يمثل هذا النوع من الأحلاف " حلف الفضول( ) " فقد وجدت قريش أن قوة القانون وحدها لا تكفي لتحقيق هذا الغرض ، بل لا بد من حصانة خلقيةٍ تسود المجتمعَ لحماية الأفراد من العدوان .ولا بدّ أن يستشعر القرشيون أن عليهم واجبا أخلاقيا ، يُلخّص في دفع الظلم ، والأخذ بيد الضعيف والمظلوم .
وفي دار عبد الله بن جُدعان اجتمعتْ طوائفُ من قريش ، تنتظم بني هاشم  وأسد ، وزهرة ، وتْيم ، وتعاقدوا على ألا يظلم بمكة غريب ، ولا قريب ، ولا حرّ ولا عبد ، إلا كانوا معه ، حتى يأخذوا له بحقّه ، ويؤدوا إليه مظلمته من أنفسهم ، ومن غيرهم . وقد حضر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا الحلف وقال " لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار ابن  جُدعانَ ، ما أحب أن لي به حُمرَ النّعَم ، ولو دُعيتُ به في الإسلام ، لأجبت ".
وكان الدافع لإنشاء هذا الحلف أن رجلاً من بني زبيد قدم مكة معتمراً في الجاهلية ، ومعه تجارة له ، فاشتراها منه رجل من بني سهم ، ثم ماطله في الدفع ، فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه ، فأغلظوا عليه فعرف أن لا سبيل إلى ماله ، فطوّف في قبائل قريش يستعين بهم ، فتخاذلت القبائل عنه ، فلما رأى ذلك اشرف على أبي قُبَيْس ( جبل ) حين أخذت قريش مجالسها في المسجد ، ثم قال ( ):
يا آل فهر لمظلوم بضاعتُه  ببطن مكة نائي الدار والنفر

وفيما بعد ظهرت آثار هذا الحلف الإيجابية ، فقد جاء رجل من قبيلة خثعم إلى مكة ، وبصحبته ابنة جميلة ، يقال لها القتول ، فعلقها رجل يقال له:نُبيْه بـن الحجاج، وغلب أباها منها ، فأتى أبوها حلف الفضول ، فمنعوها منه ، وصانوا عرضه ، فقال نُبيْه ( ):
              لولا الفضولُ وحلْفُها والخوفُ من عدوانها
              لدنـوت ُ من أبياتها ولطفتُ  حول خبائها
              وشربتُ فضلة ريقها ولنمـتُ في أحشائها

وفي هذا الحلف العظيم، الذي يعدّ قوة لها خطرها في سبيل إشاعة الأمن الداخلي، يقول الزبير بن عبد المطلب ( ):
         حلفتُ لنعقدنْ حلفـا عليهم       وإنْ كنـّا  جميعاً أهل دارِ
         نسميه الفصـولَ إذا عقدنا       يعزّ به الغريبُ لدى الجوارِ
         ويعلم مَنْ حوالي البيتِ أنّا أبُاةُ الضيْـمِ نهجر كلّ عارِ

وكانت قبائل العرب إذ أرادوا عقد حلف أوقدوا ناراََ، وتحالفوا عندها( ) . وربما طرحوا في النار الملح ، أو الطيب ، أو غير ذلك . وكانت لهم عبارات مألوفة يرددونها عند التحالف ، كقولهم : الدّم ، الدّم ، الهَدَم ، الهَدَم ، لا يزيده طلوع الشمس إلاّ شداْ ، وطول الليالي إلا مّدا ( )…

3-الردّافة :
وهي مظهر من مظاهر العلاقات السلمية التي سادت بين تميم والمناذرة، وهي صورة من صور المصانعة والامتيازات ، فقد كان بنو يربوع يتحرشون بعرب الحيرة ، فصالحهم ملوك الحيرة على أن يجعلوا لهم أمر الردافة ، وأن يكفّوا عن الغارة على أهل العراق( ). وكان الردف " يجلس عن يمين الملك، فإذا شرب الملك شرب الردف قبل الناس ، وإذا غزا الملك قعد الردف موضعه، وكان خليفته على الناس حتى ينصرف ، وإذا عـادت كتيبـة المـلك أخـذ الرّدف المِرباع( )".

4- التقاء القبائل في الأشهر الحرم والأسواق والمواسم :
وكانت الأشهر الحرم هدنة مقدسة ، وهذه الأشهر ، هي : ذو العقدة ، وذو الحجة ، والمحرم، ورجب ، فلم يكن فيها قتال ، وسمّيت الحروب التي انتهكت حرمتها بالفِجار .
فإذا كان الشهر الحرام وضع الناس سلاحهم ، وقصدوا مكة لأداء شعائر الحج ، والطواف بالكعبة ، واختلفوا إلى أسواق الحجاز التي تقام إبان هذه الأشهر ، ليمتاروا ، ويبتاعوا ، فتلتقي جموعهم في هذه المواسم والأسواق . وقد كان اللقاء  الكبير في سوق عُكاظ ،وذي المجاز ، والمجنّة صورة من صور النزوع نحو التّوحد ، وتعد هذه الأسواق رموزا خالدة لهذا اللقاء الاقتصادي ، والسياسي ، واللغوي ، والثقافي الأصيل . ووصف أحد شعراء بني أسد موسماً لعكاظ حضره من قريش وأحلافها تسعون ألفاً فقال ( ):
يا قوم قد وافى عكاظ الموسم      تسعون ألفاً كلّهم ملأم
يصور لنا أبو ذؤيب الهذلي هذه الألوف ، وما تبني من القباب ، وكيف يتواعد الناس ، فيلتقون ( ) :

          إذا بُنيَ القِبابُ علـى عُكـاظٍ   وقامَ البَيْعُ واجْتمع الألوفُ
          تواعدُنـا  عكــاظَ لننزلَنْـه  ولم تعلمْ إذا  أنـي خَليفُ
          فسوفَ تقولُ إنْ هي لم تجدْني  أخانَ العهدَ أمْ أثمَ الحليفُ


وقد أبرز الشعر الجاهلي أهمية هذه الأسواق ، ويكفي أن نذكر أن أكبر حربين أهليتين ، هما: البسوس ، وداحس والغبراء جرى صلحها في المواسم . فقد اصطلح بكر وشيبان في سوق ذي المجاز ، وأخذوا على أنفسهم العهود والمواثيق ، فقال الحارث بن حلزّة ( ) :

واذكروا حلفَ ذي المجازوما       قدم  فيـه العهـودُ والكفـلاءُ
        حَذرَ الجوْرِ والتعّدي وهــلْ     ينقض ما في المهارقِ الأهواءُ

واصلح العبسيون والذبيانيون في سوق عكاظ، فهدأت حرب داحس والغبراء ، فقال زهير بن أبي سلمى ( ):   
فمن مبلغ الأحلاف عنى رسالة     وذبيانَ هل أقسمتمُ كل مَقْسمِ
فلا تكتمـن اللهَ ما في  نفوسكم    ليخفى ومهما يكتم الله يُـعلمِ

- وهناك شبكة من العلاقات الاجتماعية والإنسانية ،ربطت القبائل بعضها ببعض ، منها :
1- المصاهرة بين القبائل ، ولا سيما المتجاورة ، مما أدّى إلى ارتباط قبائل كثيرة برابطة القرابة . فقد حظيت تميم بمكانة مرموقة في أوساط المجتمع المكي، وتوّجت هذه العلاقةُ بحالات واسعة من المصاهرة ، وكان لبني نهشل، وهم بطن من تميم ، نصيبٌ وافرٌ . وقد قدّم لنا " كستر" قائمة طويلة بأسماء نساء تميميّات تزوجن رجالاً من أُسرٍ قرشية شريفة( ) .

2- قرى المسافر :
فقد كان التنقل في الصحراء يُعرّض المرء للهلاك، إذا ما نفـد زاده ، فقد واجهوا جَدْبَ الصحراء بالسَّخاء والبذل ، وعدّوهما واجبا أَخلاقيا وعدّوا الأخلال بهما جريمة أخلاقية ( )، وقد أصبح قرى الضيف من أعظم المآثر والمفاخر القبلية. ومن العجب أن هذا البدوي الذي كان ينتهز كل سانحة للغزو والسلب مُعَرِّضاً حياته للقتل في سبيل ذلك ، كان إذا نزل به ضيف انقلب رجلاً مسالماً مضيافاً ودوداً ، يرعى حقّ ضيفه ، ولا يفكر في الاعتداء عليه ، ولا في مدّ يد الأذى إليه، قال الطُّفيْلُ الغنويُّ ( ) :
فراشي فراش الضّيف والبيْتُ بيتهُ  ولم  يُلهـني عنه غزالٌ مقنّعُ
      أُحدّثه إنّ  الحديـث مـن  القِرى   وتكلأُ عيني عينه حين يهجعُ
وقال عمرو بنُ الأهتم ( ) :
    أُضاحكُ ضيفي قبـل إِنزالـه رَحْلـِهِ ويخصب عندي والزّمانُ جديبُ
وما الخصبُ للأضياف أنْ تكثر القِرى    ولكنّمـا وجـهُ الكريم خصيب
وليس الجود عند الإنسان الجاهلي محصوراً في تقديم الطعام ، ومَلْءِ المِعَدِ الفارغة ، بل اتّخذ الجودُ بُعْداً نفسياً عند إنسان ذلك العصر ، وذلك بتخفيف معاناة الغُربة عنه ، بعد أن نأتْ به الدّيار ، وابتعد عن الأهل والعشيرة ، فلا بدّ من مضاحكته ، وإشعاره بأنه واحد من أبناء تلك الأسرة التي استضافته .
وقد اقتضى هذا الجانبُ الأخلاقيُّ ،أن يستقبل الجاهليون ضيوفهم بالبِشر والسّرور ، وفي هذا يقول ضمرةُ بن ضمرةَ النهشليّ ( ) :
وطارقِ ليـلٍ كنـتُ حم  مبيته    إذا قلّ في الحي الجميعّ الرّوافدُ
وقلتُ لَهُ : أهلاً وسهلاً ومرحباً     وأكرمته حتـى غدا وهو حامدُ
وإن لم يكن هناك طارقُ ليل بحثوا عنه ، فقيس بن عاصم يزهو بأنه لا يأكل الزاد وحده ، ويطلب إلى زوجه أن تلتمس له أكيلاً ، ويفخر بأنه عَبْدٌ لضيفه ، فيقول ( ):
إذا ما صنعت الزّاد  فالتمسي له    أكيـلاً فإنـي لسـتُ آكله وحدي
       أخاً طارقاً أو جارَ بيـتٍ فإنني    أخاف ملامات الأحاديث من بعديِ
       وإني لعبدُ الضيف من غير ذِلّةٍ     وما بـيَ إلاّ تلـك من شِيمةِ العبدِ
3- الإجارة :
مسوغات وجودها :
أشرنا فيما مضى ( ) إلى أنّ العلاقة بين الفرد وقبيلته ، قد تسير في خطين متعاكسين، فتضطر القبيلة إلى إسقاط الجنسية القبلية عنه( )، فيصبح بحاجة  إلى من يسبغ عليه الحماية ويفرد عليه جناحيه.
أهميتها :
تشكل الإجارة بهذا المعنى نظاماً من اكثر النظم شيوعاً في المجتمع العربي  في عصر ما قبل الاسلام، ومن أبلغها تأثيراً في حياته  اليومية. ونحن لا نكاد نقرأ شيئاً من الشعر الجاهلي، أو نطالع شيئاً من أيام العرب في الجاهلية الاّ ونجد حديثاً  عن الجوار ، أو إشارة إليه.
 وترجع أهمية هذا النظام إلى افتقاد العرب قبل الاسلام لسلطة مركزية تقرّ الأمن، وتفرض النظم، وتكفّ القويّ عن البطش بالضعيف، وتأخذ للمظلوم بحقّه من الظالم. فالجوار كان نظاماً أوجدته ضرورات الحياة العربية في ذلك العصر بديلاً للسلطة المركزية . وقد استطاع هذا النظام أنْ يوفر للناس قدراً من الأمن والطمأنينة، وأن يدفع عنهم بعضاً من الظلم والاضطهاد.
ونظراً لما كان لهذا النظام من أهمية بالغة في حياة العرب نجدهم يجعلون  من احترام مقتضياته واجباً يكاد يكون مقدّساً ( )، فهم يفخرون به ، ويوصي ساداتهم واشرافهم أبناءهم بضرورة مراعاته، ويكيل الشعراء الثناء والمديح لمن  يحترم جواره، ولعل هذا ما دفع المستشرق نيكلسون إلى القول :" وليس الصق بطباع العربي- وثنيا كان ام مسلما- من الشهامة ، والتضحية بذاته تضحيةً لا يرجو من ورائها شيئاً في سبيل أصدقائه، والشعر القديم خاصة يضع بين ايدينا  الدليل على أنهم كانوا يجزعون أشد الجزع إذا رأوا جاراً ينكث بعهد جاره "( ) .
ولكي نتبيّن أهمية الجوار نستعرض بعضاً مما قاله ساداتهم، وزعماؤهم، وبعضاً من أشعار شعرائهم( ) :
       أوصى يعرب بن قحطان بنيه ، فقال : " … والجار الدّخيل على أنفسكم ، فلن يسوء حاله ، ولئن يسوء حال أحدكم خير له من أن يسوء حال جاره ( ) .
وقال عامر بن صعصعة يوصي بنيه : " يا بنيّ ، ، جودوا ولا تسألوا الناس ، واعلموا أن الشحيح أعذر من الظالم ،وأطعموا الطعام ، ولا يستذلن لكم جار ( ) " .
وقال يزيد السكوني يمدح بني شيبان  ( ) :
       ومـن تكرمهم في المحل أنهم            لا يعلم الجار فيهم أنه الجـار
       حتى يكون عزيزا من نفوسهم             أو أن يبين جميعا وهو مختار
       كأنه صَرَح في رأس شاهقـة            من دونه لعتاق الطير أو كار

مواضيع ذات صلة 

العرب قبل الإسلام
تعريف العصر الجاهلي
بحث عن العصر الجاهلي
عادات العرب في الجاهلية
الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي
الادب في العصر الجاهلي
تاريخ العصر الجاهلي
تعريف الجاهلية


Previous Post Next Post