النظريات القومية الحديثة

      النظرية هي "ذلك البناء الفكري، فحواه الشرح والتنبؤ وتحديد العلاج في أي مجال للبحث والمعرفة، وبذلك فإنها تمثل إجابة مفتوحة عن أسئلة مطروحة بصدد ظاهرة محددة"([1])، وتكون النظرية القومية بهذا المعنى هي البناء الفكري الذي فحواه الشرح والتنبؤ وتحديد العلاج في كل ما يتعلق بالقومية، وإنها إجابة مفتوحة على أسئلة مطروحة عن ماهية وطبيعة القومية. ويحتل الاهتمام بالقومية كظاهرة  حديثة العهد، ونمط حديث للتعبير عن الهوية الجماعية (السياسية والثقافية والاجتماعية)، مكاناً رئيساً في العلوم التاريخية والاجتماعية، ومع ذلك لا يزال الغموض يكتنف أساس التنظير لهذه الظاهرة، لأنه ينطوي على مصاعب نظرية ومنهجية جمة، وقد تعرض لدراسة هذه الظاهرة علماء الاجتماع والسياسة، فمن اهتموا بالتنظير للظاهرة القومية بحذر، على الرغم من أهميتها كقوة دفع وتشغيل للنظام الدولي الحديث. إن محاولات التنظير للقومية، كانت قد اختلفت عن بعضها من عدة زوايا، فمن حيث أصل نشأة الأمم، ومن حيث الشكل والإطار السياسي ومن حيث الوظيفة ... الخ([2]). وبذلك تعددت النظريات والآراء بصدد القومية، ولهذا يحذرنا (انتوني سميث)، بأننا نرتكب خطأً فادحاً فيما لو بحثنا عن نظرية موحدة عامة للأمة والقومية، والسبب في رأيه، أن لكل مجتمع تاريخه الخاص بعملية التحول إلى الأمة (تكون) وكل قومية، ومن ثم كل نظرية قومية تكتسب خصائص مميزة وخاصة بها([3]). وهكذا تعددت النظريات القومية، ومعها تعدد تصنيف هذه النظريات.
      1- النظريات القومية الحديثة (التقليدية)
      يذهب أغلب الباحثين والدارسين لهذه النظريات، الى تقسيمها إلى ثلاثة مجاميع من النظريات أو إلى ثلاثة مدارس نظرية حول القومية، وهي: ([4])
أ‌)                لنظرية الألمانية (أو نظرية وحدة اللغة والثقافة).
ب‌)           النظرية الفرنسية (وحدة الإدارة للعيش المشترك).
ج) النظرية الروسية-أو الماركسية (وحدة الحياة المادية- الاقتصادية).

أ-النظرية الألمانية (وحدة اللغة والثقافة)
      تعود هذه النظرية حول القومية إلى بدايات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت في ألمانيا فكرة تأسيس دولة قومية مستقلة للألمان، إستناداً إلى الرابطة اللغوية بوصفهاالمحدد الأساس الأول للأمة([5])، وكان (هردر) (Herder) (1742-1803) في طليعة هؤلاء، حيث يقول إن العناية الإلهية تدبرت أمر الفصل بين الأمم أحسن تدبير ليس فقط بالغابات والجبال ولكن أيضاً باللغات والأذواق والشخصيات، وأن اللغة القومية بمنزلة الوعاء الذي تتشكل به وتحفظ فيه وتنتقل بواسطته أفكار الشعب.. وأن اللغة، سواء أقلنا إنها تكونت وخلقت دفعة واحدة من قبل الله، أم أنها تكونت تدريجياً بعمل العقل، لا يمكن أن نشكك في أنها في الحالة الحاضرة، هي التي تخلق العقل، أو على الأقل تؤثر في التفكير عميقاً، وتوجهه اتجاهاً خاصاً... إن قلب الشعب ينبض في لغته... إن روح الشعب تكمن في لغة الآباء والأجداد"([6])، ويؤيد هذه الأفكار (فيخته)، وبصورة عامة تمت صياغة النظرية القومية الألمانية على أسس وحدة اللغة والثقافة بالإضافة إلى العناصر الأخرى التي تأتي بعد اللغة والثقافة وهي وحدة الأرض ووحدة المصالح المشتركة([7]).
      وقدوجهت انتقادات كثيرة لهذه النظرية، ويصنف (ساطع الحصري) هذه الانتقادات إلى؛ الانتقادات المستندة على الوقائع التاريخية و التي تتلخص في وجود دول مثل (سويسرا والولايات المتحدة) تجمع فيها أناساً من مختلف الثقافات واللغات، ووجود حالات انفصلت فيها الدول عن بعضها أو تفككت على الرغم من وجود وحدة اللغة، مثل أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية و الانتقادات المستندة على ملاحظات النظرية التي تتلخص في أن للإنسان شيء أهم من اللغة، وهو العاطفة والمشيئة، وهذا يؤثر في تكوين الأمة أكثر من اللغة، واللغة يجب أن تعتبر من العناصر الثانوية([8]).
      إن العوامل التي دفعت بهؤلاء الألمان إلى أن يركزوا على عامل اللغة كأساس للأمة والقومية الألمانية كانت السبب السياسي المتمثل بالحروب والصراعات السياسية والنزاع مع الفرنسيين على إقليم (الزاس)*، بالإضافة إلى صراعات داخلية بين المقاطعات الألمانية([9]).

ب- النظرية الفرنسية (الإرادة المشتركة)
      أثارت النظرية الألمانية عن(ارتباط) القومية باللغة المشتركة ردود فعل قوية في المحافل الفكرية والسياسية الفرنسية، لأنها كانت تخالف مطامح فرنسا، وتعرض مصالحها في سياساتها التوسعية إلى خطر([10]). ودفع هذا بالفرنسيين ،وانطلاقاً من مصالحهم السياسية الاستراتيجية، إلى بناء نظرية قومية خاصة بهم تلبي طموحاتهم وأساسها أن الإدارة المشتركة مبدأ رئيس في توحيد أبناء الأمة وتشكيل الأمة، وأول من نادى بهذه النظرية هو (ارنست رينان) (1823-1892) وخلاصة آرائه هي "إن المشيئة والإرادة المشتركة هي أساس تكوين الأمة؛ ان اللغة تدعو للاتحاد ولكن لا تفرضه، لا يجوز أن نتخلى عن هذه الحقيقة الجوهرية. إن الإنسان مخلوق عاقل وأخلاقي قبل الدخول في حظيرة هذه اللغة أو تلك، وقبل أن يكون عضواً في هذا الرس أو ذلك، وقبل أن ينتسب إلى هذه الثقافة أو تلك"([11])، ويؤكد (رينان) على أن الأمة روح جوهر معنوي، وهذا الجوهر المعنوي يتألف من أمرين: أحدهما يعود إلى الماضي، وثانيهما يتعلق بالحاضر، وكلاهما يرتبطان ببعضهما البعض ارتباطاً وثيقاً، الاشتراك في تراث ثمين من الذكريات الماضية، والرغبة في المعيشة المشتركة، مع الاحتفاظ بذلك التراث الثمين المشترك، والسعي إلى زيادة قيمة ذلك التراث، أي تطويره، هذا هو أساس تكوين الأمة، أمجاد مشتركة في الماضي، مشيئة مشتركة في الحاضر، أعمال عظيمة تمت في سالف الأيام، ومشيئة صادقة لعمل أمثالها في مستقبل الأيام، هذه هي الشروط الأساسية لتكوين الأمة. الآلام المشتركة تربط وتوحد الأفراد أكثر بكثير مما توحدهم الأفراح المشتركة، إن وجود الأمة هو بمثابة تصويت مستمر للحياة المشتركة([12]).
      وحسب آراء (رينان) ان الأمة كيان اجتماعي مصطنع وليست معطى تاريخي طبيعي أو اقتصادي أو ثقافي أو ذات وجود موضوعي ثابت، إذن الأمة حسب رأيه ليست نتاج تطور اقتصادي أو عيش مشترك لجماعة معينة على قطعة أرض مشتركة، بل إن الأمة هي نتيجة مجموعة قرارات سياسية واجتماعية وإرادة سياسية تبدع وتكون الأمة وتديرها وتحافظ عليها، وهكذا فإن الأمة هي استفتاء يومي عام ومستمر، بمعنى تحديد الانتماء والولاء اليومي لوجود وبقاء الأمة، ومن ثم فإن الأمة ليست الشيء الذي يحافظ على ذاته تلقائياً، بل إن الأمة تحتاج إلى جهود يومية مستمرة، إنها لا تعيش إلى الأبد بدون تغيير، وليست خالدة لأنها مادامت مرتبطة برغبة وإرادة الأفراد والجماعة للعيش معاً، فإنه من الممكن أن تموت مع فناء هذه الرغبة لدى الأفراد والجماعات، إذا لم تجدد وتتغير وتنفذ صيغ أخرى([13]).تعود جذور هذه النظرية إلى أفكار وآراء فلاسفة عصر التنوير، الذين نادوا بحقوق وحريات الأفراد في الاختيار، وتتجسد هذه الأفكار في نظرية العقد الاجتماعي التي تفسر وتحلل نشأة السلطة والتنظيم الاجتماعي إلى الإرادة الإنسانية، إذ لا يمكن إغفال الفكر العقلاني والديمقراطي الذي تقوم عليه النظرية الفرنسية في اعتمادها على تأكيد الارتباط القائم بين الفكرة القومية وحق الشعوب في تقرير مصيرها([14]).وهذه النظرية هي أساس الوحدة لكثير من الدول في الوقت الراهن، إستناداً إلى التعاقد الدستوري والاتحاد الاختياري، ولكن مع هذا هنالك كثير من الانتقادات توجه لهذه النظرية، وهي كما يقول (ساطع الحصري) إن المشيئة المشتركة لوحدها ليست عامل رئيس للقومية، بل هذا من نتاجها، إن الأفراد يختارون العيش المشترك عندما ينتمون إلى أمة واحدة، ويفترقون عندما يكونون من أمم مختلفة، ومشيئتهم هذه تتبع وعيهم القومي وتتأثر بمبلغ معرفتهم للشعوب التي تتكلم بلغتهم وللتاريخ الذي يربطهم([15]). وهذه الانتقادات تنطلق من منظور الوجود الموضوعي للأمة، أي ان وجود الأمة يسبق وجود ونشأة الوعي والشعور والرغبة بالانتماء إلى الأمة، أي أن الأمة تنشئ القومية (نزعة الحب والولاء إلى القوم) وليس العكس.

ج- النظرية الروسية (نظرية ستالين حول القومية)
      النظرية الروسية حول القومية، وهي النظرية الماركسية (الشيوعية) حول الأمة ، إن الحياة الاقتصادية المشتركة لم تكن في النظريتين السابقتين (الألمانية والفرنسية) ذات أهمية كعامل من عوامل نشأة الأمة، بالرغم من أهمية الاقتصاد في بعض كتابات المفكرين الألمان والفرنسيين، ولم تصبح هذه الحياة مهمة حتى بدأ الماركسيون بإعطاء الأهمية للاقتصاد كعامل أساس في تحليلاتهم السياسية والاجتماعية بصورة عامة وفي تفسير وتحليل نشأة الأمة بصورة خاصة([16]). يقول (هوراس دافيز) بأن الماركسيون يصرحون بأنهم أمميون، ومع ذلك فإننا نجد في كل مكان ماركسيين يتصرفون كقوميين،على الرغم من أن محاولات ملاءمة القومية مع النظرية الماركسية كانت قليلة وغير مرضية، وفي النظرية الماركسية يزعم عادةً أن مصالح الطبقة هي التي تسود، وأن شكل التنظيم الاقتصادي (علاقات الإنتاج) يمارس تأثيراً حاسماً على مسار الأحداث([17]).وتعود     النظرية الروسية في القومية إلى (ستالين) بالدرجة الأساس،والذي ينظر كشيوعي ماركسي للقومية من منظور الايديولوجية الماركسية للملاءمة بين القومية والشيوعية في مقالة له عام (1913) بعنوان (الماركسية والمسألة القومية)([18]). ويعرف ستالين الأمة: بأنها مجموعة مستقرة، نشأت بصورة تاريخية، وقامت على أساس لغة وأرض وحياة اقتصادية مشتركة وتكوين نفسي مشترك، يظهر في وحدة ثقافية. إذاً و حسب هذه النظرية إن وجود لغة وأرض مشتركة ضروري لوجود الأمة، ولكن وجود مشروط بحياة اقتصادية مشتركة قائمة على أساس وحدة المصالح ووجود سيكولوجية (نفسية) مشتركة تتجسد في ثقافة مشتركة. ولكن نزعة التفتيش عن عوامل اقتصادية ومادية في كل شيء ،والتي استحوذت على تفكير الماركسيين، لم تقف عند حد اعتبارهم الحياة الاقتصادية المشتركة من الشروط الأساسية لتكوين الأمة، بل دفعتهم إلى أبعد من ذلك في هذا المضمار؛ إنها جعلتهم يربطون الحركات القومية بمقتضيات الرأسمالية ويزعمون أن القومية وليدة العهد الرأسمالي([19]).وقد أشار لينين أيضاً إلى علاقة الحركات القومية بالرأسمالية في مقالة نشرها سنة (1914) تحت عنوان (حق الأمم في حكم نفسها وتقرير مصيرها)، وحسب الرأي الماركسي فإن إلغاء وتفكك الاقطاعية ودعم الروابط الاقتصادية بين المناطق المختلفة واندماج الأسواق المحلية في سوق قومية واحدة،كان أساس اقتصادي لتبلور الأمة وقد كانت البرجوازية القوة الطليعية في الأمم خلال نشأة الرأسمالية([20]).

([1]) علي عباس مراد و عامر حسن فياض، الظاهرة القومية، م.س.ذ، ص14.
([2]) المصدر السابق، ص75.
([3])Anthony D, Smith, Nationalism And  Modernism, 1st edition, Rutledge, USA. 1998.p29
؛ مه ريوان وريا قانيع، نه ته وه وناسيوناليزم، م.س.ذ، ص124.
([4]) جه عفه ر عه لى، ناسيوناليزم وناسيوناليزمى كوردي، م.س.ذ، ص90؛ غيه هرميه وآخرون، معجم علم السياسة والمؤسسات السياسية، م.س.ذ، ص73.
([5]) المصدر السابق، ص73.
([6])للمزيد من التفصيل ينظر: أبو خلدون ساطع الحصري، ماهي القومية؟، م.س.ذ، ص41. وايضاً: جه عفه ر عه لى، ناسيوناليزم وناسيوناليزمى كوردي، م.س.ذ، ص90 ومابعدها.
([7])للمزيد من التفصيل حول آراء كل من جوهان (فيخته) و(هردر) ينظر:
John Hallowell, Main Currents in Modern Political Thought, First Edition, New York: Holt Rinehart and Winston, USA, PP.558, 563.
([8]) ابو خلدون ساطع الحصري، ماهي القومية؟، م.س.ذ، ص62.
* اقليم (إلزاس) كان ألمانياً، حتى منتصف القرن السابع عشر، وفي عصر لويس (14) (1643-1715) وبموجب اتفاقية ويستفاليا (1648) اخضع هذا الاقليم لفرنسا. المصدر السابق، ص98.
([9]) جه عفه ر عه لى، ناسيوناليزم وناسيوناليزمى كوردي، م.س.ذ، ص98.
([10]) أبو خلدون ساطع الحصري، ماهي القومية؟، م.س.ذ، ص99.
([11]) نقلاً عن: المصدر السابق، ص107؛للمزيد من التفصيل ينظر: عبد الغني البشري، أثر سياسة القوميات في الحركة القومية العربية، ط1، إدارة المطبوعات والمنشورات للقوات المسلحة، القاهرة، 1964، ص28.
([12])William Ebenstein, Modern Political Thought, First Edition, Horlt, Rinehart and Winston, Inc., New York, USA, 1960, P.753. ;
 Ernest Renan , What is A Nation? , 1880 :
in John Hutchinson & Anthony D. Smith, Nationalism , 1st edition , Oxford University Press, UK , 1994. p17.

أبو خلدون ساطع الحصري، ماهي القومية؟، م.س.ذ، ص ص106، 108
([13]) مه ريوان وريا قانيع، نه ته مه وناسيوناليزم، م.س.ذ، ص137.
([14]) للتفاصيل: عبد الغني البشري، أثر سياسة القوميات، م.س.ذ، ص  .
([15]) أبو خلدون ساطع الحصري، ماهي القومية؟، م.س.ذ، ص12.
([16])Paul James, Nation Formation( Towards a Theory of Abstract Community), 1st edition, SAGE Publications, Great Britannica , University Press, Cambridge, 1996.p47.

جه عفه ر عه لى، ناسيوناليزم وناسيوناليزمى كوردي، م.س.ذ، ص110.
([17]) هوراس دافيز، القومية (نحو نظرية علمية معاصرة)، ترجمة: سمير كرم، ط1، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت-لبنان، 1980، ص14.
([18]Joseph Stalin , The nation ,in John Hutchinson & Anthony D. Smith, Nationalism ,opcit, p18, p19.
.
([19])هوراس دافيز، القومية (نحو نظرية علمية معاصرة)،م س ذ، ص153.
([20])الموسوعة الفلسفية، لجنة من العلماء الأكاديميين السوفيت بإشراف: م.روزنتال؛ ب. يودين، ترجمة: سمير كرم، ط7، دار الطليعة، بيروت، 1997، ص51.

Previous Post Next Post