الرثاء عند العرب في عصر الجاهلية
       الرثاء ظاهرة طبيعية في آداب الأمم ، وتكاد تكون معالمه واحدة فيها ،لأنه التعبير الحقيقي عن العواطف البشرية ،وهي على أشد حالة من التوتر والتأثر . وقد حفل الأدب العربي بصورة رائعة من صور الرثاء، رسم فيها الشعراء أحاسيسهم وبكوا مَنْ رحل من دنياهم بأفجع ما يصل إليه التعبير ، ليدللوا بذلك على عظم المصاب ، وجلاء الرزء .
       والرثاء يعتمد على الحالة النفسية التي يحسها الانسان ، وهو يستقطب أشتات الحزن ، ويستجمع دواعي الرثاء ، يستكمل صورة المرثي ، ليعد منها اللوحة الفنية التي تتناسب والتجربة التي يعانيها .
       ومن هذا المنطلق كانت قصائد الرثاء أصدق تعبيرا ، وأشد إحساسا من أغراض الشعر الأخرى .
       إن الشعور بالفراغ الكبير الذي يتركه الفقيد بين أهله وذويه وأصحابه ، سيخلف في نفس الشاعر – وهو أكثرهم إحساسا – مكانا لا يسدّ ، وجرحا لا يندمل.
       والشاعر الجاهلي أدرك حقيقة الموت بكل أبعادها ، وأحس بقوته التي ارتعدت لها فرائصه ، فبات يخشى المصير ، ويخاف النهاية ، وقد تمثل الخوف من الموت ، والتفكير فيه في الشعر الجاهلي بصور كثيرة ( ) ، على أن الشاعر الجاهلي لم يلتزم بهذه الظاهرة ، ويقف عندها الوقفة التي تثير في نفسه اليأس وحده، وإنما حاول أن يعللها بالأسباب التي تهيأت له ، وهداه إليها تفكيره .
       إن المتتبع لقصيدة الرثاء الجاهلية يجد أنها كانت موزعة بين اتجاهين ، يبدو أحدهما امتداداً لقصيدة المديح ، وضربا من التعبير عن الايمان الخفي بخلود الروح . واستمرار حاجتها إلى ما كانت تحتاج إليه في حياتها الدنيوية الأولى ، أما الاتجاه الآخر فقد تمثل في ضرب من النواح المعبر عن اللوعة الخالصة ، وذلك ما كانت تتولاه النساء عادة ( ) . على أن الاتجاهين قد يمتزجان في النموذج الواحد ، لا سيما إذا ربطت الشاعر بالمرثي صلة اجتماعية قريبة ( ) . أما النماذج التي رثى الشعراء بها أنفسهم فقد بدت في أكثر الأحيان موزعة بين اتجاه النواح وبين مجرى الفروسية القائم على ابراز المزايا الذاتية .
اتجاهات الرثاء في القصيدة الجاهلية :
1- رثاء الفرسان :
       انبثق هذا اللون من الرثاء عند الشعراء الجاهليين في مضامينه من الفخر والحماسة ، فقد كانوا يرثون أبطالهم الذين سقطوا في ساحات المعارك والبطولة ، ليثيروا القبيلة كي تأخذ بالثأر .
       لقد أدرك الشاعر الجاهلي قيمة الفقيد ، وجسد أصاله الوفاء ، التي يمكن أن يعبر بها الشاعر لهذا الانسان الذي قدم أغلى ما يملك ، وأعز ما يمكن أن يجود به إنسان .
       ويمتاز هذا الشعر بالعاطفة الصادقة ، والأحاسيس المرهفة ، لأنه يصدر عن قلب موجع ، وفؤاد ملتاع ، وخير مَنْ يمثل هذا اللون من الرثاء متمم بن نويرة اليربوعي الذي رثى أخاه مالكا فقال( ) :
       لقد لامني عند القبور على البكا           رفيقي لتذراف الدموع السوافك
       فقـال:أتبكـي كل قبر رأيتـه            لقبرثوى بين اللـوى  فالدكادك
       فقلت له : إن الشجا يبعث الشجا          فدعني فهذا كله قبـر  مالـك
فهذه الأبيات تكشف لنا روح الشاعر ، بما فيها من لوعة ، وبكل ما فيها من انطلاق وتفتح لا على مأساة أخيه وحسب ،بل على مأساة الانسانية كلها … على مأساة الوجود الذي ينتهي إلى هذه القبور .
       ويقف المرء طويلا أمام الشطر الأخير : "فدعني فهذا كله قبر مالك "، ويعجب من هذا السمو الانساني ، والشعور بأن الناس كلهم أصبحوا إخوانا ، وإن كل قبر في الوجود ينطوي على مالك .
       ودريد بن الصمة الذي رثى أخاه بقصيدة أعرب فيها عن فداحة رزئه، وولهه لهذا المصاب العظيم ، لقد فقد أخا فارسا لا كالفرسان ، فقد أخا كانت بينهما صداقة حميمة ، ثم شرع يشيد بأخيه ، ويعدد صفاته ، فبدا نموذجا فذا من نماذج الرجال الذين يحملون سمات قومهم ، فيقول ( ) :
       وان يـكُ عبـد الله خلـى مكانـه       فما كـان وقافـا  ولا طائش اليد
       ولا  بـرما إذا الريـاح  تناوحـت       برطب العضاه والضريع المعضد
       كميش الازار خارج نصف ساقــه      صبور على العزاء  طلاّع أنجـد
       رئيـس حـروب لا يـزال ربيئـة       مشيحا على محقوقف الصلب ملبد
       صبـور على رز المصائب حافـظ       من اليـوم أدبار الأحاديث في غد
       صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه       فلما عـلاه قـال للباطـل ابعـد
ومما هون من وقع المأساة على قلب الشاعر أن العلاقة التي كانت تربطه بأخيه كانت علاقة حميمة :
       وهون وجدي انني لم اقل له              كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي
       وهون وجدي أنما هو فارط        أمامي ،واني وارد اليوم أو غد
وتتضح هذه العلاقة الحميمة في دفاع الشاعر عن أخيه ، ولم يقعد عنه في الموقف الضنك ، فقد كانت الخيل بينهما ، أي الموت ، فتعرض للخطر في سبيل أخيه :
       دعاني أخي والخيل بيني  وبينـه  فلمـا دعانـي لم  يجدني بقعـدد
       أخي  أرضعتنـي أمـه بلبانهـا   بثديـي صفاء بيننـا لـم يجـدد
       تنادوا فقالوا : أردت الخيل  مالكا  فقلت : أعبـد الله ذلكـم الـردي
       فجئـت إليـه والرماح  تنوشـه   كوقع الصياصي في النسيج الممدد
       وكنـت كذات البو ريعت فأقبلت   إلى جذم من  مسك سقـب مقـدد
       فطاعنت عنه الخيل حتى  تنفست  وحتى علانـي حالك  اللون أسود
       فما رمت حتى خرقتني رماحهـم  وغودرت أكبو في القنـا المتقصد

فقد كان دريد يحسب أخاه مثل ذات أخرى له ، رضعا ثديا واحدا ، وخرجا من رحم واحد . وذكر اللبان في ذلك المقام يمثل الحتمية الدموية والنفسية والمصيرية التي كانت توثق بينهما . ولم يسبق للشاعر أن عارض أخاه ، فالصفاء بينهما مقيم ولا حاجة لتجديده  . لقد كانا متصافيين … وهو لشدة  تلهفه على أخيه كان يتوقع الأشياء قبل أن تقع … وحين سمع العويل والصياح والتنادي بالموت ، سأل : أليس عبد الله الذي مات ؟ لقد كانت غريزته توحي له ، وتدفعه إلى ذلك اليقين . إنه هرع إليه ،فألفى الرماح تنوشه ، ولها وقع كخشخشة الصياصي في الثوب حين ينسج . أنه المشهد الذي كان يخشاه … فأخوه لم يقتل هاربا ، بل قتل في قلب المعركة ، اجتمع عليه الأعداء ، وتألبوا ، وأحدقوا به . هكذا يموت البطل  الرماح تناله من كل جهة ،ولا يفر ولا يكل … أخذ يجول حول أخيه كما تجول الناقة الثاكل حول البو … فشرع يطعن الفرسان حتى انجلوا.
       وكان مقتل فارس من فرسان القبيلة يعد كارثة لها ، لأنها فقدت شجاعته وقوته ، كما أنها فقدت مثلا يحتذى في الفروسية، ويقف الشاعر يرثي هذا الفارس، ويبين أثر فقده على القبيلة . وقد صور قَطَنُ بن نهشل الأرض قد اضطربت ، ومادت بعد ان قتل أخوه جندل ، فأصبح كمن بترت إحدى يديه ، قال ( ) :
       وذاك أبو ليلى أتاني نعيـه  فكادت بي الأرض الفضاء تضعضع
       كساقطة إحدى يديه فجانب  يعـاش بـه منــه وآخر أضلـع
ويعرض لنا عبد الله بن عنمة الضبي صورة لفارس بكر ، بسطام بن قيس الذي سقط قتيلا يوم "نقا الحسن" وكان عبد الله منقطعا إلى أخواله بني شيبان ، مبينا في مرثيته ما امتاز به بسطام من فروسية ونبل وكرم وشجاعة ، وكيف خر صريعا ، ويحق لقومه أن يجزعوا عليه لأنهم فقدوا بطلا مطعاما مقداما ، فقال ( ):
       لأم الأرض ويل ما أجنت   غداة أضر بالحسن السبيـل
       نقسـم مالـه فينا  وندعو   أبا الصهباء إذ جنح الأصيل
إلى أن يقول :
       فخر على الألاءة لم  يـوسد       كأن جبينـه  سيـف صقيـل
       فان تجـزع عليه بنو أبيـه              لقد  فجعـوا وفاتهـم  جليـل    
بمطعام إذا الأشوال راحـت       إلى الحجرات ليس لها  فصيل
ومقدام إذا الأبطال  خـامت       وعـرد عـن حليلته الحليـل
ورثى كعب بن سعد الغنوي أخاه أبا لغور بقصيدة قال فيها الأصمعي :    " ليس في الدنيا مثلها ( ) " وقال ابو هلال العسكري : " قالوا : ليس للعرب مرثية أجود من قصيدة كعب بن سعد التي يرثي فيها أخاه أبا المغوار ( ) " فقد أشاد بالقيم الأخلاقية، والمثل العليا التي كان أخوه يحرص عليها ، ونعته بالحلم ، والجود ، والعزة ، والحلم ، والهيبة ، ومما قاله ( ) :
أخي ما أخـي لا فاحش عند بيته ولا ورع عنـد اللقـاء هيـوب
هو العسـل المـاذي حلما  ونائلا  وليث إذا يلقى العـدو غضـوب
لقد كـان أمـا حلمـه  فمـروح  علينـا و أمـا جهلـه فغريـب
حليم إذا  ما سورة الجهل  أطلقت  حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب
الى أن يقول :
حبيب إلـى  الخـلان غشيان  بيتـه            جميل المحيا شب  وهـو اديـب
يبيت الندى يا  أم عمرو  ضجيـعـه            إذا لم يكن فـي المنقيـات حلوب
إذا نزل الأضياف أو غبـت  عنـهم            كفى ذاك وضـاح الجبين أريـب
وداع دعا : يا من يجيـب إلى الندى             فلم يستجبـه عنـد ذاك  مجيـب
فقلت أدع أخرى وارفع الصوت دعوة            لعل أبا المغـوار منـك  قـريب
يجبـك كمـا قـد كـان يفعـل  أنه            بأمثالها رحـب الـذراع  أريـب

رثاء الأمم :
       اتجه الشعراء الجاهليون في بعض مضامين قصيدة الرثاء اتجاها جديدا رائدا ، وفتحوا في هذا الفن بابا جديدا ، من خلال التأمل الذاتي الذي انبثق عن الاتعاظ بالأمم البائدة ، والملوك الذين قهرهم الموت بعد ارتفاع شأنهم ،وعلو مكانتهم ، وعز سلطانهم .
       فقد اتعظ الأسود بن يعفر النهشلي ، ووعظ غيره ، بمن سبقه من الملوك العظام ، والأمم القوية ، فاتعظ بآل محرق (المناذرة ) وباياد ، الذين كانوا نموذجا للعز والثراء ،والجاه والجود ، فكان ملكهم ثابتا قويا مستقرا ، وبآل غَرْف الذين كانوا رمزا للقوة ، فما أغنت هؤلاء قوتهم ، ولا أغنى أولئك جاههم ، وصاروا جميعا إلى " بلى ونفاد " ، فقال ( ) :
       مـاذا أؤمـل  بعـد آل محـرق  تركـوا منازلهـم وبعـد  إياد
       أهل الخورنق والسـدير وبـارق   والقصر ذي الشرفات من سنداد
       أرضـا تخيرهـا لـدار  أبيهـم   كعب بن مامـة وابـن أم دؤاد
       جرت الرياح على مكان  ديارهم          فكأنمـا كانـوا علـى ميعـاد
       ولقد غنوا  فيهـا بأنعـم عيشـة  في ظل ملـك ثابـت الأوتـاد
       نزلـوا بأنقـرة  يسـيل عليهـم   ماء الفـرات يجيء  من أطواد
       أين الذين بنـوا فطـال بناؤهـم   وتمتعـوا  بالأهــل والأولاد
       فإذا النعيـم وكـل مـا يلهى به          يوما يصيـر إلـى بلـى ونفاد
       في آل عرف لو بغيت لي الأسى          لوجدت  فيهـم أسـوة العـداد
       ما بعد  زيـد في  فتـاة  فرقوا          قتلا ونفيـا بعـد حسـن تآدي
       فتخيروا الأرض  الفضاء لعزهم          ويزيد رافدهـم علـى الـرفاد
ويحول عدي بن زيد العبادي فكرة الفناء الذي أصاب الأمم القديمة إلى ألحان جنائزية ، يعزي بها البشرية فيما يشبه المرثاة الإنسانية ، لكل إنسان يبغي الحياة والبقاء خلافا لسنة الحياة ، فيقول ( ) :
       اين أهل الديار من قوم نوح        ثم عاد ومن بعدهم ثمود
       أيـن آبـاؤنا وأيـن بنوهم        أين آباؤهم وأين الجدود
       سلكوا منهج  المنايا  فبادوا         وارانا قد كان منا ورود
3- رثاء النفس :
       ويتمثل هذا اللّون من الشعر برثاء الشعراء أنفسهم ،وندبهم حياتهم ،ويلمس المرء في هذا الاتجاه إحساسا قويا ، ويدرك عاطفة متميزة ،ولأن هذه الظاهرة متعلقة بالشاعر نفسه ، فهو صاحب المصير المحتوم ، ومَنْ أولى برثائه منه فلا غرابة إذا وجدنا العاطفة تتدفق بغزارة ، وتنبعث بقوة مجسدة آماله في الحياة ، مصورة نهايته التي أدرك أنه ملاقيها .
       ولعل قصيدة يزيد بن الحذاق(1) التي أسف فيها على نفسه أول شعر قيل في هذا الباب . فقد تخيل ما سيصنع به أهله بعد الموت ، من ترجيل شعره ، وإدراجه في الكفن ، واختيار أفضل الفتيان ليتولوا دفنه في ضريحه .ولعله قد انفرد بهذا التصوير المفصل لهذه الحال بين الشعراء ، وهو لم يقف في قصيدته عند هذا الموقف من ظاهرة الموت ، التي نظر إليها هذه النظرة ، وإنما حاول أن ينتفع من تجربة الحياة التي عاشها ، فنراه يقدم النصيحة للذين يستقبلون الحياة ، فهو يهون شأن المال ، لأنه سوف ينتهي إلى الوارث ، فيقول( ) :
       هل  للفتى من بنات الدهر من واق أم هل له من حمام الموت من راق
       قد رجلوني وما رجلـت من شعث وألبسونـي ثيابـا غيـر أخـلاق
       ورفعوني وقالـوا : أيمـا رجـل وأدرجونـي كأنـي طي  مخراق
       وأرسلوا فتية من خيرهـم حسبـا  ليسندوا  في ضريح الترب أطباقي
       هـوّن عليـك ولا تولـع  باشفاق فإنمـا  مالنـا للـوارث  البـاقي
       كأنني قد رماني الدهر عن عرض  بنافـذات  بـلا ريـش وأفـواق

أما القصيدة الثانية فهي قصيدة عبد يغوث بن وقاص الحارثي ، وكان من خبره أنه أسر يوم الكُلاب الثاني ، وكان قائد قومه مذحج ، واراد أن يفدي نفسه فأبت بنو تميم إلا ان تقتله بالنعمان بن جساس ، ولم يكن عبد يغوث قاتله ، ولكن قالت تميم : قتل فارسنا ، ولم يقتل لكم فارس مذكور . وكانوا قد شدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم، فلما لم يجد من القتل بدا طلب اليهم أن يطلقوا لسانه ، فقالوا : إنك شاعر ، ونخاف أن تهجونا ، فعقد لهم ألا يفعل ، فأطلقوا لسانه ، وأمهلوه حتى قال القصيـدة ، ثم قتلوه ، بأن قطعوا له عرقا يقال له : الأكحل ، وظل ينزف حتى مات ( ) .
       وفي هذه القصيدة من الصدق العاطفي ، وسلامة الأداء ما يجعلها خليقة بالاهتمام . وأول ما يطالعنا في هذه القصيدة ارتباط الشاعر بأصدقائه ، وأبناء عشيرته . هذا الارتباط دفعه إلى تذكرهم منذ المطلع ،وذكرهم بأسمائهم في صورة من صور التحسر ، والحزن الذي ملأ قلبه ( ) :
       فيا راكبا  إما عرضت فبلغن             نداماي من نجـران الا تلاقيـا
       أبا كـرب والأيهمين كليهما        وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا
ويلتمس الشاعر تفسيرا لحالة الضعف التي أصابته حين يردها إلى العلاقة القبلية التي تفرض على الشاعر ضربا من السلوك لا ينبغي له تجاوزه حتى في حالات الموت .
فالشاعر مقدم في القبيلة ، كما هو معروف ، وهي تعلق عليه آمالها في السلم والحرب ، فلا يجوز له أن يخذلها ، أو يتهاون في نصرتها . فإذا اجتمع للشاعر ، بجانب هذه  المكانة ، سيادة القبيلة ،كما اجتمع لعبد يغوث ، وجب عليه أن يظل حاميا لها مدافعا عن مكانتها ، ولو أدى به إلى الوقوع في ضيق أو أسر أو موت . لذلك فإن الشاعر يؤكد هذه الظاهرة الموضوعية حين يبرّر وقوعه في الأسر بسبب دفاعه عن ذمار القوم ، وعدم استسلامه في أحلك ساعات الحرب حيث الرماح تختطف المتقدمين من المحاربين :
       ولو شئت نجتني من الخيل نهدة           ترى خلفها الحو الجياد  تواليا( )
       ولكننـي احمـي ذمار  أبيكـم           وكان الرماح يختطفن المحاميا
       ان فروسية الشاعر وبطولته من اجل قبيلته سبب مقنع للعزاء الذي يلتمسه لنفسه . ونحن إذ نقرر أن للفروسية قداسة تواضع عليها المجتمع الجاهلي فهي فروسية محكمة الوسيلة والغاية . فالوسيلة هي استعداد الفارس للدفاع عن قومه ، والغاية هي تحقيق الحياة الكريمة ، أو الموت الكريم ، وهذه هي أخلاق الفروسية التي تمثلت في عبد يغوث الحارثي .
       ونطالع في القصيدة خلقا آخر من أخلاق الفروسية مثلته القصيدة تمثيلا واضحا ، حين أدار الشاعر حوارا مع أعدائه حول قضية أسره ، إنه يسعى لإقناعهم بالابقاء عليه ، لأنه ليس ممن يقاد بدم غيره ، كما أنه ليس مسؤولا عن قتل زعيمهم .وليعلموا أن قتلهم اياه يعني قتل رجل سيد في قومه . ان مثل هذه القيم التي تواضع عليها الجاهليون تجعل من النص وثيقة لشعر الفروسية . ونراهم في الوقت نفسه يأخذون على الشاعر عهدا بعدم هجائهم ، فيربطون على لسانه بنسعة ، تعجزه عن القول ، وتمنعه من الكلام :
       أقول وقد شدوا لساني بنسعة       أمعشر تيم أطلقوا لي  لسانيا( )
       أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا             فإن أخاكم لم يكن من  بوائيا
       فإن تقتلونـي تقتلوا بي سيدا       وان تطلقوني تحربوني بماليا

فخر الشاعر بنفسه ، والاعتداد بها ، وتذكره أيامه الخوالي ، أيام القوة والعطاء من ابرز المظاهر الموضوعية في القصيدة . إنه يستحضر صورة الماضي الماثل في نفسه حين كان يخوض غمار المعارك ، فتصوب الرماح إليه من كل جانب :
       وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا          لبيقا بتصرف القنـاة  بنا نيـا( )
       وعاديـة سوم الجـراد وزعتها           بكفي وقد أنحوا  إلي العواليـا
       كأني لم أركب جـوادا ولم أقل           لخيلي كري نفسي على رجاليا

إن بواعث الفخر في مرثية عبد يغوث مرتبطة بموقف نفسي ، فالشاعر في لحظات الموت قد أحس بالانكسار الشديد ، وإنه صار أمثولة للقوم ، ومبعثا للسخرية والضحك والاستهزاء :
       وتضحك مني شيخة عبشمية              كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا

أنه يرفض هذا الموقف ، كما يرفض الاستسلام لسطوة الموت أصلا ، فهو يسعى ليخلق توازنا للذات ، يخفف عنه أ لم المصاب ، إنه يهرب من حالة الضعف إلى حالة القوة ، فإذا تمثلت حالة الضعف لديه بالأسر ، أو انتظار الموت ، فإن حالة القوة تتمثل له بالاعتداد بالنفس ، واستحضار صور الشجاعة المتحدرة من ماضيه  والماثلة في ذاكرته . لذلك فالفخر هنا عزاء للنفس ، واكرام لها في لحظة من لحظات الهزيمة ، تلك اللحظات التي لا تتبدل إلا بالانتقال من النقيض إلى النقيض.
والقصيدة الثالثة التي سنقف عندها ، هي قصيدة بشر بن أبي خازم الأسدي، فقد ذكر في اسباب قولها أن غلاما من الأبناء رمى بشرا بسهم فأثخنه . والأبناء : وائلة ومرة ومازن وغاضرة ، فكل ولد صعصعة غير عامر يسمّوْن الأبناء … والغلام من بني وائلة بن صعصعة . وان بشرا أسر الوائلي ، ثم أيقن بشر أنه ميت ، فأطلق الغلام في بعض الطريق ، وقال : انطلق ، وأخبر أهلك أنك قتلت بشر بن أبي خازم . ثم اجتمع إليه أصحابه ، فقالوا له: أوص . فقال هذه القصيدة ، يرثي بها نفسه ، ويفخر بها وبقومه ، وهي من جيد شعر العرب ( ) :
       أسائلـة عمـيرة عـن  أبيهـا           خلال الجيش تعترف  الـركابا
       تؤمـل  أن أؤوب لهـا بنهـب          ولم تعلـم بـأن السهـم صابا
       فإن أباك قد لاقــى غــلاما           من  الأبنـاء يلتهـب التهابـا
       وان الوائلـيّ  أصـاب  قلبـي          بسهم لم يكـن يكسـى لغابـا
       فرجّي الخير وانتظري  إيابـي           إذا ما القـارظ العنـزي آبـا
       فمن يك سائلا عن بيت   بشـر          فإن له  بجنـب الـرده  بابـا
       ثوى في  ملحـد لا بـد  منـه           كفى بالمـوت نأيـا  واغترابا
       رهين بلى وكل فتـى  سيبـلى           فأذري الدمع  وانتحبي  انتحابا
       مضى قصد السبيل وكل  حـي           إذا يــدعى لميتتـه  أجـابا
       فإن أهلك عمير  فرب  زحـف          يشبه نقعـه  عـدوا  ضبابـا

وللأسود بن يعفر النهشلي جهود فنية في هذا الاتجاه ،فرأى الدهر يهجم عليه ، ويسلبه فرحته ، ويحرمه من ثيابه الفاخرة ، ونراه يمد يده إلى سيد قبيلته مستنجدا ، وليس ثمة ما يجدي أمام سطوة الموت وجبروت الدهر ، فإنه يفعل ما يشاء ، فليس ثمة مناص من الموت ساعة دنو الأجل ، ولا يملك المرء إلا الخضوع والاذعان ، قال ( ) :
       ألا هل لهذا الدهر من  متعلل             سوى الناس مهما شاء بالناس يفعل
       فما زال مدلولا على مسلطـا             ببؤسي ويغشاني بنـاب  وكلكـل
       وألفى سلاحي كاملا فاستعاره             ليسلبني نفسي أمـالَ  بنَ حنظـل
       فإن يك يومي قد دنا واخالـه             كواردة يوما على غيـر  منهـل

اما عبيد بن الأبرص فيبدو أنه كان مكثرا في هذا الاتجاه ، فعندما أتى عبيد إلى المنذر بن ماء السماء في يوم بؤسه ، الذي أقسم أن يقتل أول مَنْ يراه فيه ، فعزم على قتله ، واستنشده قبل ذلك ، فقال : أنشدني قبل أن أذبحك ، فقال عبيد : والله أن متّ ماضرني . فقال له : لابد من الموت ، فاختر من الأكحل ، وان شئت من الأبجل ، وإن شئت من الوريد ، فقال عبيد : ثلاث خصال كسحابات عاد : واردها شر وارد ، وحاديها شر حاد ، ومعادها شر معاد ، ولا خير فيها لمرتاد . فإن كنت قاتلي فاسقني الخمر ، حتى إذا ذهلت ذواهلي ، وماتت لها مفاصلي ، فشأنك وما تريد . ففعل به ما أراد ، فلما دعا به ليقتله أنشد هذه الأبيات ( ) . ثم أمر به المنذر ففصد ، فنزف دمه حتى مات :
وخيرني ذو البؤس في يوم بؤسه          خصالا أرى في كلها الموت قد برق( )
كما خُيرتْ عاد مـن الدهر مرة    سحائب مـا فيها لـذى خيـرة أنق
سحائـب ريح لـم توكّل ببلـدة          فتتركهــا الا كمـا ليلـة الطلـق
وقيل لما أراد المنذر بن ماء السماء أن يقتل عبيدا ، قال له : أنشدني قولك :
" اقفرل من أهله ملحوب " فقال عبيد( ) :
       أقفر من أهله عبيد          فاليوم لا يبدي ولا يعيد
       عنت له منية نكود          وحان منه  لهـا ورود
ثم قال يرثي نفسه ( ) :
       يا حار ما راح من قوم ولا ابتكروا الا وللموت في آثارهم حادي
       يا حار ما طلعت شمس ولا غربت الا  تقـرب آجـال لميعـاد
       هل نحـن الا كـأرواح تمـر بها تحت التراب وأجساد كأجساد
4- رثاء الأصدقاء :
       لفتت مراثي أوس بن حجر أنظار العلماء ، فتناقلت المصادر تقديمهم لعينيته في رثاء صديقه فضالة بن كلدة الأسدي التي يقول في مطلعها ( ) :
       أيتها النفس أجملي جزعا           إن الذي تحذرين قد وقعا
فقد قال الأصمعي :لم أسمع ابتداء مرثية أحسن منها " . وقد قدم أوس نموذجا فنيا رائدا في المزج بين مرثاة المديح ، ومرثاة التفجع ، فقد عني  بتصوير مناقب المرثي من شجاعة وكرم ومكانة اجتماعية ، حاول من خلالها أن يرسم الصورة المثلى التي احتلت استشراف أكثر الشعراء الجاهليين للشخصية العربية الكاملة .
       ويتميز أوس بدقة تناوله للصورة المؤدية إلى استكمال أبعاد اللوحة في رثائه بوجه خاص ، وذلك مايطالعنا في مثل الصورة الاستطرادية التي حاول أن يشخص كرم فضالة من خلالها فقال :
       والحافظ الناس في تحوط إذا       لم يرسلوا تحت  عائـذ ربعـا
       وازدحمت حلقتا البطان باقـ       ــوام وطارت نفوسهم جزعا
       وعزت الشمـأل الرياح وقد       أمسـى كيمـع الفتـاة  ملتفعا
       وشبه الهيدب  العبام من الـ       أقـوام  سقبـا ملبسـا فـرعا
       وكانت الكاعب  الممنعة الـ       ـحسنـاء  في زاد أهلها سبعا
ويشيع في مراثي أوس ضرب نادر من المديح النفسي يتمثل في وصف المرثي بحسن الظن ، والقدرة على كشف خفايا الأمور ، وإعطاء الرأي الفصل فيها ، ولعل أروع ما ورد قوله :
       الألمعي الذي يظن لك الظـ        ـن كأن قد رأى وقد سمعا
ويبدو أن طبيعة موضوع الرثاء أتاحت لأوس أن يطرح الحيطة في بعض صور المبالغة من مديحه للمرثي ، فهو لا يبالي أن يقول في فضالة ( ) :
       ألم تكسف الشمس والبدر والـ            ـكواكب للجبل  الواجب
       علـى الأروع السقـب لو أنه            يقوم على ذروة الصاقب
       لأصبح رتما دقاق الحصــى            كمتن النبي من الكاثـب
ورثى الأسود بن يعفر النهشلي صديقه مسروق بن المنذر بن نهشل ، الذي " كان سيدا " جوادا ، مؤثرا للأسود ، كثير الرفد له  والبر به " . وجاءت صورة مسروق امتدادا للصورة التي رسمها أوس لصديقه فضالة ، وهي الصورة المثلى التي كان الشعراء يحاولون تثبيتها في العرف الاجتماعي القبلي ، فهو رجل شجاع، كريم ، يحدب على الأرامل واليتامى ، ويقدم لهم الجفان العظيمة ، فيقول ( ) :
أقـول لمـا أتـانـي هلـك سيدنـا      لا يبعد الله رب الناس مسروقـــا
مـن  لا يشيعـه عجـز ولا بخـل      ولا يبيـت  لديه اللحم موشوقـــا
مردى حروب إذا ما الخيل ضرجها نضخ الدماء  وقد كانت أفاريقـــا
والطاعـن الطعنـة النجلاء تحسبها       شنا هزيما يمـج الماء مخروقـــا
وجفنـة كنضيـح البئــر متأقـة ترى جوانبـها بالـلحم معتوقـــا     
يسرتهـا ليتامــى  أو لأرملــة       وكنت بالبـائس المتـروك محقوقـا
يا لهف أمـي إذ أودى وفـارقنـي       أودى ابن سلمى نقي العرض مرموقا
      


الرثاء في العصر الجاهلي

مفهوم الرثاء عند العرب

العصر الجاهلي أغنى العصور العربية شعراً

 الرثاء عند العرب في عصر الجاهلية

تعريف الرثاء

الرثاء في العصر العباسي

اشهر شعراء الرثاء

ابيات رثاء

الرثاء عند المتنبي

الرثاء في العصر الاسلامي

الرثاء في الشعر العربي

تعريف الرثاء لغة واصطلاحا



Previous Post Next Post