تحديات الهوية الوطنية العراقية

تواجه الهوية العراقية تحديات كبيرة متعددة، ولكن أبرز هذه التحديات هما التحديان القومي والطائفي اللذين أعاقا بلورة و صياغة هوية وطنية  عراقية، و سنبحث في هذا المطلب في هذين التحديين الأساسيين.

أولا/ هوية العراق بين الوطنية والقومية
العراق دولة تتعدد فيها المكونات القومية ولكن ليس لكل هذه المكونات مشاريع قومية سياسية بالمعنى المعروف الذي تسعى فيه الجماعة القومية لبناء كيان سياسي قومي مستقل. ولكن يوجد أيضاً في العراق على الأقل مشروعان قوميان بارزان هما المشروع القومي العربي والمشروع القومي الكُردي. ومن ثم فان العراق يعاني من تبعات هذين المشروعين والتي تتجلى في التعارض والتضارب بين الوطنية العراقية وكل من القوميتين العربية والكردية. حيث إن القومية في العراق أوسع من الوطنية، لأن لكلتا القوميتين تطلعات أوسع تتجاوز حدود الدولة العراقية الحديثة، إذ يتطلع العرب إلى الوطن العربي والكُرد إلى كُردستان الكبرى.ويتوقف تأثير هذين التوجهين القوميين في بناء هوية عراقية على قوة كل واحد منهما من الناحية السياسية والإيديولوجية والموقف الإقليمي والدولي المساند أو المعارض له. والحركة القومية العربية في العراق وإن لم تسبق الحركة القومية الكردية في العراق من الناحية التاريخية، إلا أنها كانت أقوى ونضجت بصورة واضحة أكثر من الحركة القومية الكُردية في العراق، فضلا عن حصولها على دعم اكثر من الحركة القومية الكردية لتساهم بدور أكبر في بناء الدولة العراقية الحديثة، وبذلك فقد تمكنت من فرض تصورها للهوية العراقية بوصفها هوية عربية( ). ولكنها واجهت أو اصطدمت منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى يومنا هذا بمقاومة عنيفة داخلية (طائفية قبلية) أو خارجية بالنسبة للقومية العربية في العراق(كردية، تركمانية، آشورية)، أو مقاومة عراقية، من تيارات سياسية عراقية ذات توجهات وطنية عراقية حديثة.
ويؤكد ذلك احد الباحثين عندما يقول بأن " الفكر القومي العربي بصورة عامة وفي العراق بصورة خاصة، ومنذ وقت مبكر وتحديداً منذ البدايات الأولى لنشأة الدول في العالم العربي، يعاني من مشكلة حقيقية اقرب إلى الوصف بالمعضلة المزمنة التي لم ينجح في حلها أو السيطرة عليها إلى يومنا هذا وهي مشكلة التجزئة والوحدة، أي مشكلة تحديد العلاقة بين الساحتين القطرية والقومية"( ). وتثير هذه المعضلة تساؤلات عن الوجهة التي يتخذها الولاء العربي؟ هل هي لدولته المحلية الموصوفة في أدبيات الفكر القومي العربي بالدولة القطرية، والتجزئة الواقعة؟ أم لدولة الوحدة العربية المأمولة مستقبلاً؟ وأيهما لها الأولوية؟ وكيف يمكن التوفيق بين ما هو قطري وما هو قومي؟ وحسب رأي القوميين العربي، فان الدائرة التي تمثلها الدولة القطرية العربية ككيان سياسي لم تكن متطابقة مع الدائرة الحضارية والثقافية للقومية والأمة العربية. فقد قامت الدولة القطرية معتمدة على أسس إقليمية أو قبلية أو دينية أو طائفية مما جعل منها دولة مناطق أو قبائل أو طوائف في واقع الأمر ليست مجرد جهاز إداري يدير شؤون جماعة من الناس، بل يلزمها مبررات تاريخية واجتماعية وثقافية من منظور المفهوم القومي الذي يبرر ظهور الدولة الوطنية في أوربا( ). والدولة الطبيعية في المفهوم القومي العربي هي الدولة- الأمة أو الدولة القومية- حيث يرى القوميون العرب أن الدولة الطبيعية هي الدولة التي تجمع الأمة العربية بكاملها تحت لوائها وبغيابها تكون الدولة القائمة أي (الدولة القطرية) اصطناعية ومؤقتة. وبعبارة أخرى أن الفكر القومي العربي بصورة عامة، والفكر القومي العربي في العراق بصورة خاصة، يقوم على دعامتين أساسيتين هما، الاعتقاد بأن العرب أمة واحدة، وبأن من الضروري أن تكون لهذه الأمة دولة واحدة، وهو ما يعبر عنه شعار (أمة عربية واحدة). ولهذه الأمة هوية قومية متحدة كانت بوتقة الانصهار لعوامل اللغة والثقافة والتاريخ، وترفض هذه العقيدة وجود دول  تقتصر على أقاليم عربية معينة، مع ذلك، وبعد أن نالت دول عربية استقلالها، وجد السؤال عن الهويات القطرية تعبيره السياسي( ).
ويقصد بالهوية العربية في الفكر القومي العربي "وجود هوية عربية على مدى التاريخ، وهذه الهوية هي نتيجة تداخل عناصر الخصائص المتميزة المشتركة بين العرب، والقومية العربية تجعل من هذه الهوية المتصورة المبرر الجوهري للوحدة العربية ومنطقها باعتبارها التعبير السياسي عن وجود الأمة العربية، فعلى أساس اللغة العربية والثقافة العربية المتحدة بصفة أساسية تحدد الهوية العربية"( ).
ويقول احد الباحثين عن ذلك: " وان هدف توحيد العرب في دولة واحدة هو قوة دافعة للقومية العربية، وتشكل مسائل الوحدة العربية واستدلالها وفوائدها للعرب أوجه العجز التي تواجهها، القسم الأكبر من هذه الايدولوجيا، وتولي الوحدة العربية القيمة الأكبر، ويعتبرا لفكر القومي العربي الوحدة العربية ضرورة يتوجب تحقيقها إذا كان للأمة العربية أن تحافظ على هويتها القومية"( ).ويتطلب تحقيق الوحدة العربية القضاء على الدول العربية القطرية، وخلق دولة جديدة. ويعرف (سعدون حمادي).  الوحدة بأنها"بكل بساطة هي اندماج دولتين أو أكثر بدولة واحدة ذات كيان دولي واحد و ذات سيادة كاملة، فالدولتان أو الدول الداخلية في الوحدة يزول كيانها الدولي، ومن اندماجها يظهر كيان دولي جديد، أي دولة جديدة، فالدولتان أو الدول التي تتحد فيما بينها تذوب في دولة جديدة لها أرض وشعب وحكومة وسيادة تماماً كما كان الحال في كل دولة من الدول التي دخلت في الوحدة"( ). ويعني ذلك أن الوحدة في المنظور القومي العربي مسألة تتعلق بكيان الدولة التي يقتضي تحقيقها زوال كيان الدولتين المتحدتين أو الدول المتحدة وقيام دولة جديدة تحل محل الكيانات التي زالت. ويؤكد (غانم محمد صالح) هذه الفكرة حين يقول "رغم الصعوبة التي تكتنف عملية تحديد مفهوم الوحدة السياسية إلا انه يمكن القول إن هذا المصطلح يعني عملية تغيير في حالة النظام من أجل مستوى أعلى من الاندماج، هو بتعبير أدق تعبير عن صورة من صور الانصهار السياسي الذي يؤدي إلى القضاء على تعدد الوحدات السياسية لتحل محلها وحدة واحدة ذات وجود وكيان واحد في النطاق الداخلي والنطاق الدولي"( ).
وبذلك يمكن القول إن مفهوم الوحدة العربية يعني "التطلع نحو إقامة كيان عربي واحد يقضي على أسباب التفرقة ويؤمن للعرب جميعاً سلامتهم ويحقق لهم كرامتهم التي ينشدونها، وهي بعبارة أخرى عملية خلق مجتمع جديد تنعدم فيه الحواجز التي اصطنعها الاستعمار الغربي"( ). ويتعارض هذا المفهوم بشدة مع مفهوم الوطنية القائمة على الولاء للكيانات السياسية (الدول) الحديثة النشأة، ومن ثم فانه يقف بالضد من تبلور أية هوية وطنية قطرية. ولكن (برهان غليون) يعتقد أن "ترسيخ الحدود السياسية- والإدارية الذي كرسته أو ساهمت فيه السيطرة الاستعمارية، لن يتأخر عن فرض التصور القطري كواقع وكمصدر استراتيجياً ممكنة للتعامل بين الأقطار العربية، وخاصة أن هذه الحدود تبدو صعبة التجاوز، وقد أدى ذلك إلى إعادة بناء القوى والتوازنات الاجتماعية داخل كل قطر، كما أدى إلى تغيير الأهداف والقيم والبرامج السياسية للحركات المختلفة، وافرز عقائديات ومذاهب جديدة احتل فيها الدفاع عن القطر أو التعلق به المرتبة الأولى في سلم الاهتمامات والتربية السياسية وبدل أن تستملك العقيدة القومية العربية العقائد القطرية الأخرى، استطاعت هذه العقائد الأخيرة أن تستخدم في الكثير من الحالات العروبة لإعطاء نفسها الشرعية وللظهور بمظهر الجزء التابع للكل والأداة الضرورية لتحقيق القيم والأهداف العليا العربية والإسلامية"( ).
وفي هذا السياق عمدت الإيديولوجية القومية العربية إلى فرض هوية قومية عربية على (القطر- الدولة) العراقية ،وحسب ما يذهب إليه بعض الباحثين، فإن الأمر بدأ مع الملك فيصل الأول (1921- 1933)، وعلى الرغم من نجاحه النسبي في بناء الوطنية العراقية، إلا أنه بقي محملاً بهم نجاح مشروع الدولة/ الأمة في لجمع التنوعات الثقافية وصبها في كيان سياسي موحد وخلق أمة موحدة إذ كان يؤمن بأن بناء أركان الدولة وتحقيق فكرة مركزية الحكم سيسهل عملية الاندماج الاجتماعي والوحدة الثقافية للسكان فيمكن عن طريق فرض التجنيد الإلزامي ونشر سياسة لغوية موحدة بفرض لغة موحدة ونظام تعليمي موحد زرع شعور مشترك بسهل عملية اندماج الاجتماعي ونحو الهوية الوطنية المشتركة( ).وبذلك اعتمد تحقيق مركزية الدولة وبناء هوية وطنية موحدة على ركيزتين أساسيتين هما خلق نظام تعليمي موحد و فرض نظام التجنيد الإلزامي، وفيما يخص التعليم كان "ساطع الحصري"( )، الرجل المهمين على صياغة السياسة التعليمية للعراق قد تبنى سياسة تربوية تسهم في خلق هوية موحدة عن طريق توحيد النظام التعليمي القائم على الترويج للثقافة واللغة العربية الموحدة لبناء شعب عراقي يكون جزءا من الأمة العربية مما يعني نوعاً من الهيمنة الثقافية لايدولوجيا القومية العربية مما أدى إلى إرساء ثقافة أحادية لا تتجاوب مع القيم المقبولة لدى بقية المجموعات الثقافية. وفشلت هذه الثقافة في مسعاها حتى يوم (9/4/2003) لأنها لم تتجذر في المجتمع ولم تسهم في توفير الأرضية اللازمة لبناء هوية وطنية أو مشتركة، ولم تخلق مجتمعاً متجانساً على أسس تحترم جميع الثقافات والروابط الاجتماعية( ). ويرجع إلى الاعتقاد بأن الهوية الوطنية بمفهومها العصري هي نتاج خصائص الثقافة الجماعية التي تشبع الأمة بشعور يضع الأسس التي تبنى عليها حياة سياسية مستقرة في البلد. وإذا كان المفهوم العصري للهوية الوطنية يعني تخطي كل الولاءات الأخرى، فانه لا يعني بالضرورة محوها، وقد تكون الهوية الوطنية امتدادا للفكرة القومية إذا كان سكان الدولة من قومية واحدة أو إذا كانت الإيديولوجية القومية السائدة مبنية على أساس قومي مدني أو قومي جغرافي، أي (قومية سياسية دولية)، بعبارة أخرى قومية متوافقة مع الوطنية والولاء للدول القائمة( ). الا ان هذا النوع من الوطنية لم يكن ما كان يخطط له المشرفون على بلورة الهوية العراقية، إذ كانت تطلعات هؤلاء تتخطي الحدود العراقية وتروج لنمط من القومية العربية يلعب فيه العرب السنة الدور الرئيسي سياسياً وثقافياً إلا أن الوطنية المبنية على أسس القومية المتطلعة لتحقيق الوحدة القومية العربية، لم تكن تتواءم مع الواقع المنقسم بالتعددية القومية خلافاً لمفهوم القومية المبنية على الأساس الجغرافي/ ألمناطقي.والتي تعني الاعتراف بالتعددية الثقافية/ الاثنية في منطقة معينة والتي كانت أكثر ملائمة للظرف العراقي الخاص. إلا أن هذا النمط من الوطنية (الجغرافية) كان بعيداً كل البعد عما يفكر به القادة العراقيون ويخططون له، حيث كانت الوطنية العراقية بالنسبة لهؤلاء تعني الوطنية العرقية أي القومية العربية بكل تطلعاتها التي تتعدي حدود الدولة العراقية لتشمل الوطن العربي ككل( ). وكان هذا التوجه بلا شك يختلف عن مفهوم الوطنية بالنسبة للقوميات غير العربية في العراق (الكُرد والتركمان وغيرهم)( ). ويؤكد (حسن العلوي) أن قومية الدولة التي تأسست في العراق بعد الحرب العالمية الأولى كانت هي المسئولة عن عدم نمو تطور وطنية عراقية على غرار الوطنية المصرية حيث يجتمع المختلفون في العنصر والدين على مشاعر الولاء للوطن المشترك"( ).ويعتقد (العلوي) بأن السلطة الهاشمية تشكلت وفقا لمواصفات المشروع القومي والإطار الإيديولوجي الألماني مما يعني في النهاية فرض تغيير شامل في النسيج الاجتماعي للشعب العراق. ويعني ذلك أن قومية السلطة لم تكن اختياراً عراقياً ولم تعبر عن إرادة وطنية أو رغبة في رؤية العراق موحداً بقدر ما كانت طريقاً سهلاً للاستيلاء السياسي على السلطة والاستئثار بها وإقصاء المجموعات السكانية الكبرى من العرب الشيعة والأكراد والتركمان عن الإسهام في إدارة الدولة. وإذا كانت التجمعات السكانية من غير العرب قد عبرت بشكل أو بآخر عن احتجاجها على الشكل السياسي للنظام والطبيعة العنصرية للدولة، فان طريق السلطة القومية إلى الجبال الكردية كان عسكرياً دائماً على ظهور الدبابات وعلى متن الطائرات الحربية، وبسبب قومية السلطة، نشأ نظام سياسي وفكر سياسي تعامل مع الاتجاهات الوطنية الخالصة باعتبارها ولاء إقليميا، وهي من المحركات التي يعاقب مرتكبوها بالموت، وقد أدى ذلك إلى الإضرار بالوطنية العراقية( ). وقد جسد فكر حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق التوجه القومي العربي ومفهوم الوحدة العربية للأمة والوطن العربيين حتى بات حزب البعث أحد أهم التيارات السياسية العاملة ضمن الاتجاه القومي العربي والمعبرة عنه، فهو حركة سياسية وضعت هدف الوحدة العربية ضمن سياق فكري واضح أساسه الترابط الوثيق بين العمل القومي والعمل الاشتراكي، وجاء شعار حزب البعث (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) ليعبر عن إيمانه بأن الأمة العربية أمة واحدة ولا بد أن تتحقق الوحدة العربية، وأن وحدة الأمة حقيقة ثابتة وما الفوارق بين أجزاء الوطن العربي إلا فوارق مصطنعة( ). ويشير احد منظري الحزب إلى أن " الوحدة العربية هي وحدة الأمة على جميع الأصعدة والتي لا تتم إلا بالقضاء على الاستعمار، والقضاء على حالة التجزئة القطرية والقضاء ومن خلال النضال على كل الأسس التي بناها الاستعمار وغذاها"( ). وبذلك يعتقد الحزب أن الوحدة ثورة كاملة تتطلب معارك مستمرة بين الأمة وأعدائها، ويؤكد (ميشيل عفلق) أن معركة الوحدة هي أصعب معاركنا وأنها تتطلب من العرب الجهد الذاتي، تتطلب محاربة النفس والتضحية وبعداً في النظر...." ( ). وقد عبر دستور الحزب عن هذا المعنى، حيث جاء في المادة الأولى منه "تؤسس المبادء العامة للحزب (البعث العربي)، حزب عربي شامل تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا"( ).ونتيجة لذلك، فقد تجاهل حزب البعث هوية العراقيين من غير العرب في العراق في سياساته القومية العربية وتوجهه الوحدوي، منطلقا في هذا من إيمانه بان العراق جزء من الوطن العربي وان الشعب العراقي جزءً من الأمة العربية الواحدة، وهذا فرض للهوية العربية كما يتصورها الحزب على كل المكونات غير العربية في العراق وعلى مساحات جغرافية يرى فيها بعض هؤلاء (الاكراد) جزء من وطنهم، المميز والمختلف عن الوطن العربي. بوصول حزب البعث في العراق للسلطة بدأت مرحلة جديدة في التاريخ العراقي المعاصر، إذ تغلب فيها الاتجاه القومي بوضوح، متجاوزاً واقع خارطة التنوع الثقافي للمجموعات التي تكون المجتمع العراقي وهذا ما لم يتقبله غير العرب في العراق( ).
ولكن هذا لا يعني أن العراق في صراعه لبناء هوية وطنية عراقية يعاني فقط من التوجه القومي العربي، لكنه يعاني أيضاً من التوجه القومي الكُردي الذي يتجاوز الانتماء إلى القطر أو الدولة العراقية إلى الانتماء إلى كيان مفترض يتمثل في دولة كُردستان الكبرى*. فقد كان الأكراد في العراق وما زالوا يتحسسون من الروابط العربية المشتركة وعلى الرغم من حرصهم على التعاون الوطيد مع سائر البلدان العربية، فإنهم يعلنون بصراحة أنهم يرفضون الاندماج في دولة عربية، كما أنهم يدركون أن انصهار العراق في وحدة عربية كبرى لا بد وان يؤدي إلى قيام دولة كُردية مستقلة( ). لقد أعلن الدستور الانتقالي لجمهورية العراق بعد ثورة (1958)، والذي تمت صياغته بعد الثورة مباشرة، أن العراق جمهورية وجزء من الأمة العربية، واقر أيضاً بالشراكة الكُردية العربية في الوطن معترفا بالحقوق القومية الكُردية ضمن نطاق الدولة العراقية، وكان هذا الإقرار من أكثر الخطوات أهمية لأنه فتح المجال امام قيام دور كُردي اكبر في مجال صياغة الهوية العراقية وفي نفس الوقت تجميد التيارات الانفصالية الكُردية( ). ولكن إخفاق هذا التوجه في الاستمرار أدى إلى بدء ثورة كُردية مسلحة ضد الحكومة العراقية للمطالبة بحقوق قومية كُردية بصورة واضحة أكثر وعرفت الثورة بـ(ثورة أيلول) بقيادة (ملا مصطفى البارزانى) في عام (1961)  ( ).
     يقول (سليم مطر): " فأنه من اكبر الأخطاء التعصبية التي مارستها الحكومات والنخب السياسية العراقية تتمثل بالفكرة التالية: إن الوطن العراقي هو جزء من الوطن العربي، وان الشعب العراقي هو جزء من الأمة العربية. إذن فأن العراق يشترط وجود العنصر العربي، وأية منطقة ليست فيها أغلبية عربية هي بالضرورة ليست عراقية بشكل تام، وعلى أساس هذا المفهوم القومي التعصبي قامت الحكومات العراقية بتطبيق سياسة تغريب الأكراد ومحاربتهم في وطنيتهم العراقية ومحاولة تعريب مناطقهم أو تهجيرهم وجلب سكان عرب بدلهم"( )، وهذا تصوير خاطئ للتوجه القومي الكُردي بصورة عامة و التوجه القومي الكُردي في العراق بصورة خاصة، فالحركة القومية التحررية الكُردية ومطالبها سبقت حتى نشوء الدولة العراقية، وعارض الكُرد وبقوة ضمهم إلى العراق وهذا واضح في قضية ولاية الموصل والموقف الكُردي منها، وأيضا في مسألة البيعة للملك فيصل و الموقف الكُردي من الأتفاقية البريطانية- العراقية وقبول العراق عضواً في عصبة الأمم واستقلاله والثورات الكردية المستمرة من (1918) إلى يومنا هذا( ).
يقول (ميثم الجنابي) إن النابض الذاتي للوجود الكلدو آشوري والتركماني بسير عموما ضمن الرؤية الوطنية العراقية، وبالتالي فان البعد القومي عندهم يسير بدوره باتجاه الرؤية الثقافية، بمعنى تداخل الرؤية القومية والسياسية والثقافية ضمن الإطار العام للهوية الوطنية العراقية، ولكن الأمر حسب اعتقاده يختلف بالنسبة للأكراد، إذ الغالب على نابض وجودهم القومي (البعد الكردستاني)، أي الكُردي، وهو الأمر الذي يعطي للعراق والهوية العراقية في الفكر القومي الكردي واتجاهاته العملية بعداً جزئياً وثانوياً، أما الإعلان الظاهري والمباشر للبعد العراقي، فإنه في الأغلب نتاج لاعتبارات سياسية وتكتيكية، أما التيار الداعي للاندماج الفعلي والتام في الوطنية العراقية، فإنه ما زال ضعيفاً( ). ويطلق (ميثم الجنابي) هذا الحكم متجاهلاً مطالب الحركات القومية التركمانية والكلدو آشورية في العراق، ويفترض وجود هوية وطنية عراقية يجمع عليه الكل باستثناء الأكراد. حيث يرى (سليم مطر) في إطار تحليله وتناوله بعض أطروحات احد الأحزاب التركمانية، بأن الحزب يعتبر "الوطن الأم هو تركيا، وهذه الفكرة تمثل حجر الزاوية بالنسبة لفكر التحزب الوطني التركماني، وهذا يكشف عن مدى هشاشة الهوية العراقية التي تسمح بنشوء مثل هذه الأطروحات المنافية لأبسط المبادئ الوطنية والإنسانية"( ).
هكذا يمكن القول بأن هناك توجهات قومية عربية، كردية، تركمانية وكلدو آشورية في العراق تعارض أو تتصادم مع الوطنية العراقية، وهنا تنطبق فكرة (ساطع الحصري)( ). على أن الوطنية في العراق لا تنطبق أو لا تتطابق مع القوميات في العراق، بل تختلف عنها اختلافاً بيناً، لأنها تتكون من قوميات تطالب بتقديم مصالح الأمة العامة على مصلحة الوطن (الدولة)، وبهذا يعيش الفرد في العراق وهو يعاني مشكلة الهوية والانتماء بين الانتماء إلى الدولة، أي الانتماء القانوني والرسمي حسب الجنسية الوطنية والانتماء إلى القوم أو الأمة الذي تتجاوز حدودها حدود الدولة القائمة كأمر الواقع.

Previous Post Next Post