إشكالية الهوية القومية الكردية

       في هذا المبحث نعرض إشكالية الهوية القومية الكردية من خلال البحث عن أصل الكُرد وجذورهم، الموطن الكردي (كردستان) و حدوده الجغرافية والطبيعية والقومية، وأخيرا اللغة الكردية والثقافة الكردية، وذلك باعتبار أن هذه المسائل تعتبر عناصر أساسية وبارزة في تحديد الهوية القومية الكردية. ولا ندعي في هذا المبحث بأننا نصل إلى نتائج وحقائق نهائية وحاسمة في هذه المسائل، لان ذلك ليس من اختصاصنا ولا هو ممكن علميا وإنما نقصد إظهار وإبراز إشكالية الهوية القومية الكردية من خلال عرض الأطروحات والآراء المختلفة والمتضاربة والمتباينة حول هذه المسائل بالإضافة إلى الكشف عن المقاصد الكامنة وراء هذه الاختلافات و التي هي بالدرجة الأساسية سياسية، وبذلك نسعى إلى البحث عن مدى كون الهوية القومية الكردية وتحديدها إشكالية فكرية متجسدة في الأبحاث والدراسات المختلفة والمتنوعة حول القومية الكردية.


 أصل الكُرد وجذورهم

       غالبا ما يطرح البحث عن أصول أي شعب كان مشكلة مستعصية، وبخاصة  في مثل حالة الشعب الكردي، لأن الشواهد التاريخية تعوزها الديمومة، ويتعذر التثبت منها في بعض الحالات، فلكي نثبت هوية شعب ما، نلجأ في الغالب إلى مقاييس معينة حاسمة كإسمه وعرقه ولغته دون أن نقتنع بقيمتها العلمية المطلقة فالاسم وحده لا يسمح في الواقع بأي استنتاج مرض بالنسبة للشعب الذي يتسمى به، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال، الشعب الفرنسي، فإذا اعتمدنا  على اسمه دون أن نعرف جيدا أصوله التاريخية، أمكننا افتراض أنه يعود إلى أصل جرماني، وكذلك بالنسبة إلى الروس الذين يشتق اسمهم (اسم شعبهم) من كلمة اسكندنافية، إذ يمكن أن تضللنا هذه التسمية إن لم نكن نعرف أنها تشير إلى فئة مسيطرة من زعماء الفايكنغ الذين أخذ منهم هذا الشعب السلافي اسمه( ).
يقول (منذر الموصلي) بأنه لم يختلف المؤرخون حول نسبة شعب أو أصله كما اختلفوا حول الشعب الكردي خاصة منهم علماء الأجناس ومؤرخو الأقوام والشعوب القديمة، ولن تجد رأيا لهولاء يتفق مع آخر كما لم يقطع مؤرخ أو عالم برأي حاسم، فهو يورد عدة آراء ثم يعطي ترجيحا لواحد منها، مجرد ترجيح، وهذا شيء طبيعي بسبب الافتقار لما يشكل سنداً أو مستندا علميا في البحث التاريخي. وُيرجع (منذر الموصلي) سبب ذلك إلى أنه ليس للأكراد ماضٍ قديم معروف بالدقة، ولا ما يدل أو يعرف بهم في التاريخ البعيد البعيد( ). ولكن أليس في ذلك مبالغة كبيرة؟ وهل أن الشعوب والأقوام الأخرى لديها ماضي وتاريخ قديم واضح ومتفق عليه؟ ألا تعاني كل الشعوب والأمم المعاصرة في تحديد أصوله وجذوره؟ ويمكن إرجاع السبب إلى الواقع السياسي الذي يعانيه الكُرد، لأن الدراسات التاريخية حول أصل وجذور الكُرد تتأثر وتؤثر في المواقف السياسية حول المسألة الكردية بصورة عامة، وكما تقول (ماريا أوشي) فقد "جرى، لأسباب مختلفة تصوير تاريخ الكُرد وكردستان تصويراً قاصرا في الأعمال التاريخية التقليدية عن الشرق الأوسط، ومن السهل أن نرى لمإذا صار الكُرد يشعرون أنهم مستبعدون عن العمل في مثل هذه الأعمال وبقدر تعلق الأمر بالتاريخ القديم يبدو أننا نعرف أكثر بكثير عن الحضارات التي لم يعد لها وجود، ربما لأنها لا تمثل الآن تهديدا محتملا للقوى الحاكمة في الوقت الحاضر"( ). لذلك فمن الضروري الأخذ بالتحفظات المتعلقة بنسبية المعايير اللغوية والعرقية من جهة والتحفظات السياسية من الجهة الأخرى عندما نبحث عن أصول الكُرد وجذورهم.
إن هناك من يعرف الكُرد بالقول بأن "الكُرد شعب آري من مجموعة الشعوب الهندو- أوربية، من العائلة الإيرانية التي تضم الشعوب الكردية والفارسية والإذرية والأفغانية وألبلوجية، له لغته الخاصة وهي اللغة الكردية، وقد عاش الأكراد على أرض كردستان الحالية بصورة مستمرة منذ فجر التاريخ، وواجهوا نفس المصير، وكونوا تراثاً أدبيا وفنيا وإنسانيا مشتركا وساهموا في تقدم ركب الحضارة، والأكراد حاليا هم المجموعة العرقية الوحيدة في  العالم التي يبلغ تعدادها أكثر من 35 مليونا والتي لم تحصل بعد على حقوقها القومية "( ). ولكن هذا تبسيط لتعريف هوية قوم أو مجموعة بشرية يعاني من إشكالية تحديد هويتهم القومية لأسباب سياسية وتاريخية عديدة.
و يشير (احمد تاج الدين) إلى نظريتين في أصل الأكراد ويعتبرهما اقرب النظريات معقولية وهما( ):
       النظرية الأولى: هي ما ذهب اليه البعض، في اعتقاده بأنتساب الاكراد إلى منظومة زاكروس (زاجروس) بأعتبارهم من الجنس القوقازي (قفقاسي) وأن تاريخهم يبدأ مع ظهور السومريين والاكديين.
       النظرية الثانية: و تؤكد أن الكُرد ينتسبون إلى عناصر آرية أو (هندو أوربية) هاجرت منذ ثلاثين عصراً قبل الميلاد نحو زاكروس ومن ثم إلى شرقيها وغربيها واندمجت مع بقايا أهالي زاجروس وكُردستان ألاصلية وشكلت هذه الهجرات الطبقة الثانية لمنظومة زاجروس المسماة بالآريين الذين يرجع اليهم أصل الأمة الكردية.
إذا لقد اختلفت المؤرخون حول أصل الاكراد وطرحت عدة نظريات وافتراضات متنوعة، قبائل آرية نزحت إلى الجبال من إيران منذ القدم واختلطت بالقبائل الجبلية الاصلية، أو قبائل سامية وسومرية رافدية نزحت إلى الجبال واختلطت بالقبائل الاصلية ثم خضعت للقبائل ألآرية، أو قبائل جبلية أصلية تبنت اللغة ألآرية والإيرانية، ويعتقد (سليم مطر) بأن الحقيقة المعقولة التي يمكن استخلاصها من جميع هذه الفرضيات، أن الاكراد هم أولاً من القبائل الجبلية الاصلية وهم ينتسبون إلى العرق (الأرموندي أو القفقاسي). وتعرضت الجماعات الكردية الأصلية خلال حقب التاريخ لهجرة القبائل ألآرية القادمة من الشرق حيث الهضبة الإيرانية وكذلك القبائل السامية النازحة  من غرب وادي الرافدين، و يبدو أن العنصر الآري بسبب طبيعته الجبلية أو امتلاكه قوة عسكرية وحضارية هو الذي تمكن من فرض لغته بحيث اعتبرت اللغة الكردية لغة آرية إيرانية( ).
و يعتقد (باسيلي نيكيتين) أن الكاردوخيين الذين تكلم عنهم (زينفون) في روايته عن الانسحاب المشهور (بين 400- 401 ق. م) لعشرة الآف يوناني عبر كردستان الحالية إلى البحر الاسود لم يكونوا غير الاسلاف الحقيقيين للكرد، أنهم كانوا جبليين اشداء مثلهم، يقطنون البلاد نفسها ولهم اسم شبيه بأسمهم.و لكن هناك بعض البحوث التي لا توصلنا إلى هذه النتيجة المؤكدة نفسها، حيث اثبت بعض المستشرقين من امثال (نولدكه) و (هارتمان) و (ويسباخ) أن لفظتي (كورد) و (كاردو) غير متماثلتين لغوياً، ويذهب العالمان الاخيران إلى القول إن (السرتيين) الذين ذكرهم المؤرخون الكلاسيك و (سترابون) خاصة، و الذين كانوا يقطون بلاد ميديا الصغيرة وبلاد (برسيس) هم أسلاف الكُرد، إلا أننا لا يمكننا إنكار صلة الكاردوخيين بالكرد انكارا كلياً( ).
و يقول المسشترق (دراور) إن كاردا، كاردوخي، كورتوخي، غوردي، كارداك و سيرتي، غوردياي، عوردوته، كاردو، كاردا، كارداويه، كاردايه، كارتاريه... الخ كلها اسماء مختلفة لأمة واحدة هي الأمة الكردية القديمة، ويؤكد بأن الاكراد الحاليين هم أحفاد الـ (كاردوخي) الذين حاربوا (زينوفون) وكذلك هم احفاد (كاردا) في لغة السومريين ولكنا يظهر من لوحة ملك (اراد – نانار) ملك لاغاش في الدور الثالث لحكومة أور في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد بأن كاردا اسم لعشيرة أو فرع من الاكراد، لذلك فإن بعض المؤرخين يقولون بين التمييز بين كلمتي كوتي و كورتي صعب جدا لدرجة أنه يمكن القول بأن قسماً من الاكراد الحاليين انحدروا من الكوتيين مباشرة( ). وهناك من يقول: إن أصل تسمية (كورد- كرد) ترجع إلى (كوتو - Gutu) أي شعب (كوتو) وهو عبارة عن الاقوام التي عاشت في مملكة (كوتيام) الواقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة بين نهر (الزاب الصغير) ونهر (ديالي). ويعتقد آخرون أن التسمية مأخوذة من الكلمة الآشورية (كورتو – Gurtu) التي تطورت إلى (Gutun) ويقولون ان هذه الكلمة الاشورية تطلق على الاقوام التي تسكن المنطقة التي يعيش فيها الاكراد حاليا( ). ويرجح (شاكر خصباك) أن كلمة (كُرد) تطورت من اللفظ الاشوري لكلمة (كرتو) أي كلمة (كوتو). وربما نقل الآشوريون هذا الاسم إلى الفرس وثمة احتمال بأن يكون (الكورتيون) و (الكرتيين) من شعب واحد رغم انشائهم لقبائل مختلفة، ذلك أن مناطقهم التي وصفها السومريون والآشوريون والفرس هي المناطق الحالية لكردستان( ).
ويقول (شاكر خصباك) إن كتاب التاريخ القديم يتفقون على وجود شعب كان يسمى بالكوتيين حوالي (2000) ق.م. وقد عاش في منطقة تؤلف الآن إحدى مناطق الاكراد الرئيسية وهناك دلائل كثيرة على وجود شعب بهذا الاسم كعنصر واضح متميز، ويؤكد على أن الاكراد أحفاد الكوتيين، وهم القوم الذين نتجوا من التزاوج بين سكان جبال زاكروس الاصليين وبين الموجات الأولى من الآريين التي اكتسحت منطقتهم( ). ولعل اقدم اشارة إلى الكوتيين هي تلك التي عثر عليها في الكتابات السومرية، وكان السومريون يشكون من قوم محاربين اسمهم الكوتي، وقد اعتادوا الانحدار من جبالهم ومهاجمة المدن السومرية واعترف السومريون و كذلك الاكديون بمملكة الكوتيين التي كانت عاصمتها (ارابخا)( ).
هكذا تعددت النظريات والآراء حول أصل الكُرد ومنشأهم بين من يعتبرهم من الشعوب الهندو- أوربية المهاجرة إلى جبال زاكروس، ويؤكد هذا الفكرة كل من (باسيل نيكتين ومينورسكي)، ومن يعتبرهم من السكان الاصليين لجبال زاكروس وكردستان، ويؤكد هذا الرأي (مار) الذي يرى انهم سكان أصليون للمناطق الجبلية في آسيا الصغرى ولغتهم الكردية تكونت في تلك البقعة لا في منطقة أخرى من الكرة الارضية( ).
ولكن من الممكن ترجيح الآراء الذي يعتبر الكُرد من الشعوب الهندو- أوربية، فحسب رأي غالبية الباحثين فانه في الالف الثاني قبل الميلاد استقر المهاجرون من الاقوام الهندو- أوربية في إيران وجبال زاكروس، و مما يثبت ان أصل الكُرد من الآريين، أن الموجة ألآرية الأولى التي حملت الكُرد إلى مناطقهم الحالية آتية بهم من أواسط اسيا، قد حدثت حوالي (2000 ق. م). وبعد مرور ألف عام جاءت موجه أخرى من منطقة القوقاس ومن المحتمل حسب رأي بعض الباحثين، أن يكونوا هم الكاردوخيين الذين ذكرهم (زينفون) أحفاد الموجة الثانية لأن الاوصاف التي ذكرها زينوفون على سكان كردستان كانوا يتميزون يومئذ بمميزات آرية وخاصة من النواحي الاجتماعية( ). ويقول (محمد امين زكي) "ان الشعب الكُردي قوم من الأقوام والشعوب (هند- إيراني) قدموا إلى كُردستان في الوقت الذي قدم فيه الميديون إلى ميديا والفرس إلى الفارس"( ).
وهكذا نلاحظ ان غالبية الباحثين وخاصة الاكراد منهم، يرجحون كون الكُرد من السلالات الآرية أي هندو – أوربية، وذات أصل واحد مع الميديين الذين أسسوا امبراطورية ميديا في (612 ق. م) ( ). ويؤكد (منذر الموصلي) بأن معظم الكتاب والمثقفين الاكراد وقادة الفكر السياسي ومنظري الحركة الوطنية والمسيرة القومية الكردية يميلون إلى هذا الترجيح، أي ترجيح آرية الكُرد ويؤيدونه لأنه أثبت من غيره في سياق البحث العلمي والرواية التاريخية( ).
إذا قلة من القضايا استأثرت مؤخرا بأهتمام الاكاديميين الكُرد، وحتى المتعاطفين مع الكُرد، مثل المسألة المتعلقة بأصل الكُرد، الذي يشعر هؤلاء الاكاديميون، على ما يبدو، بضرورة استجلائه وتسجيله على نحو حاسم ففي الدول المستقلة تاريخيا يجري التعبير عن الاستمرارية من خلال مؤسسات قانونية وسياسية، ولكن شعباً بلا دولة، مثل الشعب الكردي، يحتاج إلى استثمار موارد مختلفة لايجاد استمرارية ثقافية وصنع ذاكرة جمعية، والاصرار على صنع اسطورة ذات اصول مبكرة يبدو جزء  من هذه العملية( ).
لان النظرة الاكثر واقعية وعلمية هي  أنه لا يوجد شعب أو أمة ذو أصل وجذور واضحة ونقية بالمطلق، ومن الاجدر أن ننظر إلى الكُرد على انهم حصيلة تخالط بين عدة مجموعات توطنت في زاكروس ومجموعات أخرى مرت بها في الطريق إلى أماكن أخرى.
إن البحث عن الأصول النقية لأية أمة أمر فرضته النزعة القومية في التاريخ الحديث وذلك بهدف خلق الذاكرة الجماعية الضرورية للشعور القومي والتماسك والتضامن القومي، ويسمي (يان اسمن) هذا العملية بـ (اعادة تركيب الذاكرة الجماعية، مونتاج الماضي)، لأنه حسب رأي (اسمن)، الوعي بالانتماء الاجتماعي الذي اطلقنا عليه مصطلح الهوية الجماعية يعتمد على مشاركة الانسان الفرد في معرفة مشتركة وفي ذاكرة مشتركة ايضا، تمثل ذاكرة المجموعة ككل( ).ويكفي لتحديد الكردي من يقر بكرديته، حتى لو أنكر عليه الآخرون ذلك، كما يحصل بالنسبة للاكراد  في تركيا، حسب المعايير المعاصرة والمعتمدة في مبادئ حقوق الانسان لتحديد الهوية والانتماء وهو اخذ حرية الانتماء بنظر الاعتبار، فإن الكُردي من يقر بكرديته، وهذا الرأي ينم ايضاً عن تفكير عصري وعقلاني، لانه يترك للعاطفة القومية وحدها حرية الاختبار في الانشاء، وبعد ذلك يأتي دور الشروط الأخرى.
اختبار في الموضوع 

تاريخ الاكراد
اصل الاكراد في سوريا
الكردية
اصل الاكراد من الجن
ديانة الاكراد في سوريا
اصل الاكراد في العراق
موطن الاكراد الاصلي
الاكراد سنة ام شيعة

Previous Post Next Post