تاريخ أوروبا كله تاريخ جاهلية
       أوروبا اليوم هى الغالبة على كل الأرض.. إن لم يكن بذاتها [وأمريكا مجرد امتداد لها] بحضارتها ومفاهيمها وتصوراتها وعقائدها0
       وتاريخ أوروبا كله تاريخ جاهلية متصلة الحلقات!
       منذ القدم كانت الجاهلية اليونانية والجاهلية الرومانية 00
       ثم كانت جاهلية العقيدة المحرفة فى العصور الوسطى00
       وأخيراً كانت الجاهلية الحديثة، التى هى – فى جانب منها – ارتداد إلى الجاهلية اليونانية الرومانية، وفى جانب آخر ((تطور)) فى الجاهلية استحدثته الداروينية واستغلته عبقرية التدمير من جانب اليهود00
       وإذا كان موضوعنا الرئيسى فى هذا الكتاب هو الجاهلية الحديثة .. فإننا سنمر مجرد مرور على جاهلية العصور القديمة وجاهلية العصور الوسطى، بمقدار ما يلقى ذلك من الأضواء على الجاهلية الحديثة، التى لم تنبت فجأة، وإنما كانت لها جذورها العميقة فى التربة الأوروبية وفى أعماق التاريخ!
* * *
       الجاهلية اليونانية والجاهلية الرومانية هما الأساس الحقيقى ((للحضارة)) الأوروبية المعاصرة! ذلك ما تعترف به المصادر الأوروبية ذاتها، وإن كانت بطبيعة الحال لا تسميها جاهلية، وإنما تسميها حضارة0
       ولقد أفادت ((النهضة)) الأوروبية الحديثة كثيراً – بل كثيراً جداً – من الحضارة الإسلامية، كما تقول المصادر الأوروبية ذاتها، ولكنها – كما سنبين ذلك فى موضعه من هذا الفصل – لم تسر على الخط الإسلامى ولا الخط الربانى عامة بما أفادته من الحضارة الإسلامية، بل صبغت ذلك بالصبغة اليونانية الرومانية، وعادت إلى وثنيتها الأولى، يغشيها غشاء رقيق من المسيحية – كما صورتها الكنيسة الأوروبية – غشاء ظل يرق رويداً رويداً حتى تمزق نهائياً فى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين00
       ومن ثم يحسن أن نلم ببعض ملامح الجاهلية اليونانية والرومانية قبل التعرض لجاهلية القرن العشرين0
* * *
       الجاهلية اليونانية والجاهلية الرومانية هما الأساس الحقيقى ((للحضارة)) الأوروبية المعاصرة! ذلك ما تعترف به المصادر الأوروبية ذاتها، وإن كانت بطبيعة الحال لا تسميها جاهلية، وإنما تسميها حضارة0
       ولقد أفادت ((النهضة)) الأوروبية الحديثة كثيراً – بل كثيراً جداً – من الحضارة الإسلامية، كما تقول المصادر الأوروبية ذاتها، ولكنها – كما سنبين ذلك فى موضعه من هذا الفصل – لم تسر على الخط الإسلامى ولا الخط الربانى عامة بما أفادته من الحضارة الإسلامية، بل صبغت ذلك بالصبغة اليونانية الرومانية، وعادت إلى وثنيتها الأولى، يغشيها غشاء رقيق من المسيحية – كما صورتها الكنيسة الأوروبية – غشاء ظل يرق رويداً رويداً حتى تمزق نهائياً فى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين 00
       ومن ثم يحسن أن نلم ببعض ملامح الجاهلية اليونانية والرومانية قبل التعرض لجاهلية القرن العشرين0
* * *
       كانت الجاهلية اليونانية تحتوى فنوناً  وفلسفات ونظريات سياسية وتجريدات علمية نظرية0

       وتراثها فى هذه الجوانب تراث كبير 00
       وقد عنيت أوروبا فى ((نهضتها)) الحديثة بتتبع التراث اليونانى فى كل جوانبه، ودراسته دراسة مستفيضة، وتفصيصه إلى أدق جزئياته.. لأنه المعين الذى تقتات منه أوروبا فى عصرها الحديث0
       وما من شك فى أنه كان ((جهداً)) بشرياً رائعاً، فى تعدد جوانبه واتساع آفاقه..
       وما بنا أن نبخس الناس أشياءهم! وما بنا أن نحاسب الإغريق على جوانب نقص فى تفكيرهم أو جوانب انحراف.. فقد اجتهدوا جهدهم. ولم يكن لهم من معلم يقوم انحرافهم ويردهم إلى الصواب فيه. ولا كان فى وسعهم – بمفردهم – أن يقوموا هذا الانحراف00
       وإنما نريد فقط – بغير لوم موجه إلى أحد – أن نبين جوانب الانحراف فى . التراث اليونانى – والانحراف سمة دائمة من سمات الجاهلية – لأنها تفيدنا فى تبين ملامح الجاهلية الحديثة، التى تستمد غذاءها من ذلك التراث 0
       نقول : بغير لوم موجه إلى أحد .. أحد من أولئك الأقدمين، الذين اجتهدوا جهدهم ولم يجدوا من يهديهم. ولكنا لا نخلى من اللوم أولئك الذين يأخذون عنهم انحرافهم – فى الجاهلية الحديثة – بغير مبرر للانحراف .. إلا شهوة الانحراف!
       وفى التراث اليونانى أشياء كثيرة نافعة دون شك .. كما فى التراث المصرى القديم والتراث العربى القديم والتراث الفارسى القديم والتراث الهندى والصينى .. إلخ. ولكن هناك أ/رين يستحقان التنبيه فى هذا الشأن :
       الأول: أن أوروبا – فى جاهليتها الحديثة – قد بالغت مبالغة شديدة فى تضخيم التراث اليونانى – تعصباً منها لأوروبا! – حتى خيلت للناس أنه – فى جميع أحواله – القمة التى ليس بعدها قمة .. بل القمة التى يقاس إليها الوحى الإلهى ذاته فيصدق أو يكذب – وهو غالباً يكذب! – لأنه المحك الصادق الذى لا يوجد أصدق منه فى الوجود!!
       الثانى : أن إعجابنا ببعض جوانب هذا التراث – كإعجابنا ببعض  التراث المصرى  القديم  أو الفارسى أو الهندى أو الصينى – لا ينبغى أن يكون معناه إعطاء هذا التراث قيمة ((مطلقة))! فإنما يقاس دائماً إلى وقته. ولا ينبغى أن يكون معناه كذلك استيحاء هذا التراث فى انحرافاته الجاهلية التى ربما كان له عذر فيها، ولكن لا عذر لنا نحن فى استيحائها واتباعها، بعد إذ خرجنا – أو ينبغى أن نكون قد خرجنا – من الجاهلية إلى النور!
       وعلى هذا الأساس نعرض انحرافات التراث اليونانى .. أو الجاهلية اليونانية.
       هذه الجاهلية هى التى أوحت – ورسخت – فكرة الصراع بين البشر وبين الله! أو ((الآلهة))!
       وبصرف النظر عن الاعتقاد بتعدد الآلهة – وهو سمة كل جاهلية، قديمة أو حديثة، سواء كانت الآلهة مادية محسوسة أو معنوية، وسواء أكان هذا الاعتقاد مباشراً وواضحاً أم ضمنياً وخافياً – وبصرف النظر عن التعدد فى ذاته، فقد أضافت الجاهلية اليونانية إليه فكرة العداوة الضاربة بين البشر وأولئك الآلهة المزعومين00
       وخير مثال لذلك أسطورة بروميثيوس، سارق النار المقدسة 0
       ((فبروميثيوس)) كائن أسطورى كان الإله ((زيوس)) يستخدمة فى خلق الناس من الماء والطين. وقد أحس بالعطف نحو البشر، فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم. فعاقبه ((زيوس)) على ذلك بأن قيده بالسلاسل فى جبال القوقاز حيث وكل به نسر يرعى كبده طول النهار وتتجدد الكبد فى أثناء الليل، ليتجدد عذابه فى النهار. ولكى ينتقم ((زيوس)) من وجود النار المقدسة بين أيدى البشر أرسل إليهم ((باندورا)) – أول كائن أنثى على وجه الأرض – ومعها صندوق يشتمل على كافة أنواع الشرور ليدمر الجنس البشرى!! فلما تزوجها ((إيبيميثيوس)) – أخو ((بروميثيوس)) – وتقبل منها هدية ((الإله!)) فتح الصندوق فانتثرت الشرور وملأت وجه الأرض!!
       ((تلك طبيعة العلاقة بين البشر والله! النار المقدسة، نار ((المعرفة)) قد استولى عليها البشر سرقة واغتصاباً من الآلهة، ليعرفوا أسرار الكون والحياة، ويصبحوا آلهة! والآلهة تنتقم منهم فى وحشية وعنف، لتنفرد وحدها بالقوة، وتتفرد دونهم بالسلطان!))([1])0
       وقد قالت أوروبا – فى جاهليتها الحديثة – كلاماً كثيراً جداً عن الأساطير اليونانية المختلفة ، وعن هذه الأسطورة بالذات 00 قالت إنه صراع الإنسان لإثبات ذاته! إثبات وجوده! إثبات فاعليته فى الحياة! إثبات إيجابيته! وإن العصيان – عصيان الله – هو برهان الإيجابية والفاعلية وإثبات الذات!
       ولسنا هنا نناقش الجاهلية الحديثة00! وإنما نحن هنا نعرض فقط ألواناً من الجاهلية اليونانية ليتضح لنا كيف أثرت فى الفكر الأوروبى فيما بعد !
       إنه انحراف بشع تكاد تنفرد به – فيما أعلم – تلك الجاهلية اليونانية! فالجاهليات الأخرى- فيما أعلم كذلك – قد توهمت آلهة متعددة. وجعلت من بعض هؤلاء الآلهة آلهة شريرين صناعتهم الشر والانتقام والإيقاع بالإنسان بلا غاية سوى التدمير والإهلاك.. ولكن الجاهلية اليونانية وحدها هى التى اختصت بتصوير هذا الصراع المنفر بين البشر والآلهة، من إثبات فاعلية الإنسان وإيجابيته! فكتبت اللعنة على الإنسان: أنه لا يثبت ذاته إلا على حساب عقيدته. وأن ضميره لا يصطلح مع الله، فلا يقوم الوئام فى داخل نفسه بين رغبته الفطرية فى إثبات ذاته، ورغبته الفطرية فى الإيمان بالله!
* * *
       والجاهلية اليونانية هى التى قدست ((العقل)) على حساب الروح 0
       إنها، وهى تحاول – فيما تزعم لها الجاهلية الأوروبية الحديثة – أن تبرز كيان الإنسان، وقداسته، وإيجابيته، وعلو قدره، ورفعه جوهره، وارتفاع قيمته فى الحياة، قد أهدرت أرفع جوانبه وأعظمها – جانب الروح – فلم تلتفت إليه كثيراً كما التفتت إلى العقل، وجعلته سيد الإنسان!
       والعقل طاقة بشرية ضخمة تؤدى دورها الكامل فى إثبات وجود الإنسان وفاعليته وإيجابيته فى هذا الكون ما فى ذلك شك. ولكن الإيمان به وحده .. أو الإيمان به على حساب الروح.. هو انحراف جاهلى يصغر من قيمة هذا الإنسان فى النهاية، حين يجعله حيواناً عاقلاً فحسب، كما عرفته الفلسفة اليونانية! وهو فى حقيقته ((إنسان)).. كائن آخر غير الحيوان! إنسان رفيع بكيانه كله، لا بعقله وحده .. ورفيع بشموله وتكامله وترابطه، بصورة فريدة لا تتحقق إلا فى الإنسان([2])0
       ومن جراء هذا التقديس للعقل على حساب الروح، أو على حساب الجانب الملهم من الإنسان، حدثت جملة انحرافات فى الجاهلية اليونانية .. فما لا يستطيع العقل إدراكه يصبح شيئاً ساقطاً من الحساب. وكل الوجود يتناول من جانبه العقلى وحده .. بما فى ذلك الوجود الإلهى ذاته .. فالله – سبحانه – موجود بمقدار ما يستطيع العقل أن يدركه .. ولا وجود له إلا فى داخل تلك الإطار([3])! أما الإدراك ((الروحى)) لله فضعيف الأثر جداً فى الإنتاج اليونانى كله [وفى الجاهلية الحديثة من بعد!]0
       كذلك حدثت التجريدات الذهنية التى ملأت الفلسفة اليونانية – وهى نتيجة طبيعية للمبالغة فى الاهتمام بالعقل – والتى ظلت تستنفد طاقة أوروبا فى جاهليتها الوسطى حتى نبذتها فى عصرها الأخير بتأثير المذهب التجريبى الذى أخذته عن المسلمين، كما سنبين فيما بعد0
       وكذلك صارت ((الأخلاق)) قضايا ذهنية أكثر مما هى واقع عملى حى. وحقيقة إن ((الديمقراطية)) اليونانية كانت تربى أفرادها على فضائل اجتماعية معينة، ولكنها – بعقلها – لم تهتد مثلاً إلى الحاسة الخلقية فى أمر الفوضى الجنسية.. فتركتها بلا ضابط، وأدى بها ذلك إلى الدمار00
* * *
       تلك ((بعض)) انحرافات الجاهلية اليونانية، نمر بها سريعاً لأنها – كما قلنا – ليست نقطة ارتكازنا فى هذا البحث. ولكنا نود أن نخرج منها بمجموعة من الحقائق تنفعنا فى متابعة النظر فى أمر الجاهلية الحديثة وكل جاهلية فى التاريخ0
أولاً : أن وجود نبعض الفضائل أو المزايا أو الإنتاج الرفيع فى أية جاهلية – ولا تخلو أية جاهلية من مثل ذلك – لا يعنى أنها كانت تحيا حياة سليمة، ولا أنها صالحة للاتباع والاقتباس!
ثانياً : أن وجود هذه الفضائل والمزايا والإنتاج الرفيع فى أية جاهلية لا يرفع عنها وصمة الجاهلية! فإنها مصابة حتماً بانحرافات تشوه هذه المزايا كلها وتفسد حصيلتها فى النهاية!
ثالثاً : أن السبب الرئيسى فى هذه الانحرافات أن الجاهلية تحكم بأهوائها – أو بمعرفتها البشرية القاصرة .. سيان! – لأنها لا تعرف هدى الله، أو تعرفه وتنحرف عنه لتتبع سواه!
فإذا عرفنا هذه الحقائق المفيدة، نمضى فى استعراض الجاهلية الرومانية على نحو ما فعلنا فى جاهلية اليونان0
* * *
       الجاهلية الرومانية هى جاهلية المادة، وجاهلية الحواس!
       ولقد أبدعت هذه الجاهلية أشياء كثيرة نافعة للبشرية، كما أبدعت – من قبل – جاهلية اليونان00
       أبدعت ((التنظيم)) .. التنظيم السياسى والإدارى والحربى والمدنى00
       وأبدعت ((المدنية)) بمعنى استخدام الوسائل المادية والإنتاج المادى لرفاهية الناس وتيسير الحياة عليهم .. فأنشأت الطرق والجسور وخزانات الماء وقنواته، والحمامات، والمسارح والملاعب00
       وقد مر بنا – منذ سطور – أن الجاهلية – أية جاهلية – لا يمكن أن تخلو من بعض الخير وبعض النفع. كما مر بنا فى تلك السطور أن وجود هذا الخير النسبى لا يمنع الجاهلية من الانحراف! ولا يمنعها فى النهاية من الدمار !
       أعظم انحرافات الجاهلية الرومانية إيمانها العنيف بالمادة 00 على حساب الروح فالوجود هو الوجود المادى. الوجود الذى تدركه الحواس. أما الذى لا تدركه الحواس فهو شىء لا وجود له، أو فى القليل شىء ساقط من الحساب. ومن ثم كان أشد الجوانب ضحالة فى حياة الرومان جانب العقيدة!
       ومن أعظم انحرافاتها كذلك التضخيم الشديد لعالم الحس .. واللذائذ الحسية .. ومن ثم غرق الرومان فى متاع فاجر لا يقف عند حد .. متاع تجاوز لذائذ الجنس – البالغة حد الابتذال – إلى لذة الاستمتاع الوحشى بإراقة الدم والقتل والتعذيب والتمثيل، فى لعبتهم الوحشية المفضلة التى كانوا يجتمعون لمشاهدتها وينفقون فى سبيلها بسخاء، والتى كان يتصارع فيها الأرقاء – المدربون للقتل والموت! – يتصارعون بالسيوف والخناجر، يشقون بطون بعضهم البعض، ويقطعون أوصال بعضهم البعض، ويريقون دماء بعضهم البعض.. والوحوش من ((سادة)) الرومان يتابعون المنظر بلذة وشغف، ويصل المرح منهم أقصاه حين تنتهى المبارزة الوحشية بقتل أحد المتلاعبين أو كليهما فى حلبة الصراع!
       ومن أعظم انحرافاتها كذلك ((العدل)) الرومانى الشهير .. للرومان فقط ! هم وحدهم يستمتعون بالعدالة! أما بقية العبيد .. وهم كل الشعوب المستعمرة المستغلة التى تكون الإمبراطورية الرومانية الواسعة، فهم عبيد! لا عدالة لهم ولا حقوق. وعليهم فقط واجبات!
       تلك ((بعض)) انحرافات الجاهلية الرومانية .. الشهيرة فى التاريخ!
* * *
       فإذا انتقلنا إلى العصور الوسطى فثمت جاهلية نوع آخر .. جاهلية العقيدة المحرفة0
       يقول دريبر الأمريكى فى كتابه ((النزاع بين الدين والعلم)) :
       ((دخلت الوثنية والشرك فى النصرانية بتأثير المنافقين، الذين تلقدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية فى الدولة الرومية، بتظاهرهم بالنصرانية ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوماً من الأيام .. وكذلك كان قسطنطين. فقد قضى عمره فى الظلم والفجور؛ ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً فى آخر عمره (سنة 337م))0
       ((إن جماعة النصرانية، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من قطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء00 هنا يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتا، ونشر عقائده خالصة بغير غبش00
((وإن هذا الإمبراطور الذى كان عبداً للدنيا، والذى لم تكن عقائده الدينية تساوى شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين – النصرانى والوثنى – أن يوحدهما ويؤلف بينهما: حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة! وأن الدين النصرانى سيخلص فى عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها!))([4])0
وتكفينا هذه الشهادة من كاتب مسيحى غربى، لإثبات الانحراف الذى وقع فى أوروبا عن العقيدة الصحيحة، ولا نحتاج معها أن نخوض فى التفصيلات.. وإنما يهمنا أن نشير إلى جملة انحرافات فى الحياة الواقعية للجاهلية الأوروبية فى العصور الوسطى 00 التى كانت – فى ظاهر الأمر- تعيش فى ظلال الدين!
كانت المسيحية – ككل دين منزل من عند الله – عقيدة وشريعة. وإن كانت لم تأت بتفصيلات تشريعية فذلك لأن شريعتها الأساسية كانت التوراة، مع التعديلات غير الكثيرة التى نزلت على عيسى عليه السلام فى الإنجيل: ((ومصدقاً لما بين يدى من التوراة، ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم))([5]) فكان المفهوم الطبيعى للمسيحية أن تحكم بشريعة الله المنزلة فى التوراة مع مراعاة التعديلات الواردة فى الإنجيل0
ولكن الذى حدث بالفعل لم يكن كذلك 0 فعلى الرغم من النفوذ الضخم الذى زاولته الكنيسة فى أوربا فى العصور الوسطى، فلم تكن الشريعة الإلهية مطبقة فى غير قانون ((الأحوال الشخصية)).. أما واقع الحياة الأكبر فلا تحكمه شريعة الله، وإنما يحكمه القانون الرومانى.. أو – إن شئت – تحكمه الجاهلية الرومانية القديمة!
وهذا بين الدين والحياة الواقعة – على الرغم من نفوذ الدين الغالب على مشاعر الناس وتصوراتهم – كل سمة خطرة فى جاهلية العصور الوسطى فى أوروبا .. وإن لم يكن أخطر السمات!
لقد مضت الكنيسة تزاول سلطانها على القلوب والمشاعر – وإن كانت مع ذلك لا تجد بأساً فى أن يأخذ القانون الرومانى مكانها فى واقع الحياة – وذهبت فى فرض هذا السلطان إلى المدى الذى جاوز كل حد معقول. فقد احتجز الكهنة لأنفسهم ملكوت السماء واحتكروه! فلا يدخلون فيه إلا من رضى عنهم ورضوا عنه. أما الآخرون فهم ((محرومون)) من الرضوان0
وراحت الكنيسة تفرض على الناس ضرائب مالية وعقلية وروحية فادحة! فالعشور والإتاوات والعمل المجانى فى أراضى الكنيسة الإقطاعية، والتجنيد فى جيوشها التى تحارب بها الملوك العصاة وتؤديهم.. ذلك لون من السلطان المفروض على العباد. والخضوع المذل لرجال الدين، الذى يبلغ حد السجود فى الأرض الموحلة بالطين عند مرور أحد من رجال الكهنوت، لون آخر من السلطان. والأفكار ((العلمية)) الزائفة التى تفرضها على العقول وتعاقب من يخالفها بالحرمان، أو التعذيب حتى الموت، لون ثالث من السلطان الجائر الغشوم. فلما أثبت العلم النظرى والتجريبى بطلان هذه النظريات على يد جرادنو وكوبرنيكوس وجاليليو راحت الكنيسة تعذبهم حتى يموتوا أو يرتدوا عما هم فيه !
ولم تكتف الجاهلية القائمة باسم الدين بهذا كله، وإنما ذهبت شوطاً أبعد، حين انقلبت الأديرة الرهبانية المقامة للتبتل والعبادة – تطوعاً دون فرض – ((ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)).. انقلبت إلى مباءات ترتكب فيها كل الجرائم الخلقية من سوية وشاذة .. بين الرهبان أنفسهم والراهبات! : ((ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم – إلا ابتغاء رضوان الله – فما رعوها حق رعايتها))([6])0
وأخيراً كانت مهزلة صكوك الغفران الشهيرة فى التاريخ 00 التى حولت أمر الدين إلى مهزلة ضخمة لا جدية فيها ولا ((حقيقة)) وإنما لهو وعبث وتدليس ومجون 000
وتلك ((بعض)) انحرافات الجاهلية التى قامت فى العصور الوسطى فى أوروبا 00 باسم الدين0
* * *


تاريخ اروبا الجاهلية قديما

العصور الوسطى في أوروبا

تاريخ اوروبا في العصور الوسطى

تاريخ أوروبا القديم

تاريخ اوروبا في العصور الوسطى للدكتور محمود سعيد عمران

تاريخ اوروبا الحديث والمعاصر

ملخص تاريخ اوروبا الحديث والمعاصر

اسئلة تاريخ اوروبا في العصور الوسطى

تاريخ اوروبا في العصور الوسطى سعيد عاشور

 تاريخ أوروبا الحضارة اليونانية الرومانية

تاريخ اوروبا في العصور الوسطى

العصور الوسطى في أوروبا

تاريخ أوروبا القديم

تاريخ اوروبا الحديث والمعاصر

ملخص تاريخ اوروبا الحديث والمعاصر

تاريخ اوروبا في العصور القديمة

تاريخ اوروبا في العصور الوسطى للدكتور محمود سعيد عمران

تاريخ اوربا في العصر الحديث



[1] عن كتاب ((منهج الفن الإسلامى))0
[2] انظر كتاب ((دراسات فى النفس الإنسانية))
[3] يقول تعالى : ((لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)) ويقول تعالى : ((ليس كمثله شىء)). وقد تخبطت الفلسفة اليونانية تخبطاً ذريعاً فى حديثها عن الحقيقة الإلهية، فى حدود إدراك العقل البشرى القاصر، وكل إنتاجها فى هذا السبيل لا يزيد على لغو باطل. فضلا عن كونه لم يؤثر تأثيراً حقيقياً فى واقع البشرية ولا فى قضية العقيدة. فإن أحداً لم يؤمن بالله عن طريق التجريدات الذهنية الفلسفية.. ولا كانت هذه التجريدات الفارغة عنصراً قائماً فى وجود أمة مؤمنة أو مجتمع فاضل فى التاريخ!
[4] عن كتاب ((ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)) للسيد أبى الحسن الندوى
[5] سورة آل عمران (50) 0
[6] سورة الحديد (27)0

Previous Post Next Post