إسهامات المسلمين في الطب النفسي
تاريخ الطب النفسي في بلاد المسلمين
ابداع الطب النفسي العربي الإسلامي وأثره في الآخر
العلاج النفسي الديني
حكم المرض النفسي في الاسلام
المريض النفسي مرفوع عنه القلم
العلاج النفسي الديني
الصحة النفسية في الاسلام
تاريخ الامراض النفسية
تاريخ الطب النفسي في بلاد المسلمين
الاطمئنان النفسي الديني

ما أهم اسهامات العلاج النفسي عند علماء المسلمين؟
حرص الباحثان على التعريف الموجز ببعض علماء المسلمين موضوع الدراسة قبل أن نقدم  اسهاماتهم في مجال العلاج النفسي.
أبو بكر الرازي: هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب الذائع الصيت وأعظم طبيب في الإسلام وفي العصور الوسطى في الشرق والغرب معاً (فروخ، 1979: 318).
  ولد في مدينة الري جنوب طهران، عام 864م، وتوفي عام 924م، له مؤلفات كثيرة منها (232) كتاباً ورسالة أغلبها في الطب وبعضها في المنطق والطبيعيات، وماوراء الطبيعة والبصريات، وعلم النفس، وبعض من كتبه في علم النفس: كتاب كبير في النفس، كتاب في الفرق بين الرؤيا المنذرة وبين سائر ضروب الرؤيا، كتاب في المحبة، كتاب في الأوهام والحركات النفسانية، وكاب الطب الروحاني (نجاتي، 1993: 39).

مسكويه: هو أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب مسكويه، ويطلق عليه اسم أبي علي الخازن، ولقب بالخازن؛ لأنه كان خازناً للكتب عند الملك عضد الدولة بن بويه، ولد في الري عام 330هـ، وعمر طويلاً ومات عام 421هـ، وكان مسكويه معاصراً لابن سينا( بدوي، 1980: 20-21).
وكتب مسكويه في الطب والتاريخ والأخلاق، وعلم النفس، ومن أشهر كتبه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، وكتاب الفوز الأصغر، وكتاب السعادة، وكتاب رسالة في اللذات والآم في جوهر النفس، وكتاب أجوبة وأسئلة في النفس والعقل، وكتاب طهارة النفس ( بدوي، 1980: 23).
الغزالي: هو أبو حامد محمد بن محمد الغزالي المعروف بحجة الإسلام وزين الدين، ولد عام 1058م، بعد ربع قرن من وفاة ابن سينا، وكان مولد في بلدة طوس إحدى مدن خراسان، ويقال إنه ولد في بلدة الغزالة وهي في ضاحية طوس، فهو إذن فارسي الأصل، توفي عام 1085م، ألف كثير من الكتب في الفنون، الفقه وأصوله، علم الكلام، ومعتقدات السلف، والرد على الباطنية، وعلم الجدل، والفلسفة والمنطق، والتصوف، والأخلاق وعلم النفس، ومن أشهر كتبه في علم النفس: إحياء علوم الدين، ومعارج القدس في مدارج معرفة النفس، وكيماء السعالدة، ومقاصد الفلاسفة، ومعيار العلم ، وتهافت الفلاسفة (نجاتي، 1993: 161).
فخر الدين الرازي: هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري، الملقب بفخر الدين الرازي وهو مجدد دين الأمّة على رأس المائة السادسة الهجرية، وأكبر مفكر إسلامي جاء بعد الإمام الغزالي ( خليف، 1977: 6-7).
ولد بالري وهي مدينة تقع شرق طهران عام 1150م ، نشأ في أسرة معروفة بالعلم والفضل، توفي عام 1220م في مدينة هراة، له مؤلفات عديدة قدّرت بما يزيد عن مائتي مؤلف، في التفسير وعلم الكلام، وأصول الفقه، والحكمة، والجدل، والنحو، والأدب، والطب، والهندسة، وعلم النفس، وعلم الفراسة، والأخلاق، والملل والنحل ( ابن خلكان، د.ت: 249)، ومن كتبه في علم النفس: كتاب النفس والروح وشرح قواهما، وكتاب المطالب العالية من العلم االإلهي،وكتاب الفراسة ( ابن كثير، د.ت: 55).
ابن تيمية: هو أحمد تقي الدين بن تيمية الملقب بشيخ الإسلام وهو سليل أسرة كريمة اشتهرت بالعلم والدين، ولد بحرّان سنة 1263م، وعاش فيها بضع سنين ثم انتقل مع أسرته إلى دمشق سنة 667هـ ، عندما أغار التتار على حرّان واشتغل أبوه عبد الحليم بن تيمية بالتدريس في الجامع الأموي بدمشق ودرس الفقه والحديث والتفسير وعلوم العربية، وكان يحضر رغم صغر سنه مجالس التدريس عند والده وغيره من العلماء، واشتهر بسرعة الحفظ وقوة الذاكرة، وشهد له بذلك أساتذته وتلاميذه، وأخذ في تفسير القرآن أيام الجمع في المسجد، وبلغ من بلوغه أنه تأهل للتدريس والفتوى قبل أن يتم العشرين من عمره، ثم قام بوظائف أبيه العلمية بعد وفاته وهو في سن واحد وعشرين سنة(موسى، 1962: 66-70).
لابن تيمية مؤلفات كثيرة بعضها كتب مطولة، وبعضها رسائل صغيرة، في شتى موضوعاتالعلوةم المعروفة في عصره: في التفسير، وأصول الدين، وأصول الفقه، وفي الفتاوى، وفي المنطق، والتصوف، والفلسفة، وما يهم الباحث ما تناوله ابن تيمية بموضوعات تتعلق بعلم النفسوهي: فصل في مرض القلوب وشفائها، رسالة في العقل والروح، وكتاب العبودية (نجاتي، 1993: 268-269).
ابن قيم الجوزية: هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي أبو عبد الله شمس الدين الشهير بابن قيم الجوزية ولد بدمشق سنة 1292م ونشأ في أسرة كريمة ذات علم وفضل، فكان أبوه عالماً وقد كان ابن القيم من أركان الإصلاح الإسلامي شهد له العلماء بالفضل والعلم وعن ي بالحديث وفنونه، وبالفقه، والشريعة، وعلم الكلام، والتصوفل، واللغة العربية، والنتحو، وكان تلميذاً لابن تيمية وكان يحبه ويلازمه، ويؤيده في أقواله، وينتصر له، توفي عام 1350م، ومن مؤلفاته في علم النفس خاصة: كتاب الروح، وكتاب تحفة المودود بأحكام المولود، وكتاب مفتاح دار السعادة، وكتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين، وكتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين، وكتاب رسالة في أمراض القلوب (شرف الدين، 1984: 67).
ناقش ابن قيم الجوزية كثيراً من الانفعالات والعواطف الهامة في حياة الإنسان، مثل الحزن والخوف والمحبة والشوق والعشق (ابن العريف، 1980:232-233).
       
وفيما يلي أهم اسهامات هؤلاء العلماء في العلاج النفسي:
         دعا علماء العلاج النفسي عند المسلمين إلى الأفكار التي ذكرت في القرآن الكريم ولكن بصورة مفصلة من خلال تطبيقات عملية لها وذلك على النحو التالي:
أولاً - أبو بكر الرازي: تناول أبو بكر الرازي مشكلة "الغم" واعتبره  عرض عقلي يحدث من فقد المحبوب، وللتخلص من حالة الغم(الحزن)، أي حالة الاكتئاب التي تصيب الفرد، على فقده لأحبائه، والتي تكدّر الفكر والعقل وتؤذي النفس والجسد، فلابد من الاحتراس منه قبل حدوثه لئلا يحدث، أو يكون ما يحدث أقل ما يمكن، أو دفع ما قد حدث ونفيه كله، أو يضعف ما يحدث منه (الغزالي،د.ت:  156- 157).
ولدفع الغم والحزن وأعراض الاكتئاب فقد اتبع الرازي عدة سبل في ذلك منها:
1-    لما كانت أسباب الغموم هي فقد المحبوبين، ولما كان من غير الممكن تجنّب فقدهم  
    بسبب التغير الدائم للأحوال في هذه الدنيا، وجب أن يكون أكثر الناس وأشدهم غماً 
    من كان محبوبيه أكثر عدداً، وكان لهم أشد حباً، والعكس صحيح، لذلك ينبغي على 
    العاقل أن يتجنب أسباب الغموم بأن يتجنب الأشياء التي يسبب فقدها غماً، ولا ينبغي 
    عليه أن ينخدع بما تدثه له أثناء وجودها من متعة وحلاوة بل عليه أن يتصور ما يسببه 
     فقدها من مرارة وألم (نجاتي، 1993: 47-48).
2-    يحسن أن يكثر المرء من تصور فقد محبوبيه، ويذكر أنها ليست مما يمكن أن يبقى 
    ويدوم، وأنه سوف يكون أكثر جلداً متى حدث ذلك؛ فإن ذلك تمرين وتدريج ورياضة
3-    وتقوية للنفس على قلة الجزع عند حدوث المصائب، قال تعالى: " ولنبلونكم بشيء من 
    الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا 
    أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون" (البقرة، 155-156).
4-    يمكن للمرء أن يحتال الاحتراس من وقوع الغمّ من فقد محبوبيه بأن لا يجعل محبوب واحد لديه من محبوبيه حتى لا ينفرد بحبه الشديد، بل يجب أن يفرد محبوب آخر ينوب عنهإن فقد.
   وهكذا نرى بأن الرازي اتبع أسلوب العلاج النفساني السلوكي المعرفي، فهو يمد الفرد       
المطلوب علاجه من سوء الخلق، أو من العشق، أو من الغمّ، بكثير من المعلومات المفيدة التي تعينه على الاقتناع بأهمية التخلي عن سلوكه المعيب السيء، وتعلم سلوك حسن مقبول بديلاً منه.
ثانياً- مسكويه:  عالج " الخوف من الموت"  بعد أن بيّن أسبابه، فقال: أمّا من جهل حقيقة الموت؛ فإن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال البدن، والنفس جوهر غير جسماني، مفارق لجوهر البدن، فإذا فارق البدن بقي البقاء الذي يخصه، ونقي من الكدر وسعد السعادة التامة.
 وأما من خاف الموت؛ لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه، فقد انحلت ذاته، وبطلت نفسه، وجهل بقاء النفس، وكيفية المعاد، فليس يخاف الموت على الحقيقة، ونما يجهل ما ينبغي أن يعلمه، فالجهل إذاً هو المخوف، أي هو سبب الخوف ( فؤاد،1947 :175).
   والخلاص من هذا الجهل هو العلم بأن النفس جوهر شريف إلهي، لذلك تخلّص من الجوهر الكثيف الجسماني، فقد سعد وعاد إلى ملكوته، وقرب من بارئه، وفاز بجوار ربه، وخالط الأرواح الطيبة من أشكاله وأشباهه، وأمّا من ظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما اتفق على أن تتقدم الموت وتؤدي إليه، فهذا ظن كاذب؛ لأن الألم إنما يكون للحي، والحي هو القابل أثر النفس، وأما الجسم الذي ليس فيه أثر النفس؛ فإنه لا يألم ولا يحس ، فإذاً الموت الذي هو هو مفارقة النفس للبدن لا ألم له (نجاتي، 1993: 91).
وأما من خاف الموت لأجل العقاب الذي يوعد به بعد، فهو ليس يخاف الموت؛ بل يخاف العقاب، والعقاب يكون على شيء باق بعد البدن الدائر، فهو إذاً خائف من ذنوبه، لا من الموت، ومن خاف عقوبة على ذنب فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب ويتجنبه ( فؤاد،1947 :177).
   ومن خاف الموت لأنه لا يدري على ما يقدم عليه بعد الموت، فإن سبب هذا الخوف هو الجهل وعلاجه أن يعلم ويتعلم سلوك الطريق المستقيم الموصل إلى السعاد الأبدية.
  يتبين لنا ممّا تقدّم أن السبب الحقيقي للخوف من الموت من وجه نظر مسكويه هو الجهل، وأن علاج هذا الخوف هو العلم، والعلم يبدد هذه الجهالات والظنون الكاذبة التي تتعلق بالموت، وبمصير الإنسان بعد الموت، والأسلوب الذي يعالج به مسكويه الخوف من الموت هو تعليم المصابين به جميع الحقائق المتعلقة بالموت، وتعريفهم الأسباب الحقيقية لخوفهم منه، وأنها في الحقيقة أوهام كاذبة لا أساس لها من الصحة، (وعلى ذلك يعتبر مسكويه رائداً للعلاج النفسي السلوكي المعرفي، فقد سبق المعالجين النفسانيين السوكيين المعرفيين المحدثين بحوالي عشرة قرون تقريباً) (نجاتي، 1993: 92).

ثالثاً- الغزالي: وعلى عجالة  سيكتفي بهذا العالم الجليل في أسلوبه في تعديل السلوك للفرد، فصحة البدن في اعتدال مزاجه، ومرض البدن ينشأ عن ميل مزاج البدن عن الاعتدال فالاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض (الغزالي، د.ت : 57).
       ويتم " علاج البدن"  بمحو العلل عنه والعوارض التي أخلت باعتدال مزاجه، وكسب الصحة له برد مزاجه إلى الاعتدال، وعلاج النفس يتم بمحو الرذائل والأخلاق السيئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الحسنة إليها، وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال، وتعتري المعدة المضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلاً صحيح الفطرة، وإنما أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، أي بالاعتياد والتعليم تكسب الرذائل، وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً؛ وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء، وكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم، وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها فإن كانت من حرارة فالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذبك الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخّي ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهي تكلفاً (نجاتي، 1993: 193-194).
ويصف الغزالي أسلوبه في علاج " أمراض القلب " بأنه سلوك مسلك المضاد لكل ما تهواه النفس وتميل إليه، قال تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " (النازعات، 40)، فعلاج الخلق أو السلوك الشيء هو تكلف فعل الخلق أو السلوك الحسن المضاد، والاستمرا على فعله حتى يصير عادةً وطبعاً، وبهذه الطريقة يزول الخلق أو السلوك السئ ويحل محله الخلق أو السلوك الحسن، وإذا كان الخلق السيء المطلوب علاجه متأصلاً ومستقراً في السلوك، فالغزالي ينصح باتباع طريقة اللتدرج في علاجه، وذلك بأن ينقل الفرد من الخلق السيء إلى خلق آخر أخف منه، ويستمر على هذا النحو حتى يتخلص نهائياً من الخلق السيء المطلوب علاجه في الأصل (الغزالي، د.ت : 62).
       يلاحظ التشابه الكبير بين أسلوب الغزالي في استخدام طريقة التدريج في علاج الخق السيء وبين أسلوب الكندي وأبو بكر الرازي في استخدجام نفس هذه الطريقة في علاج الأول للحزن، وفي تخلص الثاني من الهوى والشهوات، وهذا ما بينه رب العالمين في القرآن الكريم في علاج تعاطي الخمر والربا، إذ لم يحرمها دفعة واحدة بل تدرج في ذلك، فقام بتنفير الناس منهما بطريقة تدريجية حتى انتهى الأمر بتحريمهما تحريماً تاماً، ولم يستخدم المعالجون النفسانيون السلوكيون المحدثون هذه الطريقة في تعديل السلوك إلا في القرن العشرين  
                                                                           (نجاتي، 1993: 194 – 195).

رابعاً- فخر الدين الرازي: عالج فخر الدين الرازي البخل بطريقة العلم ، وكذلك بطريقة العمل، وكذلك الأخلاق الذميمة بالتدرج في تعديل السلوك وبذلك فإن طريقة الرازي لا تختلف عن طريقة الغزالي في علاجه البخل بطريق العمل، وهذا يشبه كثيراً الأساليب التي يتبعها المعالجون النفسانيون السلوكيون المحدثون في علاج اضطرابات السلوك، وبخاصة أسلوب علاج السلوك السيء بضده (نجاتي، 1993: 266).
خامساً- ابن تيمية: لم يهتم ابن تيمية بعلاج الأمراض النفسانية فحسب، بل اهتم أيضاً بالوقاية منها قبل حدوثها، فالواجب الاحتماء عن سبب المرض قبل حصوله، وإزالته بعد حصوله، فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها حفظ الصحة ابتداءً وإلى إعادتها، فقد اعتبر ابن تيمية أن القرآن الكريم شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات، ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة، ما يوجب صلاح القلب، فيرغب القلب فيما ينفعه، ويرغب عما يضره (نجاتي، 1992: 95).
وقد عالج ابن تيمية بعض الأمراض النفسية:
أ- الحسد: وهو مرض نفساني ويعني البغض والكراهة لما يراه الحاسد من حسن حال المحسود، وهذا الحسد نوعان: أحدهما: كراهة النعمة على المحسود مطلقاً، ويتألم الحاسد ويتأذى بوجود النعمة على المحسود، ويتلذذ بزوالها عنه، وهذا هو الحسد المذموم، وثانيها: أن يكره الحاسد فضل المحسود عليه، فيجب أن يكون مثله، أو أفضل منه، وهذا ما يسمى بالغبطة، وقد سميّ ذلك حسداً؛ لأن مبدأه هو كراهة أن يكون غيره أفضل منه، أمّا من أحبّ أن ينعم الله تعالى عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس فهذا ليس عنده من الحسد شيء، وغالب الناس يبتلون بهذا النوع من الحسد، وقد يسمى هذا النوع أيضاً المنافسة، والتنافس ليس مذموماً مطلقاً بل هو محمود في الخير، قال تعالى: " إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" (المطففين، 22-26).
  فمرض الحسد شائع بين الناس وخاصة بين النساء المتزوجات منهن بزوج واحد، وهو يقع كثيراً أيضاً بين المتشاركين في رئاسة، أو مال إذا أخذ أحدهم قسطاً من ذلك وفات الآخر، وبين النظراء لكراهة أن يفضل أحدهما عليه كحد أخو بوسف عليه السلام، فمن وجد في نفسه حسداً لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر فيكره ذلك في نفسه، وينهي نفسه عنه (نجاتي، 1992: 133).
العشق: وهو مرض نفساني وهو المحبة المفرطة الزائدة عن الجد المحمود، وإذا قوي أثّر في البدن فصار مرضاً في الجسم، إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا، ولهذا قيل فيه هو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا، وإما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك (نجاتي، 1993: 278).
         ومريض البدن قد يشتهي ما يضره، فإذا لم يطعم ذلك تألم، وإذا أطعم ذلك زاد مرضه، فكذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدةً وملامسةً وسماعاً، بل ويضره التفكير فيه، والتخيل له، وهو يشتهي ذلك، فإن مُنع من مشتهاه تألم وتعذب، وإن أعطي مشتهاه قوي مرضه، وكان سبباً لزيادة الألم.
         فالقلب خلق لأجل حب الله تعالى وهذه هي الفطرة التي فطر الله بها عباده، فإذا تركت الفقطرة بلا فساد كان القلب عارفاً بالله عابداً له وحده، فحب الله وحده وإخلاص الدين له يقي القلب من حب أحد غيره، فضلاً عن الابتلاء بالعشق، والقلب المحب لله المنيب إليه، الخائف منه، يصرفه عن العشق أمران: أحدهما إنابته إلى الله ومحبته له فلا تبقى مع محبة الله محبة لمخلوق تزاحمه، وثانيهما: خوفه من الله، فإن الخوف الشديد من الله مضاد للعشق يصرفه.
      ولما كانت الصحة سواء كانت صحة الأبدان أو صحة النفوس، تحفظ بالمثل، والمرض يُدفع بالضد، فإن صحة القلب بالإيمان تحفظ بالمثل، وهو ما يورث القلب إيماناً من العلم النافع والعمل الصالح، فتلك أغذية له.
         ويلاحظ ابن تيمية قد استخدم في علاج العشق أسلوب العلاج بالضد، وهو الخوف من الله تعالى، فالخوف هو ضد الحب، وعلاج الحسد بالتقوى وكراهية الحاسد ذلك في نفسه، وتقوى الله تعالى، وكراهية الحسد إنما يحدثان حالة نفسية مضادة للحسد وتعمل على مقاومته، فأساس علاج الأمراض النفسانية عند ابن تيمية هو إذن العلاج بالضد كما فعل ابن حزم والغزالي من قبل ( ابن تيمية، د.ت: 136).
سادساً- ابن قيم الجوزية: ردّد ابن قيم الجوزية آراء أستاذه ابن تيمية في المقارنة بين مرض البدن، ومرض القلب، أي مرض النفس، وفي طرق حفظ صحتهما، كما تناول ابن القيم أطوار نمو الإنسان بالدراسة فذكر ما جاء بشأنها في القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وما وصل إليه علم التشريح في ذلك الوقت، فذكر قول الله تعالى: ﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون﴾ (المؤمنون، 12-16).
         فقد ذكر ابن القيم اختلاف العلماء في أول ما يتشكل ويخلق من أعضائه، هل هو القلب، أم الدماغ أم الكبد، وذكر الأدلة التي يستند إليها كل طائفة من هؤلاء العلماء (ابن قيم الجوزية، 1971: 245-247).
        وذكر تكوّن حجب ثلاثة حول الجنين، وهي التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث﴾ (الزمر، 5)، كما ذكر بكاء الطفل عند ولادته لانفصاله عن الرحم، ومفارقته لما ألفه واعتاده في جميع أحواله دفعة واحدة، كما يضحك الطفل عند الأربعين، وذلك أول ما يعقل نفسه، وإذا تم له شهران رأى المنامات، ثم ينشأ معه التمييز والعقل، على التدريج شيئاً فشيئاً حتى سن التمييز، فإذا دخل سن التمييز أمر بالصلاة، فإذا صار ابن عشرة ازداد قوة وعقلاً واحتمالاً للعبادات، فيضرب على ترك الصلاة، وبعد أن يصل الصبي إلى مرحلة البلوغ بأخذ في الدخول في مرحلة بلوغ الأشد، وهي مرحلة تبدأ من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرجال إلى أربعين سنة، ثم بعد الأربعين يأخذ الإنسان في النقصان وضعف القوى على التدريج، فيأخذ في الكهولة إلى الستين، ثم يأخذ في الشيخوخة، ثم تنحط قواه ويصبح هرماً فإذا تغيرت أحواله وظهر نقصه فقد سار على أرذل العمر (ابن قيم الجوزية، 1971: 300-302).
         يتضح ممّا تقدم اهتمام ابن القيم الجوزية بمراعاة استعدادات الفرد في توجيهه التربوي، والمهني، وفي نموه منذ أن كان نطفة إلى أن يصبح شيخاً هرماً وهو أمر عُني به علماء النفس المحدثون اهتماماً كبيراً.


Previous Post Next Post