ملامح الجاهلية الحديثة

00
        فالجاهلية هى الانحراف عن عبادة الله الحق، هذه العبادة التى تتمثل فى التحاكم إليه وحده فى أمر الحياة كله. ثم ما يترتب على هذا الانحراف من اضطراب وتوزع، وتمزق وتشتيت. اضطراب فى النظم واضطراب فى الأفكار. اضطراب فى علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بالكون والحياة من حوله، وعلاقته بأخيه الإنسان0
        ولم يحدث قط فى التاريخ انحراف عن عبادة الله الحق، دون أن يتبعها انحراف فى علاقات الإنسان إلى ذلك أم لم يتنبه، وأراد أم لم يرد! فإذا صحت العقيدة استقام الكيان كله، واستقامت خطواته، وإذا اضطربت العقيدة سرى إلى الكيان كله ذلك الاضطراب0
        ومن الوجه الآخر لم يحدث اضطراب فى الأرض مع استقامة فى عبادة الله !
        قد توجد العقيدة. نعم. ولكن مجرد وجودها ليس هو الفيصل فى هذا الأمر. وإنما هو الوجود الحى المتحرك، الشامل المتكامل. والوجود الذى يشمل الإنسان كله، لا جزءاً منه دون جزء. يشمل مشاعره وسلوكه فى ذات الوقت. يشمل مبادئه وواقعه، وتصوراته وأعماله0
        وكل وضع خلاف ذلك – سواء وجدت فيه عقيدة متجهة إلى الله أم لم توجد – هو لون من الجاهلية، ينطبق عليه اسم الجاهلية، وتصيبه عواقبها الحتمية التى لا تتخلف00 لأنها سنة الله0
* * *
وقد كان العرب فى الجاهلية يعرفون الله، ويؤمنون بوجوده. ويتوجهون إليه 00 ولكنه توجه سقيم!
يقول القرآن الكريم عن العرب فى الجاهلية :
(( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله!))([1])
((ولئن سألتهم من خلقهم؟ ليقولن الله!))([2])0
((قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟ أمن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى، ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون الله!))([3])0
((قل : لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله! قل: أفلا تذكرون؟
قل: من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله! قل: أفلا تتقون؟

قل: من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله!
قل: فأنى تسحرون؟))([4])0
وإذن فقد  كانوا يعرفون الله، وكانوا يؤمنون بأنه الخالق المدبر الذى بيده ملكوت كل شىء!ثم لا يتبعون هذه المعرفة نتائجها الطبيعية المنطقية التى لابد أن تترتب عليها0
ولكن جاهليتهم أنهم لم يكونوا يعرفونه على حقيقته – سبحانه – ولا يؤمنون به الإيمان الحق. ولا يحكمونه وحده فى أمرهم كله0
((وما قدروا الله حق قدره))([5])0
كانوا يعرفونه ثم لا يتبعون هذه المعرفة نتائجها الطبيعية المنطقية التى لابد أن تترتب عليها0
يعرفونه ثم يعبدون معه آلهة أخرى00 ذلك من حيث الاعتقاد الوجدانى0
ويعرفونه ثم لا ينفذون شريعته ولا يتحاكمون إليه وحده فى أمرهم كله 00 ذلك من حيث السلوك الواقعى0
وبهذه وتلك كانوا كفاراً 00 وكانوا جاهلين00
وكانت الجاهلية التى يندد بها القرآن شاملة لهذه وتلك0
فأما فى قضية الاعتقاد فلم يشفع لهم – وما كان يمكن أن يشفع – أنهم لا يعبدون هذه الأصنام – أو الآلهة – لذاتها، وإنما لتقربهم إلى الله : ((ألا لله الدين الخالص. والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى! إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون. إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار))([6])0
وأما قضية الشريعة فقد شدد القرآن فيها تشديداً لأنه لا انفصال بينها وبين قضية الاعتقاد، وما يمكن أن يوجد إيمان مع الانحراف عن شريعة الله، وتحكيم غير الله فى شأن من شئون الحياة:
((إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتى ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى موعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك. فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟))([7])0
((ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه. وإنه لفسق. وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم. وإن أطعتموهم إنكم لمشركون))([8])0
قضية الشريعة إذن كقضية العقيدة، لا فرق بين هذه وتلك: إما الحكم بما أنزل الله وإما الجاهلية والشرك. فالمعرفة بالله الحق، والإيمان الصحيح به، يستتبعان إفراده – سبحانه – بالحاكمية كإفراده بالألوهية. لأنه هو الخالق والمالك، ومن ثم فهو – وحده – الذى ينبغى أن يطاع، وشرعه – وحده – هو الواجب الاتباع. والعقيدة والشريعة قضية ذات شقين، تنبعان من أصل واحد وتلتقيان فى غاية واحدة والأصل والغاية هما الإيمان بالله والإسلام له0
والسمة الأولى لكل جاهلية – السمة التى تجعل منها جاهلية – هى عدم الإيمان الحق بالله أو عدم الإسلام له فى أى شأن . يستوى فى ذلك العقيدة والشريعة، بلا انفصال ولا افتراق0
الإيمان يقتضى إفراد الله – سبحانه – بالألوهية، والإسلام يقتضى إفراد – سبحانه – بالحاكمية0
والجاهلية تنشأ من عدم إفراد الله بالألوهية وعدم إفراده بالحاكمية. فتشرك مع الله آلهة أخرى، ولا تحكم بما أنزل الله0
* * *
وإذ كانت الجاهلية لا تحكم بما أنزل الله، فهى تتبع ((الأهواء))0
وتلك هى السمة الثانية لكل جاهلية، النابعة فى الأصل من عدم الإيمان الحق بالله وعدم الإسلام له 0
((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم. واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك([9]). فالقضية مترابطة: إما الإيمان بالله، الذى ينشأ عن  الإسلام له واتباع ما أنزله، وإما الجاهلية واتباع ((الأهواء)) . وكل شرع غير شرع الله هوى.. ذلك ما قرره الله. ومصداقه هو تاريخ الحياة!
لقد اختلفت ((الأهواء)) من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة،  ومن أمة إلى أمة. ولكنها كانت دائماً ((هوى)) فريق من الناس، يحكمون به سائر الناس! ومصلحة معينة لفرد أو جماعة، يسخر من أجلها بقية الخلق على حسب ((هواه))0
وشرع الله وحده هو البرئ من الأهواء . لأن الله سبحانه ليست له ((مصلحة)) مع هذا الفريق أو ذاك : ((ما أريد منهم من رزق، وما أريد أن يطعمون([10])" 0
وكل الناس خلقه بالتساوى.. لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى0
((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله آتاقكم . إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير))([11])0
فإما اتباع لشرع الله.. فهو الإسلام . وإما اتباع للأهواء.. فهى الجاهلية فى كل زمان ومكان0
* * *
والسمة الثالثة المشتركة فى كل جاهلية هى وجود طواغيت فى الأرض يهمهم أن ينصرف الناس عن عبادة الله الواحد والحكم بشريعته، ليتحولوا إلى عبادة أولئك الطواغيت والحكم بشريعتهم – أى بأهوائهم:
((الله ولى الذين آمنوا، يخرجهم من  الظلمات إلى النور. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات))([12])0
((الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت))([13])0
ووجود الطواغيت سمة ملازمة للبعد عن منهج الله 00 فحين ينحرف الناس عن العبادة الحقة، يتوجهون إلى عبادة كائنات أخرى – بمفردها، أو بالإشراك مع الله – وعندئذ تصبح هذه المعبودات طواغيت!
ويستوى أن يكون الطاغوت فرداً، أو طائفة، أو جماعة ، أو عرفاً ، أو تقليداً، أو أى قوة تستعبد الناس لها فلا يملكون الخروج عن أوامرها0
والطاغوت – سواء كان فرداً أو طائفة أو جماعة.. إلخ – لا يحب للناس أن يؤمنوا بالله ويعبدوه حق عبادته. فإنه لا يستطيع أن يعيش ويتمكن حيث يكون الولاء لله! ولا يعيش ويتمكن إلا بصرف الناس عن عبادة الله، ليتمكن هو من أن يفرض هواه!
ومن ثم يقف الطاغوت دائماً موقف العداء من العقيدة الحقة، لأنه يريد الولاء لشخصه ومصالحه؛ والعقيدة الحقة تجعل الولاء لله !
ومن ثم كذلك فإن الجاهلية – أى الانحراف عن عبادة الله – تتلازم دائماً مع وجود الطاغوت0
* * *
والسمة الرابعة المشتركة، وهى مترتبة كذلك على البعد عن منهج الله – وإن كانت أسبابها كامنة فى الفطرة البشرية ذاتها – هى الانجراف فى تيار الشهوات0
الشهوات أمر محبب للإنسان: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا00))([14])0
وقدر من هذه الأمور كلها ضرورى للحياة البشرية 00 ضرورى لمهمة الخلافة التى يتولاها الإنسان فى الأرض. ومن ثم كانت ((الدوافع)) فى كيان الإنسان، دوافع الطعام والشراب والمسكن والملبس0 والجنس. والبروز . والتملك([15]). لترابطه بالحياة، وتدفعه إلى الحياة0
ولكنها حين تزيد عن قدرها المعقول، وتصبح ((شهوة)) مسيطرة على كيان الإنسان، فعندئذ لا تؤدى مهمتها الفطرية التى أوجدها الله من أجلها، وإنما تصبح مدمرة لكيان الإنسان، مبددة لطاقاته، صارفة له عن مهمة الخلافة، وهابطة به عن مستوى الإنسان الكريم الذى كرمه الله وعلاه، إلى مستوى البهائم ومستوى الشياطين00
والذى يحد من اندفاعها وسيطرتها على كيان الإنسان.. هو العقيدة فى الله، والحياة فى ظل نظام يقوم على شريعة الله!
والتجربة البشرية الطويلة خلال القرون تؤكد هذه الحقيقة! إما الاهتداء بهدى الله وإما الانجراف فى تيار الشهوات، كل الشهوات00 وشهوة الجنس فى مقدمة الشهوات!
إن الإنسان لا يمكن أن يمتنع عن الشهوات أبداً 00 إلا لله !
لقد يخشى عقوبة القانون 00 فيسعى إلى التستر على ما يعتبره القانون جريمة !
ولقد يخشى الناس 00فيرتكب جريمته فى خفية من الناس !
ولكنه لا يمتنع امتناعاً حقيقياً عن الجريمة إلا حين يخشى الله 00 لأنه لا ستر من دون الله!
على أن المشاهد فى التاريخ كله أن الجاهليات لا تحرم الفاحشة الخلقية على وجه التحديد! يستوى فى ذلك الجاهلية العربية، والجاهلية الفارسية، والجاهلية الهندية 00 واليونانية والرومانية والفرعونية 00 وجاهلية القرن العشرين!
وتختلف الأسباب 00
فقد يكون السبب هو انشغال الطاغوت الذى يحكم – وكل حكم بغير ما أنزل الله فهو الطاغوت – بحماية مصالحه القريبة عن كل أمر عداه . ومن ثم لا يلتفت إلى انحراف الناس فى شئون الجنس، ولا يعنيه أن يقوم هذا الانحراف0
وقد يكون السبب هو قيام الطاغوت بنشر الفاحشة عمداً، ليستمتع هو بالمتعة المحرمة، أو لتلهية الناس عن الظلم الواقع عليهم – وكل حكم بغير ما أنزل الله ظلم – بالانغماس فى متع الجنس الفاحشة، فينسون ، وينصرفون عن محاكمة الطاغوت!
وعلى أية حال فهناك تلازم دائم بين كل جاهلية وبين الانجراف فى تيار الشهوات0
* * *
تلك سمات تبرز فى كل جاهلية على وجه الأرض خلال التاريخ 00 وهى جميعاً ناشئة من السمة الرئيسية الكبرى فى كل جاهلية، وهى الانحراف عن عبادة الله.
سمات مشتركة لا يمكن أن تخلو منها الجاهلية 00
كانت موجودة فى الجاهلية العربية، وكانت موجودة فى الجاهلية الفارسية واليونانية والرومانية والفرعونية.. وهى كذلك قائمة فى الجاهلية الحديثة، بلا اختلاف فى غير الصورة الظاهرة، وبلا اختلاف حتى فى الصورة فى بعض الأحيان!
فى الجاهلية العربية  كان الانحراف عن عبادة الله وحده – عقيدة وشريعة- حيث كانت الأصنام والأوثان تعبد إلى جوار الله، وحيث كانت قوانين الجاهلية وعرفها تحكم بدلاً من شريعة الله. وكانت ((الأهواء)) تسيطر على تصرفات الناس 00 القوى يغلب الضعيف بغير حق، والانتصاف لا بالحق ولكن بقوة الذراع! وكانت الطواغيت.. طواغيت قريش وغيرها من كهنة وسدنة ووضاع للأعراف المنحرفة والتقاليد 00 يحرمون ما يشاءون تحريمه ويحلون ما يشاءون تحليله، وليس ذلك فقط بل ((يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً))([16]) إذا شاءت لهم الأهواء، ويمارسون سلطاناً باطلاً يستذلون به الناس ويتحكمون فى رقابهم.. وكانت الشهوات .. الخمر والنساء والميسر، والقتل والسلب والنهب، والغارات والثأر والمفاخرة بالعدوان00!
واليوم على بعد أربعة عشر قرناً من ذلك التاريخ تقوم الجاهلية الحديثة .. على نفس الأركان!!
فأما الانحراف عن عبادة الله – عقيدة وشريعة – فأمر أشهر من أن يشار إليه! أمر لا يقف عند حد الانحراف عن العقيدة فى كثير من حقائقها، والانحراف عن الشريعة فى كل مظاهرها.. وإنما يتعداه إلى الإلحاد الكامل، يتلهى به أفراد، أو تفرضه الطواغيت على الناس، وتباركه الشياطين فى جميع الأحوال
وأما اتباع الأهواء 00 فليس فى التاريخ قرن ركب رأسه واتبع هواه كما صنع هذا القرن.. فى كل شىء.. فى الشرق وفى الغرب سواء .. من تحطيم للعقائد. ولهو بالمقدسات.. وعبث بكل الضوابط التى تضبط تصرفات الإنسان.. و((تقاليع)) و((مودات)) وأفانين من العبث تفوق الحسبان0
وأما الطواغيت .. فما أكثرهم! طاغوت الرأسمالية تارة، وطاغوت البروليتاريا تارة، وطاغوت الفرد المقدس تارة، وطاغوت العرف الفاسد والقيم المنحلة تارة.. وهى فى كل مرة طواغيت!
وأما الشهوات 00!
* * *
        تلك سمات لا تنجو منها جاهلية فى الأرض 00 فى كل التاريخ 0
        فإذا عرفنا هذا القدر المشترك فى كل جاهلية [وسنعود إلى تفصيله فى الفصلين القادمين] فقد بقى أن نلم فى هذه اللمحة السريعة بالخصائص المميزة للجاهلية الحديثة0
        لتكتمل فى أذهاننا صورتها العامة – وهى خصائص تنبع فى الأصل من السمة الرئيسية الكبرى – الانحراف عن عبادة الله – ولكن الجاهلية الحديثة تنفرد بها من حيث صورتها وتفصيلاتها، لأنها نتيجة البيئة والظروف، و ((التطور)) العلمى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى والفكرى الذى حدث على مبعدة من منهج الله، وعلى عداء مع منهج الله([17])0
        لقد كان لكل جاهلية فى التاريخ سماتها الخاصة المميزة إلى جانب سماتها المشتركة00
        كانت الجاهلية العربية مثلاً تتميز بوأد البنات، وبأشياء أخرى سخيفة ومضحكة، كخروج بعض الناس لحج بيت الله الحرام عرايا – فى الحج!! – رجالاً ونساء !! وتحريم بعض الحرث والأنعام بلا سبب على هذا النحو المضحك :
        ((وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله – بزعمهم – وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله! وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم! ساء ما يحكمون! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء – بزعمهم – وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكر اسم الله عليها – افتراء عليه – سيجزيهم بما كانوا يفترون، وقالوا : ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء 00))([18])0
        وكانت الجاهلية اليونانية تتميز بعبادة العقل 00 وعبادة الجسم 00 والجاهلية الرومانية بحلبات المبارزة الوحشية 00 والجاهلية الهندية بنظام المنبوذين، وبتخصيص بغايا ((لخدمة المعابد !! يخدمنها يبذل أعراضهن المدنسة! ويكون ذلك جزءاً من ((الدين))!! والجاهلية المصرية القديمة بعبادة الفرعون واستذلال كيان الشعب كله فى خدمة ذلك الفرعون المقدس! وجاهلية القرون الوسطى بطغيان الكنيسة والفساد الخلقى فى الأديرة، وصكوك الغفران00
        وكذلك تتميز الجاهلية الحديثة بسماتها الخاصة التى تفردها بين الجاهليات بعد أن تشترك معها فى بقية السمات00
        تلك الخصائص يمكن حصرها – على وجه التقريب – فى هذه الأمور :
·       التقدم العلمى الفائق الذى يستخدم [من بين ما يستخدم] فى تضليل البشرية عن هدى الله، وفى إيقاع الشر والأذى بمخلوقات الله0
·       تبجح ((الإنسان)) فى مواجهة الخالق، مفتوناً بنتائج العلم والتقدم المادى، حتى ليحسب الإنسان أنه أصبح فى غنى عن الله . أو أنه أصبح هو الله0
·       النظريات (العلمية) المتعددة التى توجه الناس إلى الانحراف، فى الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس..وكل مجال من الحياة 0
·       الفتنة ((بالتطور))0
·       ((تحرير)) المرأة 0
·       وليس هنا مجال التفصيل فى ملامح الجاهلية الحديثة، سواء منها سماتها الخاصة أو سماتها المشتركة مع بقية الجاهليات، فمجال ذلك فى الفصلين القادمين.. ولكنا نقول كلمة فى ختام هذا الفصل عن ((الفتنة)) القائمة فى هذه الجاهلية00
إن الفتنة الكبرى فى هذه الجاهلية أنها تملك كثيراً من العلم، وكثيراً من القوة المادية، وأنها حققت تيسيرات حضارية مادية كثيرة للبشر على ظهر الأرض، ينطوى بعضها على خير ظاهرى ومنافع للناس0
ومن أجل ذلك قلنا فى مقدمة الكتاب إن الجاهلية الحديثة أو عر وأخبث وأعنف من كل جاهلية سابقة فى التاريخ0
لقد كان ((الباطل)) فى الجاهليات القديمة واضح البطلان0
وعلى الرغم من الجهالة التى كانت ترين على عقول الناس وضمائرهم، فلا يرون ما فى باطلهم من بطلان، ويتصورون أن الحق الذى يدعون إليه هو الباطل، أوالخسران0
على الرغم من ذلك فقد كانت ((كمية)) الجهل والشر والباطل أقل.. وكان الهدى – على ثقل مهمته – ينتصر فى معركة حاسمة فيتبين الحق للناس، ولا يعودون بعد ذلك يترددون0
ولكن الباطل اليوم يستند إلى ((العلم)) ويتخذ العلم وسيلته للتضليل!
ومن أجل ذلك يلتبس الحق بالباطل فى أذهان الناس ولا يقدرون على التمييز0
* * *
والقوة المادية كذلك من أسباب الفتنة 0
وعلى الرغم من أن كل جاهلية فى التاريخ كانت تستند إلى لون من ألوان القوة المادية تستند به طاغوتها وتفرضه على ضمائر الناس،  بحيث يأخذون ما يقوله الطاغوت قضايا مسلمة لا تناقش – عن رهبة ورغبة! – ويتقبلون سلطانه بلا معارضة أو تفكير فى المعارضة.. على الغرم من ذلك فقد كانت تلك القوى المادية فى الجاهليات القديمة أقل رهبة وفتكاً وتنظيماً مما هى اليوم. فهى اليوم ليست أموالاً جبارة فحسب، وليست أسلحة فتاكة فحسب.. بل إلى جانبها من وسائل الإعلام على نطاق واسع ما لم تعرفه البشرية فى تاريخها كله، تظل تلح على أذهان الناس وضمائرهم، فى الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون، حتى يخيل لهم أن الباطل هو الحق، وأن الحق خيال طائر ليس له فى الواقع وجود !
* * *
        وكذلك ذلك القدر من الخير الظاهرى والنفع الذى تحققه هذه الجاهلية للناس..
        لقد كان دائماً فى كل جاهلية قدر من الخير الظاهرى.. ولا يمكن أن توجد جاهلية فى أية لحظة على الأرض خلو من الخير كله.. فليس ذلك من طبائع الأشياء ولا طبائع النفوس0
        إن الكيان البشرى – مهما فسد – لا يمكن أن يتمحض للشر فى مجموعه !
قد يفعل ذلك أفراد 00 يغلب عليهم الشر حتى لا يرى فيهم وجه الخير 0
ولكن مجموع البشرية لا يمكن أن يفعل ذلك0 سيظل فيهم قدر من الخير فى جميع الأحوال. ومن هذا القدر المتبقى فى النفس البشرية – فى أسوأ حالاتها – يتجمع فى كل جاهلية قدر من الخير الظاهرى – ظاهرى لأنه لا يستند إلى ((الحق)) ولا ينبع من المنهج الصحيح، ومن ثم يذهب بدداً فى واقع الحياة – ولكنه يزيغ أبصار الناس فيحسبون أنهم ليسوا فى جاهلية 00 ((ويحسبون أنهم مهتدون))([19])0
ولكن هذه الجاهلية الحديثة تحقق للناس من النفع – بإمكانياتها العلمية والمادية – ما لم يتحقق فى نوعه وكميته فى كل عصور التاريخ! ومن هنا تزيغ أبصار الناس أكثر مما زاغت فى أى وقت مضى 00 ويحسبون أنهم مهتدون!
* * *
        هذا الطغيان العنيف للجاهلية الحديثة – المتمثل فى فتنة الناس بها إلى هذا الحد – ناشئ من عنف الانحراف عن منهج الله ! فعلى قدر انحراف الناس تكون قوة الطاغوت 00 وقد انحرف الناس فى هذا العصر عن المنهج الربانى أعنف انحراف شهدته البشرية فى تاريخها كله 00 ومن أجل ذلك كانت قوة الطاغوت أعلى ما وصلت إليه فى كل مراحل التاريخ00
        والعلم والقوة والتنظيم 00 وهى سمات هذا العصر وعبقرياته 00 أدوات تخدم الطاغوت اليوم، لأنها بطبيعتها طاقات محايدة تخدم السيد الذى يسيطر عليها 00
        وفى وسع البشرية غداً حين تهتدى إلى الله الحق، أن تستخدم هذه الأدوات كلها فى سبيل الخير00 الخير الحقيقى الشامل لمجموع البشرية 00
        وحسب الناس – المفتونين بهذه الجاهلية الطاغية – أن يروا كم أفسدت هذه الجاهلية من أحوالهم ومشاعرهم ، وكم ضيعت من فرص الخير الشامل التى كان يمكن أن تصيبهم، ليعرفوا أن كل النفع الذى تقدمه لهم الجاهلية اليوم – فى عمل العلم على تيسير الحياة لهم على الأرض، وفى الخدمات الطبية والاجتماعية، و((العدالة)) الجزئية التى ينالونها فى هذا النظام أو ذاك – إنما هو فتات ضئيل ينثره الطاغوت على الناس ليبرر بقاءه فى الأرض، ولتستنيم له عواطف ((الجماهير)) بينما هو يستمتع وحده بسلطان مروع يستذل به رقاب الخلق، لم يتجمع قط فى أى طاغوت فى التاريخ00
        عند ذلك سيعرفون أنهم يعيشون فى الجاهلية حقا 00 وأن هذه الجاهلية ينبغى أن تزول!
        وفى الفصلين القادمين نتحدث عن مدى الفساد الذى أحدثته الجاهلية فى الأرض..
فساد فى التصور 00
وفساد فى السلوك00



[1] سورة لقمان (25) 0
[2] سورة الزخرف (87)0
[3] سورة يونس (31)0
[4] سورة الأنعام (91)
[5] سورة المؤمنين (84-89)
[6] سورة الزمر (3)0
[7] سورة المائدة (44-50)
[8] سورة الأنعام (121)0
[9] سورة المائدة (49)
[10] سورة الذاريات (57)
[11] سورة الحجرات (13)0
[12] سورة البقرة (257)0
[13] سورة النساء (76) 0
[14] سورة آل عمران (14)
[15] انظر فصل ((الدوافع والضوابط)) من كتاب ((دراسات فى النفس الإنسانية))0
[16] سورة التوبة (37)
[17] انظر الفصل السابق ((صفحة من التاريخ))0
[18] سورة الأنعام (136-139)0
[19] سورة الأعراف (30)0

Previous Post Next Post