ملامح الجاهلية الحديثة
الجاهلية الحديثة ( الثانية):الموت الجاهلي
ﺟﺎﻫﻠﻴﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ
فساد التصور وفساد السلوك


التصور الجاهلى لعلاقات الإنسان00
الفساد الذى أحدثته الجاهلية الحديثة فى تصورات الإنسان0
كان المسلمون الأوائل فى صدر الإسلام أنشط جماعة بشرية عرفها التاريخ الفتح الذى شمل الأرض من المحيط إلى المحيط فى أقل من نصف قرن 00 الحركة العلمية الفائقة 00 التنظيمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية00 المذاهب الفكرية فى تفسير كتاب الله وتطبيقه فى واقع الجماعة، التى نشأت عنها مدارس الفقه المختلفة الغنية بالأصالة والحركة والنشاط00 كل ذلك وغيره تم فى فترة لا مثيل لها فى القصر 0 وكان الناس أحياء متحركين، ولكن فى طمأنينة نفسية وسكينة. لأنهم كانوا يتوجهون بعملهم كله ونشاطهم كله إلى الله، فتطمئن قلوبهم بذكر الله0
وأما الفرد – فيما بينه وبين المجتمع – فقد صورت علاقته على أنها الصراع والتطاحن الذى لا يهدأ ولا يمكن أن يهدأ! وأنشئت  على ذلك ((تفسيرات!)) للحياة وللإنسان، أبرزها وأشدها جاهلية التفسير المادى للتاريخ، الذى يجعل الصراع ((حتمية)) لا سبيل إلى الفكاك منها أو تلطيف آثارها00
وهو ليس صراعاً بين ((الحق)) و ((الباطل))00 كما ينبغى أن يكون الحال فى عالم ((الإنسان)) الذى كرمه ربه وعلاه 00
كلا ! إن الجاهلية لا تعرف ((الحق والباطل)) . فهى تسخر أيما سخرية من الحق والعدل الأزليين! وإنما ترى الأمر صراعاً دائماً بين مصلحة طبقة ومصلحة طبقة أخرى، لا تقوم بالميزان الأخلاقى، ولا يقال لها حق وباطل. ولا يقال فيا إ، هذه الطبقة أو الطائفة أو الفرد قد طغت لأنها تجاوزت ((الحق)) أو اعتدت على حدود الله التى بينها للناس.. وإنما كل طبقة على حق بالنسبة لذات نفسها! وينشأ الصراع ((الحتمى)) من تناقض المصالح الذى لا بد أن ينشأ ((حتماً)) فيهدم النظام الذى بطلت منفعته ((لمن؟)) لا للبشرية ولا للحق والعدل الأزليين، ولكن للطبقة التى أبرزها التحول الاقتصادى الجديد !
وحقا إن هذا هو الذى يحدث بالفعل.. فى الجاهلية ! تتصارع المصالح، والغلبة لصاحب السلطان! ثم تتم الغلبة – فى تصور الجاهلية الماركسية – لطبقة ((البروليتاريا)) فى آخر الأمر، فتمحق جميع الطبقات! وتكون هذه هى نهاية العالم!
وأما علاقات الجنسين فإن الفساد الذى أصابها كان أشنع فساد !
الجنس عملية ((بيولوجية)) لا علاقة لها بالأخلاق!
الجنس لا علاقة له بالأسرة !
الجنس هو التحقيق – الأكبر – لكيان الإنسان!
الجنس هو الموضوع – الأكبر – للفن!
الجنس هو ((التحرر) !
الجنس مزاج شخصى لا يوصف بالشذوذ والاستواء . فمن أعجبه الوضع السوى فهو وشأنه، ومن أعجبه الشذوذ فهو وذاك!
إلى عشرات من أمثال هذه الجاهليات، التى تعمى كلها عن حقيقة الجنس، ودوره الطبيعى ((المتوازن)) فى حياة الإنسان. ثم تؤدى إلى الفوضى الجنسية على أوسع نطاق شهده تاريخ الإنسان!
* * *
وأما الشعوب والقبائل، المنحرفة عن منهج الله، فقد تصورت علاقاتها فى إطار الغلبة والسيطرة على طريقة الحيوان. لا التقاء بينها إلا على الصراع.. وحين تلتقى ففى حدود الأرض ((القومية)) كما تلتقى البهائم على حظائرها، أو فى حدود الجنس أو العنصر 00 أو ((المصلحة)) المشتركة . ولا تلتقى. ولا تلتقى قط – كما خلقها الله – على حقيقة ((الإنسان)) والمبادئ التى تليق بالإنسان!
* * *
تلك ألوان من التصور الجاهلى لعلاقات الإنسان00
ولعل من الخير أن نختم الحديث عن الجهالة بالنفس البشرية- حقيقتها وعلاقتها- بفقرات من كتاب ألكسيس كاريل ((الإنسان00 ذلك المجهول))، وهو العالم المعاصر، الذى يكتب من وحى((العلم)) لا من وحى((الدين)) :
((وفى الحق لقد بذل الجنس البشرى مجهوداً جباراً لكى يعرف نفسه00 ولكن بالرغم من أننا نملك كثيراً من الملاحظة التى كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء ، وكبار العلماء الروحانيين فى جميع الأزمنة، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا. إننا لا نفهم الإنسان ككل.. إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة 0 وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا. فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح تسير فى وسطها حقيقة مجهولة00
((وواقع الأمر أن جهلنا مطبق . فأغلب الأسئلة التى يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشرى تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة فى دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة0
((فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان غير كاف، وأن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية فى الغالب))0
ثم يعود فيشرح أثر هذا الجهل المطبق بحقيقة الإنسان على الحياة البشرية، الاقتصادية والاجتماعية والحضارية والفكرية .. إلخ، فيقول:
((وإن الحضارة العصرية تجد نفسها فى موقف صعب، لأنها لا تلائمنا. لقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقة، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم . وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، لا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا00
((وهؤلاء النظريون يبنون حضارات – بالرغم من أنها رسمت لتحقيق خير الإنسان – غريب فى العالم الذى ابتدعه. إنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته. ومن ثم فإن التقدم الهائل الذى أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التى عانت منها الإنسانية.. إننا قوم تعساء، لأننا ننحط أخلاقيا وعقلياً.. إن الجماعات والأمم التى بلغت الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم، هى على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة فى الضعف، والتى ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها 00!))([1])0
* * *
هذه خلاصة الفساد الذى أحدثته الجاهلية الحديثة فى تصورات الإنسان0
إنها لم تترك مجالاً من مجالات التصور بلا فساد 00 وقد نشأت كلها من الانحراف الأعظم 00 الانحراف عن عبادة الله 0
وقد ظنت الجاهلية الحديثة – أكثر من أى جاهلية مضت – أن الدين مزاج شخصى لا علاقة له بواقع الحياة، لأنه علاقة بين العبد والرب. وكان هذا – فى ذاته – انحرافاً جاهليا فى التصور. ولكن الواقع الذى شهدته أوروبا، وشهده العالم الذى غلبت أوروبا عليه، أن فساد العقيدة، والانحراف عن عبادة الله، لم يقبع فى داخل الضمير الفردى كما ظنت الجاهلية، وإنما ألقى ظله على كل مناحى الحياة البشرية، فلم يبق منها شىء لم يصبه الانحراف الفاسد بالفساد0
إن انحراف العقيدة لابد أن يفسد الحياة. لأن العقيدة ليست صلة بين العبد والرب منقطعة عن حقيقة الواقع . وإنما هى المشير الذى يوجه الحياة.. فحين يوجهها منذ البدء فى طريق فاسد، فلابد أن يصيبها الفساد كلها، وتذهب كلها شاردة فى التيه 00
ولقد رأينا كيف أفسد انحراف العقيدة تصورات البشرية.. ولكنه لم يكن فساداً فى التصور وحده! إنما هو – بصورة حتمية – فساد فى التصور.. وفساد فى السلوك0
وفساد فى السلوك
حين انحرفت الجاهلية الحديثة فى عبادتها لله، فلعلها لم تكن تتصور أن انحراف العقيدة سيؤثر حتماً فى تصوراتها للكون والحياة والإنسان! بل إنها – منذ البدء – لم تكن ترى فى عملها ذلك انحرافاً عن الصواب!
        ((إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون))([2])0
        ولكنا رأينا فى الفصل السابق كيف تسرب هذا الانحراف فى العقيدة إلى كل تصورات الجاهلية، فصارت كلها تصورات فاسدة لا تستقيم على منطق، ولا تهتدى إلى حق، وإنما تسيرها الأهواء، حتى فى ذات ((العلم)) التجريبى، الذى يظن كثير من الناس – بوحى الجاهلية – أنه بعيد كل البعد عن الأهواء، وأنه المحك الصادق الذى يرجع إليه فى الأمور كلها، فيبين الحق من الباطل.. بلا تحيز، ولا ارتياب!
ولقد رأينا شهادات من ((العلماء)) أنفسهم تبين ما فى هذا الاعتقاد من زيف، وتبين أن العلم لا يقطع – ولم يقطع قط – بحقيقة يقينية! وأنه مجرد احتمالات ! وأنه يخضع لأهواء البشر وتصوراتهم! وذلك كله فوق أنه لا يدرس إلا ((ظواهر)) الأشياء!
ولكن قوماً حسبوا – بتأثير الجاهلية كذلك – أن ((التصورات)) قد تنحرف ثم يستقيم ((السلوك)) .. فى السياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق والفن.. لأن ((النظريات)) شىء و ((التطبيق)) شىء آخر0
النظريات تحكمها أفكار الناس أو أهواؤهم. ولكن التطبيق العملى يحكمه ((الواقع)) و((التجربة)) وتقوم عليه التنظيمات التى تصحح منه ما يفسد أولاً بأول. فيصلح ويستقيم!
((قل : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً؟ الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ))([3])0
وقديماً قال القائل : ((وهل يستقيم الظل والعود أعجوج؟ !))0
* * *
إنه وهم آخر من أوهام الجاهلية !
وهم يغرى به ما يقع فى هذه الجاهلية من خير ظاهرى، وعدالة جزئية تصيب بعض الناس فى بعض الأمور! فيظنون أن الأمور كلها على ما يرام !
ولقد أبرزنا من قبل كيف أن الجاهلية – أى جاهلية – لا يمكن أن تخلو من نفع يخدع الناس فيحسبون أنه خير ! وهو خير زائف لأنه لا يستمد من معين الخير الحقيقى، ولا يسير على الطريق الواصل! وأبرزنا كذلك أن فتنة هذه الجاهلية الحديثة هى الضخامة فى الحصيلة العلمية، والضخامة فى تيسيرات الحياة التى تخدع الناس بصورة الخير الظاهرى، حتى ليخيل إليهم أن الخير هو الغالب، وأن الأمور على ما يرام!
ذلك أنهم – بوسائل شيطانية ضخمة كذلك – قد ضللوا عن حقيقة الشر الذى يعيشون فيه!
ولو أدركوا ضخامة هذا الشر، ومقدار الفساد الذى يحدثه فى واقع حياتهم، لأدركوا أن كل ((الخير)) الذى تطنطن به الجاهلية الحديثة لتوازي سوآتها .. لا يزيد علي فتات! وأنه خير ضائع فى خضم الشر الذى تمور به الأرض 00 بل لأدركوا أن الحياة البشرية ذاتها – حياتهم – مهددة بالمار من ضخامة هذا الشر وعنفوانه، وضخامة تمكنه من الحياة الواقعية للناس !
إن هذا الشر ليس فى شىء دون شىء!
إنه ليس فى ((الفساد الخلقى)) وحده، كما يظن الذين يدافعون عن الجاهلية الحديثة، ويحاولون أن يهونوا من شرورها، بأنها محصورة فى ((شىء)) من التحلل الخلقى، ولكن الحياة فى بقية الميادين سليمة، بل رفيعة، بل رائعة! 00 بل هى القمة التى لا مطمع لطامع بعدها فى مزيد !
كلا ! إنه شر شامل 00 يشمل كل مناحى الحياة !
وسنبين بالتفصيل فى هذا الفصل كيف امتد الفساد وكيف فعل: فى السياسة. والاقتصاد. والاجتماع. والأخلاق. وعلاقات الجنسين. والفن. فى كل شىء على الإطلاق0
ولكنا قبل هذا التفصيل نذكر حقيقة بديهية – أو ينبغى أن تكون كذلك: أنه لم يكن فى الإمكان أن تفسد التصورات كلها على هذا النحو .. ثم يستقيم السلوك0
كيف يمكن أن يحدث ذلك؟
إن الجاهلية الحديثة – بوسائل إعلامها الضخمة التى تتزايد – عن عمد – كل يوم – حاولت أن تصرف الناس عن انحرافات التصور، بأن تصور لهم السلوك الواقعى الذى يعيشونه على أنه قمة الصواب!
فإذا ساور الناس شك فى بعض الأمر .. أن هذا يخالف ما قال به ((الله)). أو ما يقضى به ((الحق والعدل)). أو ما تقتضيه ((الأخلاق)) . سارعت الجاهلية بالجواب الجاهز، تذيعه بكل ما تملك من وسائل الإعلام00
إنه التطور 00 !
ألا تعلم ذلك؟! هل أنت غافل عن التطور؟ هل أنت لا تعيش فى القرن العشرين، بعقلية القرن العشرين؟! أم ماذا؟! أم أنت رجعى؟! يا للداهية السوداء! كل شىء إلا الرجعية!! اوع!! إن كل شىء فى الوجود محتمل، إلا أن تكون رجعيا فى القرن العشرين!!
*  *  *
 بهذه الوسائل – الضخمة – التى تملكها الجاهلية الحديثة .. بوسائل الإعلام، من صحافة، وإذاعة وسينما وتليفزيون.. تحطم الجاهلية كل محاولة لبيان ما فى هذه الجاهلية من شر ضخم متكتل يخنق أرواح الناس!
يكفى أن تطلق هذه القذيفة فى وجه كل إنسان يريد أن يرد الناس إلى الحق، ويوقظهم إلى انحراف واقعهم :
الرجعية 000 !
ويكفى أن تضع هذا السلاح فى يد كل مقاتل يعمل لقتل الحق والخبر والعدالة:
التطور 00 !
ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد ((البسيط)) رغم خطورته .. إنما تقوم الجاهلية بتعقيد الأمر حتى يختلط الحق بالباطل0 ويختلط الأمر على المظلومين أنفسهم فيحسبون أنهم يعيشون فى عدالة! والمضللين أنفسهم فيحسبون أنهم مهتدون! والواقع بهم الشر. فيحسبون أنهم فى خير عميم!
إن هذه الجاهلية أوعر وأخبث وأعنف جاهلية مرت بالبشرية فى التاريخ!
* * *
ولكن الأمر – مع ذلك – لا يستعصى على البيان !
إن الواقع له ثقله . والحق له ثقله 00
إنه لا يمكن لأية جاهلية – مهما أوتيت من سلطان – أن تحجب الحق إلى الأبد عن الناس0
ولقد بدأت البشرية فعلاً تفيق من هذه الجاهلية كما سنتبين فى أثناء الحديث0
بدأ قوم – متفرقون – يحسون بعظم الشر الذى تحدثه الجاهلية فى حياة الناس0
ولن تكون المهمة سهلة.. ولن تكون سريعة المفعول. فعلى قدر ضخامة الجاهلية وضراوتها ستكون معركة الحق مع الباطل. ويكون الجهد المطلوب0
ولكن شيئاً معيناً ينبغى أن نعرفه ونؤمن به: إن ضخامة الباطل لا تقلبه حقا ! وضخامة الشر لن تحوله إلى خير !
وفى اطمئنان لهذه الحقيقة نمضى فى بيان الفساد الذى أحدثته الجاهلية الحديثة فى السلوك. كما بينا من قبل الفساد الذى أحدثته فى التصورات0
ولئن كان فساد التصور قد شمل تصور الإنسان للحقيقة الإلهية، وتصوره للكون والحياة والإنسان. وارتباطاتها كلها بعضها ببعض. فالفساد فى السلوك قد شمل مناحى الحياة كلها. فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق وعلاقات الجنسين والفن .. ولكل من هذه بيان0

[1] تعريب شفيق أسعد . منشورات مكتبة المعارف ببيروت. ص43 – 44 0
[2] سورة الأعراف : 30
[3] سورة الكهف : 103 – 104

Previous Post Next Post