تأثيرات العولمة على الهوية الثقافية الإسلامية، واستراتيجيات التعامل

بعض القوى المحافظة في الغرب اليوم تستهدف الإسلام والعالم الإسلامي كعدو جديد للغرب، كما تعمل على افتعال صراع حضاري جديد بينهما  يتمكن بموجبه الغرب من فرض قيمه الثقافية نهائيا عليه.
على الرغم من أن الآثار الكلية للعولمة على العالم الإسلامي تبدو سلبية، إلا أن تحديد الأثر النهائي يتوقف ليس فقط على إرادة القوى الدافعة للعولمة، وإنما أيضا على مدى قدرة الدول الإسلامية على التعامل مع تلك الآثار، وبالتحديد مدى قدرتها على صياغة مشروع وطني جماعي يتقاطع مع العولمة، ولكنه لا يندمج فيها.[1]
       ويؤكد وليد محمود في ورقته التي قدمها في هذه الندوة أيضا على أن ثمة تباينات في الرؤى النابعة من داخل العالم العربي والإسلامي إزاء تأثير العولمة في مرحلتها الأخيرة الراهنة على الهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي، وأن ردات الفعل تنوّعت ما بين استجابات فكرية لهذا التحدي، وما بين دعوات قاطعة للمقاومة والصمود والرفض، واتجاهات أخرى لممارسة النقد الذاتي لإصلاح الحالة الداخلية المكوّنة للهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي لتكون قابلة لإنجاز مهمة التلاقي للمواجهة مع طوفان العولمة، وأخيرا دعوات إلى تبني مجمل الثقافة التي تحملها ظاهرة العولمة في طورها الراهن باعتبارها الوحيدة القادرة على قيادتنا إلى تحقيق نفس درجة التقدم الاقتصادي والتقني الذي حققه الغرب، لتمكننا بالتالي من اللحاق بركب الحضارة الغربية الظافرة.
       وكما ذكرت نقلا عن محمد جابر الأنصاري بأن الانقسام الداخلي هو الذي من شأنه إضعاف الذات على المواجهة والقدرة على التفاعل الحضاري الإيجابي، فإن وليد محمود بعد سرده للتوجهات إزاء العولمة أكد على ما قرره الأنصاري، وذلك بأن الانقسام الداخلي قد رتّب تشابكا وتداخلا مماثلا على صعيد الاستجابات الصادرة عن أبناء الثقافة المحلية تجاه الثقافة التي تبرز على الساحة الفكرية العالمية.
       إن المادة الإعلامية التي تعرض على وسائل الاتصال تمثل صناعة غربية خالصة تنبع في جوهرها وحقيقتها، وفي شكلها وهيئتها من ثقافتهم وما ينعكس على واقع مجتمعاتهم، مما يؤدي إلى انتهاك حرمة كثير من القيم الثقافية والأخلاقية التي تقع ضمن إطار وجدان المجتمعات الإسلامية عندما تعرض في وسائلها.
       وقد أشار محمود من جانب آخر بأن من التأثيرات التي تجرها العولمة على المنظومة والخصوصية الثقافية للأنا، ما يتم به العمل من خلالها على فرض نموذج ومعايير باعتبارها صالحة للتطبيق في واقع العالم الإسلامي؛ وذلك تحقيقا لمصالح سياسية واقتصادية على اعتبار أن الحضارة العربية الإسلامية لا دعائم هوية متميزة لها حتى تكون في موضع المجابهة مع الثقافة الغربية حاليا، حيث تسعى هذه الثقافة إلى توليد قناعة بأنه ما دام الغرب هو الأكثر تقدما على الجبهتين العلمية والتكنولوجية، فإن هذا يعني بالضرورة تفوق الثقافة الغربية بما تحمله من قيم ومفاهيم عليها، مما يستدعي التعامل معها باعتبارها " الثقافة العالمية "، وليست مجرد ثقافة واحدة ضمن ثقافات متعددة.
       ومن تأثيرات العولمة كذلك على الخصوصية والهوية الثقافية ما يتصل بتوظيف منتجات ثورة المعلومات والاتصالات لربط المهاجرين من العالم العربي والإسلامي المقيمين في بلدان غير عربية أو إسلامية بثقافتهم الأصلية، ولا شك أن هذا الأمر جد خطير، حيث يتصل بعشرات الملايين من العرب والمسلمين المتناثرين في بلدان أوربا والأمريكيتين، خاصة بالنسبة للجيل الثاني منهم، والذي وجد نفسه في أحضان تلك الثقافة وذلك العالم منذ ولادته طفلا، وترعرع على قيم ومفاهيم تلك الحضارة، ولا شك أن أمثال هؤلاء يحتاجون إلى توفير نوع من المناعة الإيجابية التي تسهم بمدهم بذخيرة لا تنفذ عن الحوار أو الجدال أو التفاعل مع الثقافات الأجنبية التي يوجدون ببلادها، مما يسمح لهم باستيعاب العناصر الإيجابية في تلك الثقافات وإدماجها بشكل إيجابي في هويتهم الثقافية من جهة أخرى.
       وعبر هذا التوظيف الجيد لثورة المعلومات والاتصالات – وهو ما لم يتحقق بالشكل المرجو حتى الآن – يمكن ضمان أن يكون المسلمون في الخارج جزءا من بناء ثقافي واحد تحرّكه لغة مشتركة وماض مشترك، وذلك دونما تجاهل لوجود تعددية محدودة داخل إطار هذا البناء.[2]
       وأمام الدول الإسلامية في مواجهتها لتحديات العولمة الثقافية عددا من الاستراتيجيات المطروحة، والتي حصرها محمد السيد سليم في الخيارات التالية:
-                    الانعزال والاعتماد على الذات.
-                    الاعتماد الجماعي على الذات، والاندماج الكلي في العولمة.
-                    التفاعل الإيجابي الرشيد.
       وقد شرع السيد سليم في بيان ما يترتب على تبني هذه الاستراتيجيات، حيث أكد بأن الاستراتيجية المتمثلة في الانعزال وبناء الذات تتمثل محاورها بالفكاك من قبضة النظام الرأسمالي العالمي بالتركيز على تنمية الموارد الذاتية لكل دولة، مع تطوير أشكال التعاون الإقليمي بين الدول الإسلامية. أما الإستراتيجية الثانية، وهي المتمثلة بالاعتماد الجماعي على الذات والاندماج الكلي في العولمة، فهي تشير إلى القبول بشروط هذا النظام ومحاولة الحصول على المكاسب التي يطرحها، مع النظر إلى الخسائر المحتملة على أنها مكاسب على المدى البعيد.
       وأخيرا يتقرر من خلال الإستراتيجية الثالثة - وهي المتمثلة بالتفاعل الإيجابي الرشيد نظرة - بأن من المهم اتباع استراتيجيات متعددة المستويات تقوم على التفاعل مع العولمة في الوقت الذي يتم فيه الدخول في مساومات معقّدة مع قوى العولمة لتحسين الشروط، وتحقيق التكامل الإقليمي بين الدول الإسلامية لتقوية مركزها التفاوضي.
       ويقع ضمن هذه الاستراتيجيات اشتراطات تتمثل بضرورة أن يكون المطروح منها ممكنا يمكن تطبيقه في ضوء المقدرات المتاحة، وهي مسؤولية المفكرين الإسلاميين، ومن ثم العمل على تبني التحليل الاستراتيجي بعيد الأمد والمتحرر من القيود الفكرية والإيديولوجية.[3]
       ويرى عادل فقيه بأن من الضرورة بمكان لمواجهة العولمة الثقافية العمل على تطوير الصناعات الثقافية، وقد وضع لتحقيق ذلك عددا من المحاور تمثلت بما يلي:
-                    التنسيق والتعاون بين المؤسسات والمنظمات المشتركة – الإسلامية والعالمية -.
-                    تطوير النظم وتسهيل إجراءات التواصل الفكري بين مختلف المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية، وبينها وبين جماعات المسلمين في الدول الغير إسلامية.
-                    تبادل الخبرات والأعمال العلمية والثقافية والمواد الإعلامية.
-                    تشجيع الزيارات لأساتذة الجامعات والباحثين والمفكرين.
-                    تشجيع الحوار بين الشعوب الإسلامية لتحقيق التقارب والتعاون.
-                    إحكام الربط ثقافيا واجتماعيا بين جماعات المسلمين في الدول الغير إسلامية والعالم الإسلامي.
-                    إبراز البعد الإسلامي في العلاقات، والربط بين العمل الثقافي والتعاون الاقتصادي لتحقيق التضامن والتكافل بين الشعوب الإسلامية.
-                    إنشاء جهاز لمتابعة تنفيذ الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي، وتوفير المساعدة اللازمة للتغلب على ما قد يطرأ على التنفيذ من صعوبات، وضمان التنسيق والعمل على تبادل المعلومات المتعلقة بالجهود المبذولة والنتائج المتحققة في هذا المجال.[4]   
إن الاستراتيجيات الغربية فيما تتبناه في نظام العولمة الذي فرضته على العالم باعتبارها الطرف الأقوى، تسعى إلى العمل على انتهاك الخصوصيات الثقافية؛ وذلك من أجل إعادة تنميط الإنسان وتشكيل فكره ووجدانه وتوجهه بما يخدم المصالح الآنية والمستقبلية للغرب. ولا شك أن ذلك يعد انتهاكا لمصلحة حفظ الدين والعقل التي يتعين على الأمة حفظها وحفظ خصوصيتها من أجل الحيلولة دون انتهاكها كمصلحة وضرورة ومنهج لحفظ إنسانية الإنسان بمنهج الرحمن؛ لذلك تعيّن بناء إنسان الواجب الذي يحفظ وفق الفقه المقاصدي الذي يقرر ارتباط حفظ حقوق الإنسان بالوسائل الشرعية لتحقيق المقاصد العظمى، والتي باعتبارها ربانية المصدر فهي الأصلح بلا منازع لتنظيم حياة الإنسان. وبذلك فإنه لا بد من دعم هذه المنهجية كمنهجية تربوية لبناء إنسان الواجب الذي يبحث عما يُستوجب عليه تجاه المجتمع قبل أن يطالب بما هو حق له.

[1] محمد السيد سليم، العولمة واستراتيجيات العالم الإسلامي للتعامل معها، ندوة الحوار الإسلامي الياباني، 28 – 29 ذو الحجة 1422 -  12 – 13 مارس 2003، مركز البحرين للدراسات والبحوث، المنامة – البحرين، ص 185.
[2] وليد محمود عبد الناصر، أثر العولمة على الهوية الثقافية في العالم العربي والإسلامي، ندوة الحوار الإسلامي الياباني، 28 – 29 ذو الحجة 1422 -  12 – 13 مارس 2003، مركز البحرين للدراسات والبحوث، المنامة – البحرين، ص 185.
[3] محمد السيد سليم، العولمة واستراتيجيات العالم الإسلامي للتعامل معها، ندوة الحوار الإسلامي الياباني، مرجع سبق ذكره، ص 186.
[4] عادل فقيه، حوار الشعوب والثقافات، ومبادئ الحضارة المشتركة، مرجع سبق ذكره،     ص 191.

Previous Post Next Post