البحث عن الذات

              اخترت في مداخلتي هذه، نصان اثنان "ليليات"، و"على صهوة الكلام".  يتشابه النصان من حيث أنهما معا يستعرضان ومضات مختلفة، متفرقة، وغيرَ مرتبة من الذاكرة. في النصين معا، يصرح الكاتب  لذاته أنه يعي حضور آخر بداخلهْ، وفي النصين معا، يصرحُ أن العلاقةَ التي تربطه بهذا الآخر ليست علاقة مودةٍ وسلام، وإنما هي علاقة خصام طويلْ؛ في ذات الكاتب كيانين اثنين يتبادلان اللوم والجفاء؛ الأول،  ليلي، خيالي، حالم،  والثاني، واقعي كشمس النهار؛ سنبحث في هذه الورقة عن العلاقة بين الكيانين، وعن سر الخصام بينهما في ذات الكاتب، من خلال الإصغاء لكل طرف، وسماع شكواه من الثاني، علنا نهتدي إلى التمييز بين المظلوم والجاني.
تقربنا ليليات، من الكائن الليلي في ذات الكاتب أكثر، فهي النص الذي يتحدث فيه بوضوح، أكبرْ؛ معرفا نفسه، مفصحا عن ألمه وشكواه؛ يعرف الكيان الليلي نفسه أولا، بأنه ليلي، يحب الخرافةَ والخيالَ والقصائدَ والأدبْ. ليلي يعني ليلي؛ لا ود بينه وبين النهار "سوى ما تفرضه المجاملة على كائنين من أرومتين ومزاجين يتعايشان على مضض". النهار بالنسبة له ليس سوى وقتا ضائعا بين منزلين للروح ومنزلتين". يؤكد الكيان الليلي أن تفضيله لليل أمر خارج عن إرادته ، وليس اختيارا حرا. هو هكذا، كائن مصاب بالليل؛ يراجع تاريخ إصابته هذه، فيجده قديما، بدأ مذ كان صغيراً بيد ذراعي الجدة، هائما في حكاياتها، متمنيا أن يطولَ الليلُ أكثر، حتى لا ينقطع حبل الحكايةِ اللذيذ. من أجل الجدة وحكاياتها، أيضا، صار الصغيرُ يفضل فصل الشتاء، لأن الليل فيه أطول من بقية الفصول، وحِضن الجدة أكثر دفئا من المعتاد، وحبل الحكاية فيه يطول ويطول. ليليات
لم يكن الصغير يسمع الحكاية فقط، بل يعيشها فعلا، ويمنحها كل تركيزه، وطاقاته الفكريةِ الصغيرة. ولأن الحكاية ليلية بالضرورة، وجد الصغير ذهنه، في كل مرة يأتي فيها الليل، أكثرَ تركيزا وأكثرَ اتقادا. كل شيء يصير عنده أوضحَ في الليل رغم حلكته الجهيرة؛ درس المعلم، مأساة البطل في الحكاية، تلألؤ النجمة... صار يعلم ذلك ويعيه جيدا، ويصحب معه إلى الليل أسئلته العصيةَ، ففي الليل يصير السؤال الكبيرْ والطفل الصغيرْ ندان متكافئان. ليليات
    لكن الكائن الليليَّ ليس وحيدا في ذات الكاتب، وإنما يقيم معه كيان آخر، يشاطره نفس المسكن، ينظر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويأكل بيديه وفمه، ويمشي بقدميه، ولا يشاطره أفكاره؛ لا يميل إلى الهوى والقصائدِ والخيالْ؛ هو كائن نهاري واقعي، يابسُ العواطف، حادُّ المزاج، فوضويٌّ، متقلب. يعلم كل واحد منهما بوجود الآخر، وبوجود تناقض حاد بينهما في الميول والمزاج؛ لذلك اهتديا إلى تقسيم حصتهما من التعايش بالميزان؛ للكيان الواقعيِّ النهارَ بأكمله، وبطوله، وللكيان الليلي، الليلَ رغم قصره. لكن الكيان الواقعي لم  يحترم القسمة، ومدد قضاياهُ الواقعيةَ الصلبةَ اليابسةَ على الليل كما النهار. قمع آخره الليليَّ وأخرسهُ، وانتهك حصته من الوجود.
ولأن الحِلم من أهم صفات الكائن الليلي، لم يردَّ على جور آخره الواقعيِّ إلا بالصبر والتحمل، مكتفيا بالتعبير من حين لآخر عن خيبته، معاتبا إياه: "ماذا كنت تريد مني يا آخري، أكثر؟ تحملت جوارك الفوضويَّ مذ ولدتُ وولدتَ فيّ... أعض على جُرحي كي أشفى من شعور الضحية، ألفت مع الأيام مزاجك النزق، وماعاد شيء فيك يفجؤني، لكن الخيبة منك لم تفارق مكانا في القلب...."
كل هذا، والكائن الواقعيُّ ماض في تسلطه وجبروته، يحرم الكيانَ الليليَّ من أبسط حقوقه، يسجِنه ويضيق عليه الخناق؛ لا يراعي حرمة الشراكةِ، ولا يريدها نصفين بالتساوي؛ يتجسس عليه في المنام، يراقبه كأنه لا يراه، وفي الغد يحاسبه على حقه في التداعي.  في حين يظل الكائنُ الليليُّ على نفس الوضع، مكتفيا بالعتاب، يقول له بلغة مظلوم لم يعد لديه ما يقدمه أكثر: "أنا لا أستطيع أن أمنحك أكثر من فائضي لتملكه، وليس لك علي مزيد حق لتسترده؛ نحن اثنان في واحد يتساويان... ماذا تريد يا ساكني أكثر مما تأخذ من حصتي في يقظتي والمنام؟....كأن الذي بيننا يا شريكي لا يستقيم بالتفاهمِ إلا على غموضٍ أبديٍّ لا يبدده دهرٌ، ولا أحدْ. لك الواقعي، ولي الخيالي، لكنك مارضيت بالقسمة، ولا هيأت لي دَرَجا للصعود إلى المحال. لو كنا واحدا في اثنين، لكنتك، ولكنتني، ولانتهى الذي بيننا من خصام."
لقد كانت هذه بالضبط، مشكلة الكيانين؛ هما اثنان في واحد، وليسا واحدا في اثنين؛ اثنانِ في ذاتِ الكاتبِ يختصمان. لكن الغريب، حقا في قصة هذا الخصام، لا يتمثل في مقدارِ الظلمِ الذي لحق الكيانَ الليلي بقدر ما يتمثل في مقدار الصبرِ، والتفهمِ الذي واجه به الليليُّ آخره الواقعي، فهو لا يقدم له تنازلات كثيرة فحسب، بل يتفهمهُ، ويلتمس له الأعذارْ؛ يعذره لأنه واقعيٌّ إلى حد مخيف، يعذره لأنه يستولي على ليله بتسلط، يعذره لأنه غيرَ مهووسٍ بالشعر، منصرفٍ عنه إلى السياسةِ والفلسفة. وفي محاولة لكسر الهوة بينهما، يشرح له أنه لا يبغضه، ويعترف له بحاجته إليه، يعترف أنه من دونه ناقصْ أو عدمٌ مجردٌ لا يملأ فراغه شيء أو أحدْ، وأنه في غيابه مهيأ للتشرد، وكلُّ ما يريده منه، هو أن يعترف هو أيضا بحقوقه في الليلِ والهوى والخيالِ والقصائد. ويذكره، بعيدا عن الخصام القائمِ بينهما بطبيعة العلاقة التي يجب أن تربطهما : " أنت لا أحد إلا إذا كنتك، وأنا لا أحد إلا حين تكونني... كني أكونك، وأحبك وأحميك من غضبي إذا اشططَّ ومن تعبي، وأعطيك سلامي".
    عبثا يحاول الكائنُ الليليُّ أن يصلح ذات البين بينه وبين آخرِه الواقعي، فشريكه غيرُ آبه به ولا مهتمٌّ بوجوده أساسا، يحار في الأمر، فيتركه للزمانِ كي يقضي في ما بينهما من خلافْ، ويوزعَ حسابه بالتساوي على كيانين لا يلتئمان إلا على خصام أبدي.
ولأن الحكم على قضية من خلال الإنصات لطرف واحد في النزاع ظالم بالضرورة، كان على الآخرِ الواقعي أن يمثل أيضا أمام محكمة الذات، لتعرف هي أصل الداء، وتحكم بالحق ولا تجور على أحدٍ من الطرفين المختصمين.
يمثل الواقعي أمام الذات، فيعرف نفسه أولا، بأنه كائن نهاري، يفضل النهارَ لأنه يجد فيه ما لا يستطيع الليلُ أن يقدمه؛ وضوح قاسي وصرامة يحتاجها الذهن، في النهار قسوة زائدة من حديث الأشياء عن نفسها بلا مكحلة. في النهارِ شمسُ الوضوحْ وهذا ما ينشده الواقعي. يعرف أنه ليس الوحيد في ذات الكاتب، يعلم بوجود آخرٍ ليليٍّ يشاطره نفسَ الذات؛ آخرٍ غامضٍ جدا، يصعب فهمهْ، يشرح للذات أنه دعاه مرات للوضوح فتمنع عنه، وخطب وده فصده، لا يعرفه إلا لماما، وإن كان ما بينهما، حسب شهادته، عاديا: لا سلاما ولا خصاما، يعاشره كجار لا يبادله تحية الصباح إلا نادرا. ويعرف أن أصل الجفاء هذا يعود إلى التناقض في مزاجيهما.
 وفي ما يتعلق بقضية المزاج هذه، يشهد الواقعي أنه تغير كثيرا عن ذي قبل، وأنه صار مهتما أكثرَ بالبحث عن التوازن والسلام؛ السلامِ مع الخوف من المجهول، السلامِ مع الطيشِ الذي حمّله الذهاب إلى المستحيلِ من باب لباب... هو اليومَ غير ما كانه في الماضي، صار يميل إلى التواضع أكثرْ، لم يعد يريد من الدنيا إلا ما في مكن الخليقةِ من الحظّْ، لم يعد يجحد ما ترتضيه له قسمة الطبيعة.  يبحث عن الصلح مع الأشياء، ويعرف أنه لا حق له في إملاءِ أوامرهِ على الطبيعةِ والمألوف.
صحيح، أن الواقعيَّ يلومُ الليليَّ على غموضهِ وصمته القاسي، لكن ليس من أجل التخلص من وطأة الشعور بالذنب، فهو يعترف أنه استحوذ على حصة الليليّْ وضمها إلى حصته، وهو يهاجر إلى الدنيا في الكتب، ويطوي المسافات، ويجوب الآفاق بلا تعب، و يبحث في التاريخ عن ما يكفي نهمه للتلصص على حياة الآخرين، والتدرب على طرائقهم في ترويض المحالِ إلى الكينونة. يعترف أمام الذات، أنه هو السبب في شقوة الروح واختناقها بين سورين في داخلها يختصمان. يعرف أن اعتذاره جاء متأخرا، ويتمنى العودةَ إلى الوراء: "لو كان لي أن أعود إلى الماضي، لقدمت اعتذاري لي على مافعلت بنفسي: ما أدررت من وقت لأقرأ العالم في فنجان نصٍّ مقفل؛ ما أدمنت من خوفٍ لأشعر أنيَ حيٌّ، وأن الموت مؤجل، ما عبدت من الآلهةِ ليكون لي من اليقين ما يفوق المحصل".
ودونما حاجة لمن يقوم بمهمة المحاكمةِ عنه، يسائلُ الواقعيُّ نفسه عن الأسبابِ التي جعلته يدفنُ القصيدةَ حيةً وما أخذت بذنبْ، تراه خال أن الفلسفة تنسخها وتمسحها من مائدة ديكارت؟ يسائل نفسه: "من جرأك على مقام الشعراءِ وهم يقيمون فيكَ وفي دمكَ يسبحون؟ أنت موؤودٌ مع القصيدةِ التي دفنتها، وهربتها إلى ما وراءِ الغيابْ. لكن القصيدة لا تموت، وإن هربتَ حروفها ورميتَ أشلاءها إلى البعيــد، كما ترمي بنظرةٍ تائهةٍ إلى السراب.
ضحى الواقعيُّ بالليلِ والقصائدِ والخيالْ، في سبيل البحثِ عن المعنى؛ بحث عنه في السياسةِ أولا، تعلم منها أن يكون واقعيا كشمس النهار، أن لا يختار من الرأيِ أولهْ، أن لا يستعجلَ القفزَ من الحدوس إلى الأفكارْ، تعلم منها الإكثار من الكياسة عند الشدائدِ، وانقلاب الأحوالِ على أهلها. ثم بحث عنه في الفلسفة، وتعلم منها كيف يبتعدُ عن المرئيِّ قليلا ليراه أكثر. يراجع تاريخه الذي قطعه باحثا عن المعنى؛ حين كان صبيا رآه لعبةً أكبرَ من إدراكِه الصغيرْ؛ لم يفهم لم خرجت سلالة آدمَ من النعيم من أجل تفاحة، لم يفهم لم تكون الإباحةُ رخصةً مفتوحةً لأداءِ الواجباتِ والحقوقُ تعزُّ كل يوم. لم يفهم لم ينام الناس باكرا بعد صلاة العشاء. أسرف سنينا في البحث عن المعنى، كبر الصغيرُ، وما امتلك منه شيئا؛ فكلُّ ما يشتريه من المعنى أمس، يبيعه غدا. فهم أن هذا المعنى الذي يبحث عنهُ كالفصولِ متبدل، وكالأيامِ تتعاقبُ ولا تعيدُ سيرتها وإن تشابهت، بدأ يدركُ مع الزمنْ أن رأسهُ يقيمُ بين وهمينِ مريحينْ، وأن الوهمَ ينهارُ بعد برههْ ويتسلمُه السؤال، كما تتسلمُه يومياتُه أولَ النهار.
بعد عمر من البحث عن المعنى، يفهم الواقعيُّ أخيرا ويشرح لنفسه: "المعنى لا أحد إلاكْ، إن أنت أدركت نفسكَ بنفسكْ، والمعنى سواك، إن أنت أضعت ذاتك في ذاتك". بعد سنين من البحث عن المعنى في الخارجِ، دون جدوى،  يقرر الواقعيُّ العودةَ إلى الداخلْ، ليبحث عنه عميقا في ذاتهِ التي تحترقُ من لهيب الصراعِ، بين الواقعيِّ فيها والخياليّْ، لا مفر له، إذن، من إعلانِ الرغبةِ في الصلحْ، وفتح باب التفاهمِ مع شريكه في الذات. ولكن، كيف يواجُهه الآن بعد أن فعل به ما فعل.
     يتذكر ما فعله بالقلبْ، كان يعرفُ أنه لا مهنةَ له غيرَ الحب، لكنه دربه على النسيانْ، كي يصبح آلة حادة تقُد صخر الجبالْ، فجفتْ مياهُهُ حيناً، وغاضتْ وأوشكَ أن يألفَ عاداتٍ جديدة، كأن يتعطل عن العمل مثلا، أو يضربَ عن الفرح... يستحضرُ كيف خاطبَهُ بلهجةٍ توتاليتاريةٍ ماركسيةٍ خانقهْ، حين كان يطالب بحقوقه: "إن أردتَ أن تحبَّ فحُبُّك طبقيّْ، والمحبوبونَ كُثرْ بعددِ من حمل منجلاً ومطرقه" فيلوذ بصمت مديــــد، يُسمع في دقاتهِ المتشرنقة.
بعد أن تسربتِ السنواتُ من بين يديه، صار الواقعيُّ يعرفُ أن العمرَ لا يفسحُ له المجالَ ليكملَ ما بدأهُ من الفضولْ،   ليس له بعدَ الخمسين سوى الحنين إلى السنوات الماضية؛ تُقلِّب في رأسه الأحداثَ، كما يُقلّب الجمرُ في المجمرة.
الآن، تقف سنواتُه الماضيةُ أمامه شاهداتٍ على مافعله بآخره الليلي، حين حرمه من حقه في الحضور، يجثو أمامها نادما: "لم أكن أدري مافعلتُ بنفسي في أمسي: بحثتُ عن المستحيلْ، وأوجفتُ خيلي في طلبِ الكثير.... لو كان لي أن أعيد أمسي، لصالحتُ نفسي على ميثاق جديد: أن لا أعيد سيرتي مع ما أرهق رأسي في إسراج المستحيلْ، وغرمني في أنايَ وتَخًطّف ما في قسمتي من القليل". ولكن، في ما يفيد الندم وقد مر الزمان، وكان ما كان، سواء اعتذر الواقعيُّ أو لم يعتذر، التهمُ في حقه ثابتة: انتهاك حقوقِ آخرِه الليلي، وعدمِ احترامِ أصولِ الجوارِ سنينا طوال.  
وبعد الاستماع إلى شكوى الطرفين، حكمت الذاتُ على الكيانين معا، بالعودةِ إلى البدايات، علهما يجدان فيها ما يسعفهما للوصول إلى السلام المرتقب. ورضي الطرفانُ بالحكم. فهما وإن اختلفا في الكثير من الأشياء، يتفقانِ على أنهما ينتميانِ إلى نفس البدايات. يعودان قديما إلى هناك، فيجدان في الذاكرة، "فوضى تزدحم بالفوضى، وخطوطَ ذهابٍ وإيابٍ تتشابك في نسيج عبثيٍّ لا يعقله أحد" . عليهما الآن معا، رغم صعوبةِ القبضِ على هذه الفوضى وتنظيمها، أن يتحدا، للبحثِ فيها عن ما يقودُ الذاتَ إلى السلام؛ لكن، يبدو أن الفوضى كانت أكبر من مجهودِهما، لذلك أتت "ليليات" و"على صهوة الكلام" على شكل ومضاتٍ غيرِ مرتبةٍ من الذاكرة؛ لا بأس ببعض الفوضى، أو حتى بالكثير، المهم هو العثورُ على بابِ الصلح وطريقِ السلام.
      يبحثان  وهما في منحدر العمرِ عن البدايات، يفهمان أن البداية هي نفسُها النهاية، صحيح أن البداية تبدو نقيضا للنهاية، غير أن الجدلَ يفكُّ المسأله؛ ويلقنُهما أن صرخةَ الميلادْ إعلان مبكر لشهقة الموت، وأن فعل المضارعِ عابر في تاريخ المعجمِ ولا أحد يتذكره إلا في صيغة الماضي. بين البداية والنهاية تمتد الحياة، كمسافةٍ، بين دخول وخروجٍ تكفي لتحقيق مملكة من وهم جميــــل لا يتكرر.
تبدأ هذه الفوضى منذ ولدتِ الذاتُ، حاملةُ هذا التناقضِ الشقيِّ، ذات مساءٍ بشكل مفاجئٍ، في مدينةِ الحمراء. وحمراءُ الكاتب ليستِ الحمراءَ التي يعرفها الجميع، إنها حمراءٌ أخرى، بناها بنفسهِ مثلما يشتهي، فتح فيها دروبا مغلقة، ووسع ما بين حائطي ممرات ضيقة، ونشر حدائقَ في ساحاتٍ أهملها العابرون،  رصفها حجرا حجرا، وأجرى فيها الينابيعَ، وفتح الطرقَ، وأخرج سور المدينةِ عن السور ليدخُل الهواءُ أكثر، وسع حيا وضيق آخر، ورفع مئذنة هنا لتكون قامتُها بالأهل أجدر. المدينة مسقطُ رأسِ الكيانين، وذكراها تجمعهما في انتماء مشترك، فالواقعي عرف تفاصيلها نهارا،  والخيالي أعاد بناءها وترتيبها، فتحولت في عمليةٍ تركيبيةٍ جدليةٍ بفعل  الواقعي والخيالي، إلى غير ما هي عليه، انطلاقا من ما هي عليه؛ أي إلى ذكرى.
وأجملُ ما في تاريخ الذكرى؛ ذكرى جدةٍ رحلت وما رحلتْ. وكما كان الصغيرُ في الماضي يلجأ إليها ويحتمي فيها كلما لحقتهُ نازلهْ، يحتمي الكبيرُ اليومَ في ذكراها لتحلَّ المسألةَ وتوجد السلامْ، يجتمع الواقعي والخيالي  في صوت واحدٍ بها يستنجدان " أنا ابنك جدتي، أتنفس برئتيك، وتأكلين بفمي،  وأرتمي في آخرِ الليل بين ذراعيكِ، لأحتمي من شبحٍ يخيم على صباي.... أنا ابنك جدتي.... قد أنسى قدميَّ في الطريق إليَّ، وقد أنسى مساحة جسمي في جسدي... وأنسى مــا شئتِ، لكني لا أنسى أنك أنتِ من منحتِ الطفلَ الصغيرَ شريعة القلبِ وعلمته حروف الأبجديةِ في كتابِ الحياةِ وصقلتِ فيه الصبيا"  تحضرُ ذكرى الجده بعدَ النداءْ، أجملُ وأبهى، لتجلب الكثيـــرَ من الأمنِ والسلامِ إلى ذات الكاتب. يحضر حِضنها الأدفأ في الشتاء، وتحضر حكاياتُها الخرافيةُ التي يتخيل الصغيرْ أنها حدثت بالفعل، ويسألها عن التفاصيلْ.
كانت الجدة تروي كل يوم عن حدثٍ لم يحدث، ومدنٍ لم يشيدها إنسان، ولا كان لها رسم في الزمان، يغريه بعض المدهش، ويرعبه الباقي عن الأرواحِ كما يرعبه صوتُ مديرِ المدرسة. حتى صارَ يرى ويسمعُ، ما لا يراهُ الآخرونَ ولا يسمعونَه؛ أضرب عن النومِ وحده، وأرغمته خيالاتُه على أن يدفِن رأسه تحتَ الملاءةِ، حتى لا يُطالعَه ما لا تراهُ العيونُ في العتمِ اللانهائي. يعرف أن لا أحدَ يرى الأشباحَ غيرَه، لكنه في الوقتِ نفسِه، لا يصدق من يقولُ له إنها خيالاتُ جبانٍ خائفْ.
لم يتغلبِ الصغيرُ على الخوفِ إلا بالسياسة. صار الخوفُ والسياسةُ فيه ضدان يجتمعان، عند النظر في الضدين؛ الخوفُ والشجاعة،  وباستثمار درس الدياليكتيك، علم أنه لا عيب في التناقض، وانتبه إلى التغير، فكل شيء يصير إلى نقيضه الذي يَنفيهِ... ويُبقيه. اكتشف لعبة التكوين، وعاقرها كنبيذ معتق؛ ماذا لو كان الخوفُ شجاعة مضمرة؟ ماذا لو كان الاندفاعُ خوفا منفلتا؟  وماذا لو كان النهارُ ليلا مشمسا، وكان الليلُ نهارا مقمرا. وماذا لو كان الواقعي في الكاتبِ خياليا من حيث لا يعلم؛ ألم يلجأ إلى السياسةِ طالبا الواقعَ منصرفا عن الحكاياتِ والخرافة، ألم يأخذهُ هذا الواقعُ إلى خيالات من نوع آخر؛ كأن العالم سيخرج أجملَ من مطارق العمال ومناجل الفلاحين، وأن قليلا من الوعي والخطابة يكفي ليشعل الحماسة في الملايين. كأن الحرب محضَ خطإ بشري غيرِ مقصود، وأن صندوق الاقتراع منصفٌ لا يكذبْ، وأن الشمسَ منه تخرجُ والمطرَ، وهديلَ الحمامِ وكِسرةَ خبزِ الفقير... 
لا تخرج الذات من عملية تقليبها للذكرياتِ خالية الوفاض؛ هاهي فهمت أنها مزيجٌ واحدٌ من مركبين متناقضين؛ مزيجٌ فيهِ الطبيعيُّ والمؤسسة، فيهِ الحيويُّ يطلب حقوقه العادلة، كأيِّ امرئ آخرَ في الدنيا، ومطالبه شحيحة، من مد الليل حتى آخره على شرف نص، إلى الاعتذار عن احترام طقوس اليومي المقدسة. وفيهِ ما يكفي من شحومِ الواقعيةِ لمجاملةِ العادات. تعلمَ الصغيرُ من درس الجدلْ أن يوازنَ بين المتناقضات، وأدرك أن الأرومتين فيهِ، يتماهيانْ، ويصنعانِ كما يصنعُ الوجودُ والفناءُ العناصرَ والأشياءْ، يلقنهما درس الجدلِ  أنهما ليسا اثنينِ في واحدْ، بل واحداً مركباً بفضل اثنينْ، واحداً قادراً على فهم تناقضاتهِ، وبث السلام في ذاتهِ وفي العالمِ بأسرهِ، في لحظة إشراقٍ، يدركها آخرَ المساءْ، حيث يمتزج الليلُ والنهار في تركيبٍ برتقاليٍّ يراقصُ فيهِ الواقعُ الخيالْ.


البحث عن الذات ابراهيم الفقي
كيفية البحث عن الذات
البحث عن الذات و دراسة فى الشخصية
ملخص كتاب البحث عن الذات
البحث عن الذات بحوثات ذات صلة
البحث عن الذات احمد مطر
كيف ابحث عن ذاتي
البحث عن الذات
Previous Post Next Post