رؤية مستقبلية في التأسيس لحقوق الإنسان وتفعيلها )

       لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، لا سيما عندما نكون نحن على وجه الخصوص مكلّفون بتفعيله حفظا لإنسانيتنا وإنسانية كل إنسان نحن مطالبين بدعوته إلى الحقيقة المنجية من براثن الانتهاك للمكانة الإنسانية.
       وأمام غيابٍ في التفعيل للعدالة ولحماية حقوق الإنسان في معظم دول العالم الإسلامي، وبلوغ الغرب درجات السمو العلى – وفق ما يراه – في الارتقاء بإنسانية الإنسان وبحرياته وبحقوقه الفكرية والسياسية والاجتماعية، وذلك انطلاقا من نظرياته الوضعية، وقيامه بفرض نظامه وإيديولوجيته التي تنتهك الخصوصية الثقافية للأمة. أمام كل هذه التحديات أصبح لزاما علينا أن ننطلق في بناء رؤية المستقبل في التأسيس لحقوق الإنسان وتفعيلها، والعمل على عرضها كما ارتبطت في المنهجية الربانية بمقاصد الشريعة التي أُمرنا بالالتزام بها من أجل تحقيق الصلاح لإنسانية الإنسان وحمايتها من كل تعرّض للانتهاك والإسفاف.
       إن تبني برنامج لتأسيس حقوق الإنسان وتفعيلها لا يمكن أن تكون له فعاليته دون أن يكون بتبني أفضل نظم التأسيس لذلك، والتي وضعها الصانع لمصنوعاته، فهو العالم سبحانه ببواطن الأمور، وبما تستلزمه مصلحة الإنسان في الآن وبعد الآن. وهنا تقع على المؤسسات الرسمية والأهلية ضرورة تبني استراتيجيات من شأنها تأسيس حقوق الإنسان وتفعيلها وفق هذه المنهجية وهذه الآلية انطلاقا من قاعدتها الربانية السميكة.
       ثم إنه ليس بالضرورة في  تأسيس وتفعيل حقوق الإنسان تبني سياسة المواجهة والمضادّة على ما تتبناه المواثيق الإقليمية والعالمية من استراتيجيات في تأسيس حقوق الإنسان، بل ينبغي التعاون مع مقرري هذه المواثيق بما يخدم المصالح الإنسانية المشتركة، والعمل على رفض كل ما قد يتعارض مع القواعد الشرعية المرعية.
       هناك اعتبارات كثيرة ترتبط بمحاور سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية تتصل بحقوق الإنسان، وهو ما تعرضنا لمختلف جوانبه في هذه الدراسة، ليبقى التأكيد في خاتمتها على أبرز النتائج والتوصيات والتوقعات التي تمثل قاعدة للتأسيس لحقوق الإنسان وتفعيلها.
      
أولا: النتائج

إن نظرية فقه المقاصد في مختلف مراتبها لا تقع تحت دائرة الحصر، ولا يمكن أن تكون محلا للاجتهاد المطلق دون ضوابط، وهي متغيرة وتتأثر بالزمان والمكان والأشخاص.إلا أن هذه النظرية يمكن أن تؤطر ضمن إطار جامع يتم من خلاله تقرير الثوابت العمومية التي تكون محل تأييد، وذلك وفق ضوابط يتفق عليها رجالات ومفكرو الأمة ممن يمتلك القدرة على إدراك فلسفة مقاصد الأحكام، وأن ذلك يتحقق بقصر استقراء المقاصد لتقوية التعلق بالأحكام والتوجيهات الربانية، والتأكيد على أن هذه الأحكام وهذه التوجيهات تستوعب الإنسان ولا يمكن للإنسان أن يستوعبها.
1.              تختلف المعايير التي انبنى عليها التقسيم الشرعي للحق – حقوق الله وحقوق الناس – والتقسيم القانوني – حقوق طبيعية وحقوق مكتسبة –، وقد ترتب على ذلك تداخل عناصر التقسيمين بسبب اختلاف المعايير التي يقوم عليها كل منهما.
2.              إن انتهاك الحق والاعتداء عليه، والتقصير في الواجب أو عدم الالتزام به هو الذي يرتب المسؤولية حسب طبيعة الانتهاك والاعتداء على الحق، وحسب نوعية التقصير في الواجب أو عدم الالتزام به، وبناء على ذلك تترتب العقوبة التي تتقرر في القانون حماية لهذا الحق واحتراما لذلك الواجب، ويرتبط جميع ما سبق بمصلحة، ولا يتصل باشتراط وجود إرادة من عدمه.
3.              إذا كانت الحرية هي لحظة انطلاق الإنسان نحو إيجاد نفسه وإبداعه والارتقاء بإنسانيته، فإن معرفة إطار حيز الانطلاق وإدراك معالمه يقع ضمن دائرة أهم من فهم الحرية نفسها.
4.              ليس من المهم العمل على وضع مواثيق وعهود لحماية حقوق الإنسان، بل الأهم من ذلك وهو ثمرته ضرورة العمل على وضع آلية لتفعيلها وحمايتها من الانتهاك بفرض عقوبة على من ينتهكها.
5.              إن القواعد التي تنظم الحقوق والواجبات في المجتمع هي في المقام الأول تعد قيما أخلاقية ينبغي أن توظف قنوات الإعلام لإشاعتها كثقافة، وهي في ذات الوقت مالم تنظم بقواعد قانونية لها صفة العمومية والتجريد والإلزام فإنها تكون عرضة للانتهاك، كما أن إقامتها على فلسفة الحق والواجب جدير باتسامها بقدسية تكفل لها لها الفاعلية والتأثير في واقع المجتمعات الإنسانية.
6.              إن الجدلية في حقوق الإنسان لا تثور بين ما تحميه مصالح الإنسان من مقاصد شرعية أو وثائق عالمية، فكلهم يتفقون جملة لا تفصيلا على تحديد محاور الحماية لهذه المحاور، ولكن الإشكالية تثور بالنسبة لآلية الحماية لهذه الحقوق، وتحديد ما يعد انتهاكا لها مما لا يعد كذلك، وهنا لا بد أن تحترم الخصوصيات بين مختلف الشعوب.
7.              إن حقوق الإنسان في مضمونها وجوهرها تعبر عن واجبات قبل أن تكوّن حقوقا تترتب على احترام هذه الواجبات. ومالم يحفظ الفرد حرمة حقوق فرد آخر مثله، فإن حقوقه المقررة تكون عرضة للانتهاك بحق، ومن باب أولى فإنه متى ما كانت أوضاع هذه الحقوق مهددة بصورة جماعية – محليا أو عالميا -، فإن لتجاوز الالتزام بمعايير هذه الحقوق من المسوغات ما يبرر انتهاكها حفظا للمصلحة الكلية المقدمة على المصلحة الخاصة أو الفئوية، ولكن ذلك يتحقق بآلية من شأنها أن تقنع الرأي العام بمبررات ذلك، وإلا عدت انتهاكات لا مسوّغات.
8.              إن الأنظمة الشمولية التي تجمع بين النظام الإسلامي وغيره من الأنظمة لا يمكن أن يتحقق لها الاستقرار نظرا لكونها قد تتضارب فيها المسائل التي تقرها نظرا لاختلاف مصادرها المعتمدة لديها، وبذلك فإنه لا يمكن مسايرة المتغيرات العالمية إلا بالتجاوب معها انطلاقا من ملامح الخصوصية في مختلف أبعادها.
9.              إن النهج الذي تسير عليه الدول العظمى في كيلها بمكيالين، وفي تسخيرها للأمم المتحدة لتحقيق مصالحها في قضايا هامة وحساسة تتعلق بحقوق الإنسان، سوف يجرّها إلى ويلات تعجز عن التعامل معها، ومعطيات الواقع قد قررت ذلك.
10.       إن الأمم العربية والإسلامية ينبغي أن تفقه القيادات السياسية والفكرية فيها بأنه لا يمكن الخروج من عنق الزجاجة مما تعانيه من ضعف وانكماش إلا بالعمل على إعداد برامج لكفالة حقوق الإنسان في مختلف مؤسساتها، والتي تعتبر أساسا للتنمية في مختلف محاورها وأبجدياتها، ولكن ذلك لا بد أن يكون بالمنهجية التي تعتنقها لا بمنهجية أخرى.  
11.       إن السلطة في النظام الإسلامي تستمد قوتها استهداء بالشريعة الربانية، والتي يتقرر بناء عليها المصلحة وفق الضوابط المقررة في نصوصها؛ إذ ليست المسألة خاضعة للاجتهاد المطلق للإنسان، والذي قد لا يدرك في كثير من الأحوال ما يتناسب مع مصلحته الحالّة والمستقبلة. 
12.       إن فاعلية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فضلا عن اختلاف المجتمعات الإنسانية حول ما ورد فيه تجعله وثيقة غير ملزمة؛ وذلك على اعتبار أن مخالفها ومنتهكها يكون عرضة للاستنكار ليس إلا، كما لا توجد بوادر لإنشاء ما يكفل احترامها على النطاق العالمي، لا سيما في ظل انتهاك هذه الحقوق ممن وضعها من الدول الكبرى.
13.       لا يكفي لحماية حقوق الإنسان تنظيم هذه المسألة من خلال النصوص القانونية والاتفاقيات والمعاهدات والمحاكمات، وهو ما يقوم عليه محور دور منظمات وجمعيات حقوق الإنسان، والتي وإن كانت تسعى إلى نشر ثقافة حقوق الإنسان، إلا أن نظام الرقابة والحسبة في النظام الإسلامي ينطلق في تحقيقه للمقاصد بحفظ الحقوق من العمل على بناء وازع ديني ذا بعد عقدي يكفل ذلك، ويخضع لرقابة المحتسب، ويُحمى من الانتهاكات بالحدود والتعزيرات.
14.       إن تحقيق الأمن الغذائي كحاجة فسيولوجية للإنسان في ظل التحديات التي تواجهها البيئة، والتزايد الهائل في أعداد السكان في ظل استقرار الأوضاع أصبح ضرورة ملحّة من شأن عدم الالتفات لها أو الإضعاف من الاهتمام بها أن يجر الإنسانية إلى تفاقم في انعدام الأمن والاستقرار.
15.       يقع على السلطة الحاكمة في البلاد بمختلف مؤسساتها وأجهزتها أن تغرس المصداقية والشفافية في التعامل مع مؤسسات المجتمع المدني؛ وذلك نظرا لكونها تمثل مختلف التوجهات في المجتمع.
16.       إن الغزو الإيديولوجي والتطبيع الثقافي والعولمة وما شابه ذلك من مصطلحات وجوه لعملة واحدة، وما يقوم به القائمون على هذه المسائل إنما يعملون من خلاله على تجديد توظيفاتهم وأهدافهم تلبية لواقع المتغيرات والمستجدات، ولا شك أن تغيير وتجديد المصطلحات يعد شيئا من ذلك.
17.       إن بناء إنسان الواجب لا يكون بتعريفه بحقوقه المقررة له في العهود والمواثيق ليسعى في تحصيلها والمطالبة بها، ولا بإعلامه بالعقوبات التي تترتب على انتهاكها، بل يكون ذلك وفق المنهجية الربانية بتعريفه بأن انتهاك هذه الحقوق ذنب لا يُغتفر إلا برد المظالم، وطلب الصفح والمغفرة، وأن يكون تأتي ذلك من منطلق عقدي  بالعمل على غرس الالتزام به من خلال الوازع الذي ينمي احترامها مما يضعف تعرضها للانتهاك.

ثانيا: التوصيات

1.              إعداد الدراسات التي تُعنى بتقرير الثوابت العمومية التي تكون محل تأييد في فقه نظرية المقاصد، وذلك وفق ضوابط يتفق عليها رجالات ومفكرو الأمة ممن يمتلك القدرة على إدراك فلسفة مقاصد الأحكام.
2.              الارتكاز عند تبني كل ما يُعنى بالإنسان وبما يقرر تنظيم مصلحته بناء على الاسترشاد بالنصوص الشرعية واجتهادات الفقهاء القدماء والمعاصرين.
3.              ضرورة إشاعة مفهوم الحرية المقيدة بضوابط الشرع، حيث أن الحرية المطلقة ليس من شأنها الارتقاء بإنسانية الإنسان، بل من شأنها الحط من قدره ومكانته.
4.              ضرورة العمل على وضع آليات لتطبيق وتفعيل النصوص والمواد القانونية التي تنظم حقوق الإنسان، وألا تكون عبارة عن شعارات برّاقة لا تتجاوز مرحلة التنظير، وأفضل منطلق لاحترام هذه الحقوق إشاعة البعد التعبدي المتمثل باحترامها والابتعاد عن انتهاكها بأي شكل من الأشكال، مما يشكل معصية وذنبا لا يُغتفر نظرا لكونه متصلا بحقوق الناس. 
5.              بناء نشر ثقافة حقوق الإنسان على فلسفة الحق والواجب، وإشاعتها كمبادئ أخلاقية لتنظيم حقوق الإنسان وحرياته، وفي ذات الوقت     لا بد تنظيمها بقواعد قانونية لها صفة العمومية والتجريد والإلزام، والتي يترتب على انتهاكها العقاب.
6.              إن الانضمام للمواثيق العالمية التي تنظم حقوق الإنسان ينبغي أن يتأتى التحفظ عليه بالنسبة لما فيه من بنود قد تخالف ما تقرر في النصوص الشرعية، واستقرت عليه اجتهادات الفقهاء.
7.              لا بد من وضع الخصوصيات في مختلف جوانبها محل اعتبار أثناء التفاعل والتعاطي مع المتغيرات والمستجدات، وأثناء إبرام العقود والمواثيق المشتركة عالميا وإقليميا.
8.              إن التعامل مع هيئة الأمم المتحدة لا بد أن يكون بواقعية بعيدا عن المجاملات، لا سيما وقد أضحت أداة تهيمن عليها القوى العظمى، وليست أداة لحفظ العدالة وحماية الحريات وحقوق الإنسان.
9.              ضرورة العمل على غرس المصداقية والشفافية في التعامل مع مؤسسات المجتمع المدني من قبل المؤسسات الرسمية.
10.       لا بد أن تتولد القناعة عند العقول المفكرة في العالم الإسلامي على اختلاف توجهاتها أن الارتقاء بإنسانية الإنسان لا يمكن أن يتحقق بمنأى عن شرع الله وأحكامه في تنظيم الإنسان، وأنه لا بد من تبني ذلك وتقوية الاتصال به، بل والدعوة إليه كمنهج وحيد يصلح لتنظيم حياة الإنسان. 

ثالثا: التوقعات

1.              أن يكون الالتزام باحترام حقوق الإنسان ليس التزاما مصلحيا وقانونيا فحسب، بل يكون التزاما ينطلق من منطلق عقدي من شأنه تحقيق عمق في الارتباط بين التنظير والتفعيل.
2.              تولّد القناعات على اعتبار أن حقوق الإنسان لا يمكن فهمها مجردة دون قيود، وذلك بعد أن يتزايد تصادم المصالح بسبب القيام بممارستها دون الالتزام بضوابط.
3.              إن الضغوطات التي تقوم بها جماعات حقوق الإنسان في العالمين العربي والإسلامي من أجل المطالبة بمزيد من التفعيل لمواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان لن تحقق نتائجها المرجوة مالم تنطلق من الثوابت والأصول.
4.              فقدان الثقة بمصداقية جهود هيئة الأمم المتحدة باعتبارها جهة راعية لحقوق الإنسان.
5.              بروز زيادة في التأثير لبناء ودعم الآليات التي تحفظ الخصوصية للمجتمعات المسلمة، وتولّد القناعات التي تسترشد بالثوابت والأصول، وذلك بفضل الجهود الصادقة للأفراد ومؤسسات المجتمع المدني.
6.              أن تتزايد القناعات في العالمين العربي والإسلامي بأن دعم حقوق الإنسان هو السبيل إلى تحقيق التنمية في ظل المتغيرات والمستجدات المتسارعة.
7.              أن تتقرر فعالية أكبر لحفظ وحماية حقوق الإنسان في العالمين العربي والإسلامي؛ وذلك بفضل جهود مؤسسات المجتمع المدني، لا سيما في ظل الضغوطات العالمية.  
8.              مزيد من الانتهاكات لحقوق الإنسان وحرياته وتوظيفها لحساب مصالح فئوية، لا سيما في ظل سيطرة النظام الرأسمالي على مراكز التحكم بمقدرات العالم ومستقبله، بما يعد مؤشرا لزواله بسبب فشله الذريع في الارتقاء بإنسانية الإنسان.
9.   
10.   المحور السياسي
11.    
12.   إذا كان البعد السياسي لحقوق الإنسان – كما ذكرت - يشكل قمة الهرم في الأهمية في إقرار وتفعيل حقوق الإنسان على أرض الواقع، فإن مما يتعين ذكره في هذا المقام أن الحقوق التي تأخذ الصبغة السياسية هي من أهم الحقوق التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي تلك الحقوق التي تتصل بحقوق الممارسة السياسية للفرد بوصفه شريكا في إقامة نظام الجماعة السياسي، ومن أبرز هذه الحقوق التي يثور حولها الجدل الديمقراطية والحريات العامة.[1]
13.   إن حقوق الإنسان نظرا لارتباطها بالكليات والأساسيات التي لا يمكن أن تتفاعل حياة البشرية بدونها، فإنه لا يمكن في الأحوال العامة والمطّردة أن تكون عرضة للانتهاك والاعتداء، وذلك بتفعيل أنظمة وقوانين تبرر للسلطات محليا أو إقليميا أو عالميا أن تنتهك مثل هذه الحقوق التي تتوافق عليها جميع الأنظمة والشرائع. إلا أن الاستثناءات التي قد ترد على واقع العلاقة وحقيقتها قد تجد ما يبرر إيجاد مسوّغات للاعتداء على حقوق الإنسان، وذلك عندما تنحصر في الفردية والفئوية، وذلك رعاية لمصلحة أعم وأشمل منها، وهي مسألة لا مراء فيها في مختلف الأنظمة والتشريعات على اختلاف مصادرها التي تعتمد عليها، ولكن لا بد أن تكون لهذه الأنظمة مسوّغاتها ومبرراتها التي ينبغي أن تكون مقرّة على سبيل الاستثناء، وذلك بأنظمة وقوانين تستقر في قناعة الرأي العامة على اعتبار أن الأخذ بها في هذا الظرف الاستثنائي قد جاء تحقيقا للمصلحة المرجوة.
14.          ولما كانت هذه الحقوق تتصل بالمجتمعات البشرية التي كتب الله عليها التنوع ثقافة وفكرا، وعادات وطباعا، فإن ثمرة ذلك أن تنشأ أنظمة مختلفة لكل ما من شأنه أن يحفظ كل ما يتصل بالإنسان والتي على رأسها حقوقه، وذلك وفقا للبعد العقائدي والفلسفي والثقافي دوره في خلق هذا النظام.
15.          ولكن المستقرئ للأزمة التي يعاني منها الإنسان في ظل انتهاك حقوقه، لا سيما وأنك تجده يلهث خلف النظام الذي ينبغي أن يحكم وينظم به علاقاته ضمن نطاق الأفراد أو ضمن نطاق الجماعات، فإن المجتمعات الإنسانية ما زالت تتخبّط ما بين صلاحية نظام وآخر، مبتعدة بذلك عن النظام الذي هو أعرف بمصلحتها مآلا ومستقبلا، وهذا ما جرّها إلى أزمة تعاني في ظلها من اختلال في تنظيم الحقوق والواجبات؛ لذلك كان النظام الذي يحكم علاقة التعاقد بين الأفراد والسلطة هو الذي يرسم مستقبل أمة من الناس تسعى إلى الارتقاء بإنسانيتها شكلا ومضمونا، وذلك بما يحفظ لها الاستقرار لمقتضى الفطرة التي رسمت للإنسانية أن يكون منها حكاما ومحكومين ينبغي أن تنتظم العلاقة بينهم وفق قواعد شرعية مرعية، وإلا فإن ضياع الحقوق والاستهتار بالواجبات من شأنه أن يضعف الاستقرار في هذه المجتمعات من مختلف جوانبه في واقع الأمة ومستقبلها.
16.          مهما تأتت الاختلافات العقائدية والفكرية والثقافية والإيديولوجية والاجتماعية وما إلى ذلك، فإن إنسانية الإنسان ما زالت تفرض قواسمها المشتركة التي ينبغي أن تتضافر فيها الجهود من أجل تعزيز مصلحة الإنسان المجرد من انتماءاته وولاءاته، وهو ما تقرر في منهج الله الذي قرر الحماية في توازن منقطع النظير للمصلحة الإنسانية المجرّدة.
17.          وفي ظل الخلل الذي يعاني منه النظام السائد في العالم، وبروز منظمات وهيئات ومحاكم تسعى لكي تحتوي هذا الخلل، فإنه تبقى تنمية الوازع لاحترام الحق والالتزام بالواجب هو مصدر القوة في الالتزام بالقواعد التي تكفل حماية حقوق الإنسان، فنشر الثقافة للعلم بالشيء، وإبراز العقوبة والجزاء لانتهاك الأنظمة والقوانين حاجة لا غنى عنها، ولكن ما يكفل الاستقرار في المجتمع أن يكون الالتزام بها مرتكزا على قوة داخلية عقدية مبينة على فلسفة الثواب والعقاب الربانية، والتي تدفع نحو الاحترام والالتزام بالحقوق والواجبات، وهو ما تميزت به شريعة الله جلّ وعلى صانع هذه المصنوعات والمنزّل لما يغني للبشرية في تنظيم علاقتها؛ وذلك لعلمه الأزلي سبحانه وتعالى بما يناسبها وبما يلائمها، فهل الإنسان أقدر منه على ذلك ؟ ... تساؤل لا محل له من الاعتبار.   


[1] الفتلاوي – الوسيط في القانون الدولي العام، مرجع سبق ذكره، ص 312.

Previous Post Next Post