الجرائم الواقعة على النظام العام
يتناول مساق الجرائم الواقعة على النظام العام، الجرائم المختلفة التي تهدد النظام العام بمفهومه الضيق والمتعلق أساسا بوجود الدولة بوصفها كيانا سياسيا وجغرافيا بالدرجة الاولى، دون  الاخلال بكيانها الاجتماعي أو  الاقتصادي.

وبالتالي ينصرف مفهوم النظام العام بالدرجة الاولى الى المناحي المتعلقة بأمن الدولة واستقرارها وضمان سلامتها، ولا ينصرف الى مفهوم النظام بمعناه الواسع باعتباره مجموعة المبادئ والأسس المستقرة في مجتمع معين خلال فترة زمنية معينة.
    فالدولة باعتبارها أحد اهم الاشخاص المعنوية في القانون الدولى العام تسعى بجميع الاشكال الى وضع القواعد التي من شأنها كفالة امنها وضمان استقراها، فنجدها تحرم وتجرم جميع الافعال والسلوكيات التي من شانها المساس بنظامها العام بمفهومه السابق تبيانه.
    ففي ظل عام متسع سريع التغير والتحول وفي ظل سعي العديد من اقطابه أو افراده الى الهينمة والسيطرة على غيره من افراد المجتمع الدولى ، وفي ظل ايضا التغيرات الداخلية التي باتت تعصف بالكثير من النظم السياسية المستقرة ، حتى اضحت الدولة تأخذ في الاضمحلال وفقدان السيطرة والتوازن على كيانها، أمام كل هذا كان لازما على الدولة أن تضع القواعد الكفيلة بتحقيق مقتضيات الامن والسلامة لها ككيان كامل متكامل.
    من هنا نجد أن الدولة تتدخل بكثير من النصوص القانونية لحماية أمنها وسلامة كيانها من أي اعتداء  وهذه الجرائم تعتبر من أخطر السلوكيات التي تشدد عقوباتها وكلها تأخذ أشد الاوصاف الجنائية على الاطلاق وهيو الجناية، بل إن الشارع في بعض الدول يعد لها محاكم خاصة يطلق عليها محاكم أمن الدولة حتى يكفل سرعة البت في هذه الجرائم الخطيرة .
    وتنقسم هذه الجرائم التي تهدد النظام العام في الدولة إلى نوعين : الاعتداء على أمن الدولة من جهة الخارج مثل التجسس أو التخابر لدى دولة أجنبية أو انتهاك أسرار الدفاع .
    والآخر : الاعتداء على أمن الدولة من جهة الداخل مثل محاولة قلب نظام الحكم أو جرائم تأليف التنظيمات المناهضة للدولة الإرهاب، أو تلك التي اطلق عليها المشرع الفلسطيني الجرائم المخلة بالدستور وبالنظام الاجتماعي الحالي .


    وعليه نجد أن الاخطار التي يمعنها تهديد النظام العام للدولة قد توجه للدولة من الخارج، أو قد توجه اليها من الداخل.

جرائم الاعتداء على أمن الدولة من جهة الخارج 

    هذا النوع من الجرائم لم يكن معروفا في قانون العقوبات الفلسطيني رقم (74) لسنة 1936م ولكن المشرع المصري أدخل عليه تعديلا عام 1957م بموجب القرار رقم (555) لسنة 1957م حيث طبق جرائم أمن الدولة المنصوص عليها في قانون العقوبات المصري على قطاع غزة وما زال هذا القرار ساري المفعول حتى يومنا هذا .
    وقد صاغ مشروع قانون العقوبات الفلسطيني المقر بالقراءة الأولى سنة 2003م جرائم أمن الدولة على هدى من نصوص القرار المصري رغم مرور عشرات السنين على تلك النصوص المنقولة عن المشرع الفرنسي منذ مائة عام تقريباً ؛ مما يقتضي من الشارع الفلسطيني إعادة صياغة تلك النصوص بما يتلاءم مع التطورات الحديثة التي أصابت المجتمع .
    وسنتولى في هذا القسم الحديث عن النوع الأول بحيث نستعرض جريمتين : الأولى هي جريمة السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية . والأخرى : جريمة انتهاك أسرار الدفاع وذلك على نحو ما هو تالٍ : -

الفصل الاول: جريمة السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية

    المبحث الأول : ركنا جريمة السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية .
    لكل جريمة من الجرائم ومنها جريمة السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية أركان رئيسية تمثل الإطار العام الذي يلزم توافره في كل جريمة ، وهناك بعض الجرائم تحتاج إلى ركن خاص أو أكثر بمثابة عناصر تدخل في تكوينها .
    وركنا الجريمة هما في الجريمة المحلية  : الركن المادي والركن المعنوي ، فإذا انتفى أحدها ، فلا يقوم للجريمة قائمة من جهة التشريع الجزائي :
    المبحث الأول : الركن المادي لجريمة السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية
    تمهيد وتقسيم :
    السلوك هو القاسم المشترك بين كافة الجرائم  ، فإذا لم تتخذ الأفكار والمعتقدات الداخلية لشخص ما مظهراً خارجياً ملموساً ، فإنه لن يترتب عليها أية أضرار بالمصالح التي يحميها التشريع الجزائي ، ولا ينتج عنها تهديد للنظام العام ، وتنتفي عنها من ثم علة التجريم والجزاء ؛ ذلك أن الإيمان بفكرة مؤثمة أو التصميم عليها لا يخرجها من مجالها ولا يرقى بها إلى مرتبة الأعمال الخارجية التي تستحق التأثيم :
    المطلب الأول : مفهوم السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية .
    أولاً : السعي .
    هو كل سلوك غير مشروع يكون غرض الجاني منه الاتجاه إلى دولة أجنبية لأداء خدمة لها سواء أتحققت الخدمة أم لم تتحقق .
    ثانياً : التخابر .
    فيقصد به التفاهم أو الاتفاق الذي يتم بين الجاني والدولة الأجنبية لإمدادها بأسرار .
    والفرق بين السعي والتخابر هو أن الجريمة الأولى يكون الجاني هو البادئ بالنشاط فهو الذي يسعى بفعله إلى الدولة الأجنبية , في حين أن الأخرى قد يبدأ النشاط من الجاني نفسه أو من الدولة الأجنبية ذاتها .
    وهذه الجريمة تكشف عن خطورة إجرامية لما تظهر من خسة أو انحطاط في ضمير الجاني أباحت له تسليم أسرار وطنه .

ثالثاً : الدولة الأجنبية 

    الدولة هي مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى شئونها ، وتتولى السلطة الحاكمة أنشطة الحكم السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية التي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة مواطنيها ، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول , وإن اختلفت أشكالها وأنظمتها السياسية.
    ولكي تتحقق الجريمة يجب أن يقع السلوك الإجرامي لصالح دولة أجنبية , ولكن هل يلزم أن تكون هذه الدولة مستكملة لكافة المقومات الأساس للدولة طبقاً لما تمليه قواعد وأعراف القانون الدولي العام ؟
    والرأي الراجح في الفقه هو أنه لا يشترط أن تكون الدولة الأجنبية مستكملة لكافة المقومات حتى تتحقق الجريمة , بل يكفي أن يكون الاتصال بإحدى الجماعات السياسية غير المعترف لها بالصفقة الدولة اذا ما كانت تعامل معاملة المحاربين , وبالتالي تتمتع بالحقوق وتلتزم بالواجبات في الحدود التي ترسمها قوانين الحرب لكي تتم جريمة السعي أو التخابر .
    وقد ظل الخلاف في الفقه والقضاء حتى حسمه الشارع حيث نص صراحة في المادة (85/1) فقرة (د) على أنه : تعتبر في حكم الدول الجماعات السياسية التي لم تعترف لها مصر بصفة الدولة وكانت تعامل معاملة المحاربين "

المطلب الثاني : عناصر الركن المادي لجريمة السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية .

    الفرع الأول : السلوك الإجرامي .
    السلوك الإجرامي يعد من أهم عناصر الركن المادي ؛ لأنه يمثل القاسم المشترك بين جميع أنواع الجرائم سواء أتلك التي يكفي لوقوعها ارتكاب السلوك الإجرامي فقط أم تلك التي يلزم لقيامها ضرورة تحقق نتيجة إجرامية معينة إلى جانب السلوك الإجرامي ، وسواء أكانت تامة أم ناقصة ، أي وقفت عند حد المحاولة ، فلا قيام للركن المادي ولا قيام للجريمة بالتالي إذا تخلف هذا السلوك ، فالقاعدة أنه (لا جريمة بغير سلوك) .
    وقد أكد القانون الأساسي الفلسطيني هذا المعنى حين نص على أنه  : " ... لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون " .
    وهذا يعني أن مناط العقاب هو (أفعال) أي (سلوك) . وبالتالي لا قيام للركن المادي للجريمة إذا تخلف السلوك ، والذي يتخذ صورتان :
    أولاً : الفعل الإجرامي .
    يطلق عليه الفقه (السلوك الإيجابي) ولكن معظم التشريعات المقارنة : كالفلسطيني تستخدم مصطلح (الفعل) . وهو نشاط إرادي ينفذه الجاني في العالم الخارجي تحقيقاً لغاية معينة ؛ مخالفاً بذلك نهياً تفرضه قاعدة جزائية ، وقد يكون ذلك السلوك من فعل واحد أو من جملة أفعال متتابعة تجمعها وحدة الهدف .

ثانياً : الترك الإجرامي 

    هو سلوك نادر الحدوث ، إذ الغالب أن تكون الجرائم فعلية (إيجابية)  ، ويطلق عليه (الامتناع) أو (السلوك السلبي) . فالأصل في القواعد الجزائية أنها تفرض التزاماً بترك عمل على عاتق المخاطبين بها في بعض الأحيان ، وقد تفرض التزامات بعمل .
    ويعاقب المشرع الفلسطيني على ترك تنفيذ تلك الالتزامات ، وهذا النوع الأخير من الالتزامات يهدف التشريع منه إلى حماية مصلحة معينة ويمثل تركها اعتداء على هذه الحماية.
    وبالتالي يمثل الترك الإجرامي إحجام الشخص إرادياً عن إتيان فعل إجرامي معين ؛ كان من الواجب عليه قانوناً أن يأتيه في ظروف معينة .
    ولا ريب لدينا أنه يتصور الترك في مجال الجرائم الأمنية : كالموظف العامل في مؤسسة أمنية فلسطينية والذي يكتشف قيام جهة أجنبية باقتحام حاسوب آلي والحصول منه على أسرار السلطة الوطنية الفلسطينية ولا يقوم باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع القرصنة ؛ ثم يتواصل مع تلك الجهة مقابل حصوله على مبلغ مالي  .

الفرع الثاني : النتيجة الإجرامية .

    يتمثل مفهوم النتيجة الإجرامية في أنها الأثر الذي يترتب علي السلوك الإجرامي فعلاً أم تركاً ، وهي الضرر المتجسد الذي يقع على المصلحة التي يحميها القانون  .
    وقد قرر المشرع في قطاع غزة والضفة الغربية أنه لا عبرة للنتيجة التي كان القصد أن يؤدي إليها ارتكاب فعل أو ترك إلا إذا ورد نص صريح على أن نية الوصول إلى تلك النتيجة تؤلف عنصراً من عناصر الجرم الذي يتكون كله أو بعضه من ذلك الفعل أو الترك  .
    والنتيجة كعنصر في الركن المادي للجريمة لا يعتد بها إلا إذا كان يتجسد فيها صفات هذا الركن من مظهر خارجي أو كيان مادي محسوس في العالم الخارجي ؛ ولهذا فإن الاتجاه المادي يفضل الاتجاه القانوني .
    وعليه فإن كل سلوك إنساني يسفر عن تغيير في المحيط الخارجي ، أي أن له نتائج  كبرت أم صغرت ، غير أن هذه النتائج لا يعتد بها القانون دوماً  ، وحينما يعتد المشرع بالنتائج الطبيعية للسلوك ـ سواء أكان فعلاً أم تركاً ـ فإنها تغدو جزءاً من المكونات القانونية للجريمة ، بحيث إنه لا يمكن القول : بأن الجريمة قد تمت إلا إذا تحققت النتيجة  .
    وفي جرائم أن الدولة فهي متعددة بتعدد تلك الجرائم ففي مجال التخابر فإن النتيجة هي التواصل بين الجاني والجهة الأجنبية ومدها بالمعلومات على سبيل المثال .

الفرع الثالث : علاقة السببية 

    علاقة السببية تعني أن يكون السلوك الإجرامي سواء أكان فعلاً أم تركاً هو الذي أفضى إلى تحقق النتيجة الإجرامية التي يتطلبها التشريع في أنموذج الجريمة ، بمعنى : إثبات أن النتيجة ما كانت لتحدث في العالم الخارجي ما لم يتم ارتكاب فعل معين أو ترك عمل محدد  .
    ومن هنا تبدو الأهمية القانونية لها ، فهي من عناصر الركن المادي في الجرائم المادية  وتحققها شرط أساس من شروط المسئولية الجزائية عنها
    فإذا أمكن إسناد النتيجة إلى السلوك ، اكتمل الركن المادي للجريمة وتحققت بالتالي المسئولية الجزائية إذا اكتملت الأركان الأخرى للجريمة ، أما إذا انتفت علاقة السببية بين السلوك والنتيجة بأن كان تحققها لا يرجع إلى سلوك الجاني ؛ فلا يمكن أن تقوم مسئوليته عن الجريمة التامة .
    وعليه ، فإن توافر أو انتفاء علاقة السببية يكون في الجرائم التي يتطلب المشرع في أنموذجها تحقق نتيجة إجرامية مادية ، يستوي بعد ذلك أن يكون تحقق النتيجة بسبب فعل من الجاني ، أم بسبب ترك ترتب عليه النتيجة الإجرامية .
    أما إذا كانت الجريمة معنوية التي يكتفي المشرع لقيام ركنها المادي ارتكاب السلوك ذاته، فلا يكون هناك مجال للبحث في علاقة السببية  .
    وفي مجال جريمة التخابر يجب أن يكون مد العدو أو الدولة الأجنبية بالمعلومات كان بسبب سلوك إرادي صادر عن الجاني .
    * محاولة ارتكاب جريمة السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية.
    رأى بعض الفقهاء أنه يتصور وقوع محاولة السعي إذا ما اقتصر السلوك الصادر من الجاني على ما من شأنه الاقتراب من الدولة الأجنبية أو ممن يعمل لمصلحتها وخاب الفعل أو أوقف أثره لسبب لا يد للجاني فيه  .
    ورأى البعض الآخر أنه ما دام أن النص القانوني صريح في وقوع الجريمة تامة بمجرد سعى الجاني لدى الدولة الأجنبية فإنه من الصعوبة بمكان إيجاد الحد الفاصل بين المحاولة والجريمة التامة في السعي  .
    أما جريمة التخابر فالمحاولة متصورة في هذه الجريمة طالما أن الدولة الأجنبية أو من يعمل لمصلحتها هي البادئة في الاتصال بالجاني وأوقف أثر الفعل أو خاب بسبب خارج عن إرادة الجاني ؛ وذلك حسب ما تقتضيه طبيعة الأحوال ؛ لأنه لو كان الجاني هو الذي بدأ في الاتصال فيكون قد ارتكب جريمة السعي تامة دون البحث في مسألة المحاولة  .

Previous Post Next Post