مقاصد الشريعة
إن المقصد في الشريعة يراد به الهدف والغرض. وقد عرف ابن عاشور مقاصد الشريعة بقوله: ( هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ).[1]، كما ذكرها الدريني بأنها هي: ( القيم العليا التي تكمن وراء الصيغ والنصوص، ويستهدفها التشريع كليات وجزئيات ).[2]
وهذا المصطلح عند الفقهاء يمثل قاعدة انطلاق الأحكام كما يقول الجويني: ( ومن لم يتفطّن في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة ). [3] ؛ ولهذا وضع الفقهاء قاعدة فقهية سموها ( الأمور بمقاصدها ). [4]
ومن مدخل المقاصد استطاع الأصوليون فصل القطعي عن الظني في الشريعة، وذلك بعد نخل الشريعة وغربلة أحكامها، حتى قال  الجويني وتابعه الشاطبي أن مسائل الأصول قطعية ولا يكفي فيها الظن، ومدركها قطعي؛ وذلك باعتبار أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي. [5]
هذا مع التنبيه أنه ليس من الصواب مصادرة نصوص الشريعة الجزئية بحجة الاهتمام بالمقاصد؛ وذلك لأن النصوص تتضمن المصالح المفضية إلى المقاصد ولا تتحقق بدونها، وذلك كما عبر عن ذلك قديما الإمام الشاطبي. [6]
       وقد ذكر محمد بكر  إسماعيل بأن الذين كتبوا في المقاصد قديما لم يعرفوها؛ وذلك لأن بعضهم كان يتعرض للكلام عن المقاصد تبعا لموضوع آخر في الأصول كالعلل أو المصالح وغير ذلك، وبعضهم وإن أفرد لمقاصد الشريعة أجزاء وبحوثا، إلا أنه لم يرد أن يدخل في التعريفات والتحديدات المستحدثة ومناقشات المناطقة والمتكلمين. ولعل وضوح معنى المقاصد هو الذي جعل هؤلاء الأوائل لم يعرّجوا على تعريفها، هذا بالإضافة إلى أنه يعبر عنها بأكثر من لفظ.
       أما المحدثون الذين كتبوا في مقاصد الشريعة فقد عرّفوها جريا على عادة العلماء في عصرهم. [7]، ومن هذه التعريفات:
·                                           هي الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها. [8]
·                                           الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقا لمصلحة العباد. [9]
·                                           هي المصالح العاجلة والآجلة للعباد التي أرادها الله عز وجل من دخولهم في الإسلام أخذا بشريعته.[10]
       ويذكر  طه جابر العلواني بأن المفاهيم التي تتصل بالمقاصد سواء أكانت غايات أو أسرارا أو مصالح مما ورد في التعريفات السابقة، تحتاج إلى فقه يتأسس على مبدأ اعتماد الكليات التشريعية وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها، فهو بذلك نوع من رد المتشابهات إلى المحكمات، والفروع إلى الأصول.
       كما يؤكد بأنه لا يقف فقه المقاصد عند حدود التعليل اللفظي والقياس الجزئي، بل ينطلق من منهج استقرائي شامل يحاول الربط بين الأحكام الجزئية وصياغتها في قانون عام دلت على اعتبار الشرع له الكثير من الأدلة، وتضافرت عليه العديد من الشواهد. وبذلك يعتبر هذا القانون الكلي مقصدا من مقاصد الشريعة، فيتحول إلى حاكم على الجزئيات قاض عليها بعد أن كان يستمد وجوده منها، فهو يشبه القانون العلمي التجريبي الذي يستخلصه الباحث من استقراء ناقص لبعض الجزئيات، ثم يحكم بها – فيما بعد – على كل مشابه لها لم يشمله الاستقراء بعـد التأكـد من صلاحيتـه للتعميـم.      
ويقرر كذلك بأن المنهج المقاصدي ينطلق من فلسفة تواترت الأدلة الشرعية على صحتها، وهي أن جميع ما وردت به الشريعة الغراء معقول المعنى، وذو حكمة بالغة، سواء عقل المجتهدون تلك الحكمة أو عقلها بعضهم وغفل عنها آخرون. فكل حكم ورد في كتاب الله وبينته سنة رسوله      ( صلى الله عليه وسلم ) مشتمل على حكمة معقولة المعنى سواء أكانت ظاهرة أم كامنة، وهي تظهر بمزيد تدبر للنص، أو سير في الأرض، أو نظر في الوقائع.[11]
ويذكر أحمد الريسوني ما يقرر به كلام العلواني السابق، وذلك في كتابه ( فلسفة المقاصد عند الشاطبي )، بأن نظرية المقاصد تحكم تفاصيل الشريعة، وتحكم كل فهم لها، وتوجه كل اجتهاد في إطارها، ونقطة الانطلاق في هذا هو التسليم الجازم بكون الشريعة إنما وضعت لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم في الدنيا والآخرة. [12]
إن التكاليف الشرعية جاءت لحفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
·                  ضرورية.
·                  حاجية.
·                  تحسينية.
فالأولى لا بد منها في قيام مصالح الدين الضرورية، وإذا فقدت لم تستقم مصالح الدين والدنيا، ومجموع الضروريات ثمانية وهي:
حفظ الدين بحد المرتد، وحفظ النفس بعقوبة قتل العمد، وحفظ النسل بحد الزنا، والمال بحد السرقة، وحفظ العقل بحد شارب الخمر، وحفظ الكرامة الإنسانية بحد القذف، والمحافظة على كيان الدولة بحد أهل البغي، وأخيرا المحافظة على الأمن بحد قطّاع الطرق.
أما الحاجيات فهي ما يفتقر إليه في رفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات.
وبالنسبة للتحسينات فهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنّسة التي تأنفها العقول الراجحة، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.
إن الشريعة تدل على الحكم ولا تدل على المصلحة أو عدمها، ولا يجوز جعل المصلحة أو المفسدة محل اعتبار في دلالة التشريع على الحكم.[13]
وقد ذكر  الريسوني في خاتمة كتابه الذي تناول فيه المقاصد عند الشاطبي، بأن موضوع المقاصد بناء على التفريعات موضوع كبير ومتشعّب، يتقرر من خلاله بأن كل من أضاف فيه يحتاج إلى دراسات أكثر عمقا وتدقيقا، وأكثر ضبطا وتحقيقا، وأن ذلك يحتاج إلى كثير من الاستقراء لأحكام الشريعة والاستنباط لعللها لتوسيع لائحة مقاصد الشريعة، وجعلها محل اتفاق يرجع إليه ويحتكم إليه الفقه والاجتهاد.
كما قرر الريسوني كذلك بأن هذه المقاصد لا تخضع لحصر وتتغير بتغير الزمان والمكان، وأن من الضرورة بمكان دراسة مراتب المصالح لتوضيح حدود الثبات والتغير في ذلك وفقا لمعطيات الواقع وظروفه، ولكن ذلك ينبغي وضع ضوابطه حتى لا يكون هناك منفذا للتمييع من خلال الاجتهاد.[14]
وبناء على ما سبق استعراضه فإن نظرية فقه مقاصد الدين في مختلف مراتبها لا تقع تحت دائرة الحصر، ولا يمكن أن تكون محلا للاجتهاد المطلق دون ضوابط، وهي متغيرة وتتأثر بالزمان والمكان والأشخاص.
إلا أن هذه النظرية يمكن أن تؤطر ضمن إطار جامع يتم من خلاله تقرير الثوابت العمومية التي تكون محل تأييد وفق ضوابط يتفق عليها رجالات ومفكرو الأمة ممن يمتلك القدرة على إدراك فلسفة مقصد الحكم، وأن ذلك يتحقق بقصر استقراء المقاصد لتقوية التعلق بالأحكام والتوجيهات الربانية، والتأكيد على أن هذه الأحكام وهذه التوجيهات تستوعب الإنسان ولا يمكن له أن يستوعبها. وفي رأيي فإن هذا هو الهدف الأسمى مما يقوم به الباحثون في نظرية وفقه المقاصد والأسرار الشرعية للأحكام الربانية.

[1] نقلا عن ابن عاشور في مقاصد الشريعة. وقد أورد هذا النقل الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، ط: 1، 1427 – 2006، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة – مصر، ص 220.
[2] نقلا عن الدريني في مقاصد الشريعة. وقد أورد هذا النقل الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 220.
[3] نقلا عن الجويني في البرهان ( 1 / 295 ). وقد أورد هذا النقل الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 220.
[4] نقلا عن البياتي، المدخل إلى الدين الإسلامي، ص 262. وقد أورد هذا النقل الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 221.
[5] نقلا عن الجويني، غياث الأمم، فقرة 249، والشاطبي، الموافقات ( 1 / 29 )، وابن عاشور، المقدمة الأولى في مقاصد الشريعة، ص 156 وما بعدها. وقد أورد هذا النقل الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 221.
[6] الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 221.
[7] محمد بكر إسماعيل حبيب، مقاصد الشريعة تأصيلا وتفعيلا، سلسلة دعوة الحق السنة          ( 22 )، العدد 213، 1428،  كتاب شهري محكّم يصدر عن رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة – السعودية، ص 16.
[8] تعريف لعلال الفاسي في كتابه ( مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها )، ص 3. وقد أورد هذا النقل محمد بكر إسماعيل حبيب، مقاصد الشريعة تأصيلا وتفعيلا، مرجع سبق ذكره،    ص 17.
[9] تعريف لأحمد الريسوني في كتابه ( نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي )، ص 7. وقد أورد هذا النقل محمد بكر إسماعيل حبيب، مقاصد الشريعة تأصيلا وتفعيلا، مرجع سبق ذكره،     ص 17.
[10] محمد بكر إسماعيل حبيب، مقاصد الشريعة تأصيلا وتفعيلا، مرجع سبق ذكره، ص 18.
[11] العلواني – طه جابر، مقاصد الشريعة – قضايا إسلامية معاصرة، ط: 1، 1421 – 2001، دار الهادي، بيروت – لبنان، ص 124.
[12] الريسوني – أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، سلسلة الرسائل الجامعية ( 1 )،   ط: 4، 1416 – 1995، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض – السعودية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 124.
[13] الزين – سميح عاطف، الإسلام وثقافة الإنسان، ط: 8، 1982، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت – لبنان، ص 585.
[14] الريسوني – أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سبق ذكره، ص 124.

Previous Post Next Post