اختراع الآلة البخارية ونهوض الثورة الصناعية
التحولات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والفكرية في العالم
المكننة اختراع الالة اقتصاد اوريا
الالة البخارية
اسباب الثوره الصناعيه
الثورة الصناعية في اوروبا
الثورة الصناعية
بحث حول الثورة الصناعية بالمراجع
بحث عن الثورة الصناعية
الثورة الصناعية
سلبيات الثورة الصناعية في اوروبا


فى الاقتصاد
أن الإنسان – فى التفسير الجاهلى للتاريخ – تبع للوضع الاقتصادى، وليس الوضع الاقتصادى تبعاً للإنسان :
(( فى الإنتاج الاجتماعى الذى يزاوله الناس نراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها، وهى مستقلة عن إرادتهم. فأسلوب الإنتاج فى الحياة المادية هو الذى يحدد صورة العمليات الاجتماعية والسياسية والمعنوية فى الحياة. ليس شعور الناس هو الذى يعين وجودهم، بل إن وجودهم هو الذى يعين مشاعرهم )) [كارل ماركس]0
وقد بينا من قبل، ونحن نتحدث عن فساد التصور، مقدار ما فى هذا التصور الجاهلى من الفساد، إذ  يغفل قيمة الإنسان وإيجابيته الفاعلة، وينكر أن هذا الإنسان – برغباته الكامنة فيه وأشواقه الدافعة له – هو الذى اخترع ((الآلة)) التى يعزو إليها التفسير المادى للتاريخ كل تطور اقتصادى واجتماعى وسياسى0
وكون الآلة – بعد اختراعها – تحدث تطوراً فى أساليب الحياة كلها لم يكن يدور بخلد مخترعها حين أقدم على اختراعها.. حقيقة. ولكنها لا تبرر قولة التفسير المادى بأن هذا التطور مستقل عن إرادة الإنسان. فهذا التطور – الذى لم يكن منظوراً بأكمله وقت اختراع الآلة – لا يمكن أن يجرى إلا وفق الطبيعة البشرية ذاتها، بارتفاعاتها وانخفاضاتها، ولابد أن يسير مع دروب النفس البشرية ومنحنياتها، ولا طريق له قط من خارجها! لأنه لا يعمل فى الهواء! وإنما يعمل دائماً عن طريق النفس. ومن خلال النفس!
حين اخترع الإنسان الطائرة .. لم يكن هناك دافع مادى هو الذى يمسك بعقل الإنسان ويقول له: اخترع الطائرة! إنما كان الشوق البشرى القديم الموغل فى القدم أن يطير فى الجو كالطير.. ذلك الشوق الذى تمثل فى كثير من المحاولات البدائية حتى ظهر فى صورته العلمية، حين أصبحت معلومات الإنسان ومعارفه تمكنه من تحقيق هذا الشوق فى صورة علمية. وكان إلى جانب ذلك الرغبة البشرية فى سرعة الانتقال من مكان إلى مكان. وهى رغبة فطرية، يؤديها البدائى بالجرى. ثم يركب دابة. ثم يحاول اختراع أداة سريعة.. وتجره المحاولة إلى اختراع الطائرة.. ثم اختراع الصاروخ00
وحين اخترعت الطائرة بالفعل أحدثت تطوراً هائلاً فى المجتمع.. فى الحرب والسلم على السواء 0
ولكن كيف حدث التطور؟ ! هل سلك طريقاً غير ((النفس البشرية)) ورغباتها وأشواقها ودروبها ومنحياتها؟ وأنى له أن يفعل ذلك؟
لقد اختلطت الحضارات والأفكار والعقائد باختلاط الناس الذى سهلته الطائرة.. فهل ذلك أمر جديد فرضته الطائرة على الناس؟ أم قديم موغل فى القدم حاولته البشرية بأدواتها البسيطة الأولى، ثم حاولته اليوم بصورة أكبر حيث أتيحت لها الإمكانات 00 الإمكانيات التى أوجدتها بيديها!
وقد مكن استخدام الطائرة من سيطرة بعض الحضارات على حضارات أخرى – أو إفنائها – عن طريق الحرب . فهل ذلك أمر جديد أحدثته الطائرة؟ أم له شواهد من أعماق التاريخ؟
حقا لقد زادت الطائرة من إمكانيات البشرية فى كل مجال.. ولكن كل ما صنعته فى الحقيقة هو زيادة الإمكانيات وتحقيق رغبات كانت كامنة لأنها لا تجد السبيل إلى التنفيذ .. ولكنها لم تنشئ شيئاً لم يكن فى ((الإنسان)) من قبل، بصورة كامنة أو ظاهرة .. ولم تنشئ إنساناً جديداً كما يحلو للتفسير المادى أن يتصور الأمور !
ومن هنا نعود دائماً إلى ((الإنسان)) نفسر الاقتصاد من خلاله، ولا نفسر الإنسان من خلال الاقتصاد !
* * *
        وقضية ((الملكية)) هى الموضوع الرئيسى فى دنيا الاقتصاد. كيف تكون؟ وما نتائجها؟
        فأما التفسير المادى فهو يرسم صوراً حتمية لأطوار التاريخ، من خلال صور حتمية لنوع الملكية 00
        وقد مر بنا فى التاريخ ما يثبت زيف هذه الحتمية التاريخية والاقتصادية 00
        فمرة وجدنا زيفها فى ظهور الإسلام بمبادئه هذه، فى بقعته هذه، فى فترته هذه.. بغير مبرر واحد من المبررات ((الحتمية)) التى يضعها التفسير المادى للتاريخ !
        لا الرقيق طالب بالتحرر ولا كانت ظروف اقتصادية حتمية تؤدى إلى تحريره كما حدث فى أوروبا بعد الإسلام بسبعة قرون0
        ولا المرأة طالبت بالتحرر، ولا كانت ظروف اقتصادية حتمية تؤدى إلى تحريرها، وإعطائها شخصيتها المستقلة، وحق الملك، وحق التصرف المباشر فى الملك، وحق الزواج وحق الطلاق.. وهى حقوق لم تمنحها أوروبا للمرأة إلا فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بعد صراعات شنيعة، وفساد مدمر فى الأخلاق!
        ولا ((الجماهير)) طالبت بالتحرر.. من سلطان القبيلة أو سلطان الحكم القائم على الأهواء، ولا قامت ظروف اقتصادية حتمية تؤدى إلى هذا التحرر.. وإلى قيام مفهوم جديد كل الجدة فى سياسة الحكم والمال لم تفئ أوروبا إلى بعض مظاهره إلا فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بعد صراعات دامية بين المالكين وغير المالكين!
        لم يكن هناك شىء واحد حتمى فى كل هذه الشئون00
        ومرة أخرى وجدنا زيف هذه الحتمية فى قيام الشيوعية رأساً فى الدولتين الإقطاعيتين المتأخرتين أشد التأخر فى الناحية الصناعية: روسيا ثم الصين، بينما إنجلترا التى كانت الحتمية تحتم قيام الشيوعية فيها لتقدمها الصناعى لا تزال رأسمالية حتى اليوم!
        وإذن 00 فلم يكن من الحتم أن تأخذ الملكية صورتها التى أخذتها فى الجاهلية الحديثة، سواء فى دكتاتورية رأس المال أم فى دكتاتورية البروليتاريا 00 وإنما هى ((الأهواء))!
* * *
        فى أوروبا قامت الرأسمالية فى ظل جاهلية سمحت من قبل بقيام الإقطاع0
        والرأسمالية تقوم على نفس القاعدة الجاهلية التى قام عليها الإقطاع من قبل وهى حرية التملك بغير حد 00 وبكل سبيل0
        وسماح الجاهلية الأوروبية بذلك لم يكن حتماً 00 وإنما كان ما يمكن أن يقال فقط، هو أن هذا هو الذى حدث بالفعل. فله قوة الأمر الواقع. ولكن ليست له حجية تبرره 00
        فلا شىء يمكن أن يبرر الطغيان !
        وكل ما حدث من ((تطور)) فى الجاهلية الرأسمالية، هو تطور ((الصورة)) التى يمسك بها الطاغوت برقاب الناس. كان يستعبدهم من قبل للأرض، فصار يستعبدهم للمصنع ورأس المالي. ولكن طبيعة الطغيان واحدة من حيث الجوهر، وكذلك طبيعة العبودية من جانب المستذلين والمستعبدين0
        و ((طبيعة)) رأس المالي تختلف عن طبيعة الأرض فى الصورة الاقتصادية، ولكنها لا تختلف عنها فى رغبة الحيازة والتملك والسلطان0
* * *
حين ولدت الآلة احتاجت إلى المال لإدارتها 00
ولم يكن من السهل – فى بادئ الأمر – أن يتحول ملاك الأرض إلى رأسماليين صناعيين. لأن الإلف والعادة لهما حكمهما على النفس البشرية. ولقد كان أصحاب الإقطاع مطمئنين إلى الطريقة التى يحوزون بها المال والسلطان، ولهم فى ذلك خبرة قرون متوالية، و((تقاليد)) صنعها طاغوت الإقطاع وطبقها مئات السنين، فصارت عرفاً سارياً، لا بحتمية ذاتية، ولكن بانصياع الناس له.. بعيداً عن منهج الله !
وكان لابد من الحصول على المال من طريق آخر غير طريق ملاك الأرض 00
وهنا تقدم المرابون – اليهود – لإقراض العمليات الرأسمالية الناشئة. ولم يكن قيام المرابين بالإقراض عملية جديد أنشأتها الرأسمالية. فاليهود هذه صناعتهم منذ فجر التاريخ! والربا يجرى فى عروقهم مجرى الدم. وقد نهاهم الله عن ذلك فى التوراة فلم ينتهوا. وانتشروا فى الأرض ينشرون معهم الجاهلية الربوية فى كل مكان !
قالت لهم التوراة : ((لأخيك لا تبع بربا))() فقالوا لأنفسهم – أو قالت لهم شهواتهم – لأخيك )) يعنى لليهودى 00 لا تبع بربا 0 أما ((الأميون)) غير اليهود فلا جناح عليك أن تمتص دماءهم بكل سبيل :
((ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى الأميين سبيل))() !
وكان لابد للمرابى اليهودى المقرض أن يضمن دينه ورباه 00 كما كان لابد للمقترض أن يضمن الربح الذى يكفل رد الدين والربا، وبقاء قسط من الربح الشخصى بعد ذلك. ومن هنا اتسمت الرأسمالية منذ البدء برغبة الحصول على الربح الفاحش.. ومن أهون سبيل0
ولم يكن ذلك حتمية تاريخية ولا اقتصادية !
فلم يكن هناك أى مانع على الإطلاق يمنع من قيام الرأسمالية على تعاون الممولين، وكان التجار يومئذ فى المجتمع الأوروبى يملكون المال السائل الذى يدير الصناعة.. لو شاء الناس! لاهتدوا بمنهج الله الذى يحرم الربا ويفتح الطريق للتعاون النظيف 00 !
فهى ليست الحتمية 00 وإنما الانحراف ! انحراف الجاهلية التى لا تعبد الله 0
* * *
        أباحت الجاهلية استخدام الربا فى عمليات الاقتصاد 00 وكان ذلك بدء الكارثة ((الحتمية)) كما سنبين بعد قليل 0 ولكنا نريد قبل ذلك أن نبين أن شئون الاقتصاد ليست – كما يفسرها التفسير الجاهلى للتاريخ – منفصلة فى منبعها عن أخلاق الناس ومعنوياتهم 00
        فالجاهلية التى سمحت بالربا، مخالفة لمنهج الله، سمحت – قبل ذلك – بالغش والغصب والسلب والنهب فى ظل الإقطاع 00 ثم عادت فسمحت به فى ظل الرأسمالية00 مجرد امتداد !
        والجاهلية التى سمحت بتشغيل الفلاح فى الأرض حتى يستنفد جهد كله، مقابل لقمة الكفاف، هى ذاتها التى سمحت بتشغيل العامل فى المصنع حتى يستنفد جهد 00 مقابل الكفاف0
        كلا ! لم تستحدث الرأسمالية ((خلقاً)) واحداً لم يكن موجوداً من قبل فى الجاهلية الأوروبية.. إنما هى مجرد امتداد 0
كل ما فى الأمر أن الربا – هكذا طبيعته – يصير إلى الأضعاف المضاعفة بصورة أسرع من أرباح الأرض، ومن ثم تزايدت كل ((أخلاقيات)) الجاهلية الإقطاعية على يد الرأسمالية.. تزايدت فى الشناعة والهبوط !
ومضت الرأسمالية فى طريقها من ((نصر)) إلى ((نصر)) .. أى من طغيان لطغيان. وساعد العلم إمكانياتها فزادت ضراوتها، وقدرتها على سحق كل معارضة فى الطريق.
ولم يكن ذلك حتمية تاريخية ولا اقتصادية !
فدول الشمال فى أوروبا تقوم – رغم جاهليتها وانحرافها فى أمور كثيرة أخرى – على الرأسمالية التعاونية، لأن الناس هناك أرادوا ذلك ونفذوه.. فلم يجدوا حائلاً ((حتمياً)) فى طبيعة رأس المال يحول بينهم وبين التعاون، أو يفرض أن يكون رأس المال فى أيديهم غولاً بشعاً سفاك دماء0
ليست الحتمية 00 وإنما الانحراف !
وأدى تضخم الرأسمالية المتزايد، والتقدم العلمى المتزايد، إلى أن رءوس الأموال الكبيرة صارت أقدر على الربح – بإمكانياتها العلمية – من رءوس الأموال الصغيرة فأكلتها! أو اضطرتها إلى الدخول معها فى اتحادات، أدت فى النهاية إلى احتكارات!
        فحين تتداخل كل رءوس الأموال العاملة فى صناعة ما، وتكون اتحاداً واحداً، يصبح هذا الاتحاد بالضرورة محتكراً لهذه الصناعة وحده، ولا يجرؤ رأس مال آخر على منافسته فى الميدان الذى تخصص فيه وتهيأ لاحتكاره 0
        ولم تكن هذه حتمية تاريخية ولا اقتصادية! فكما أن التعاون قد أمكن بالفعل – فى دول الشمال فى أوروبا – بين الأفراد، فقد أمكن كذلك هناك بين المؤسسات المتشابهة، فتعاونت – برءوس أموالها التعاونية – لا للاحتكار والتحكم فى الأسعار بالنسبة للمستهلك، وإنما لتحقيق الأرباح لجميع المساهمين وهم بذاتها هم المستهلكون00 فلا مصلحة إذن فى رفع الأسعار، أو لا ضرر من رفع الأسعار ، أو لا ضرر من رفع الأسعار، فالنتيجة واحدة ما دام المساهمون هم بذاتها المستهلكين!
        وزادت الصناعات وتكدس الإنتاج 00 وأصبح لابد من تصريف فائض الإنتاج0 ومن هنا سعت الدول الرأسمالية إلى الاستعمار والتوسع ((الإمبريالى)) لكى تضمن الأسواق لفائض الإنتاج0
        ويقول التفسير المادى للتاريخ إن هذه حتمية تاريخية واقتصادية 00
        وكذب التفسير المادى للتاريخ!
        فالاستعمار لم ينشأ من الرأسمالية وفائض الإنتاج.. وإلا فما تفسير الاستعمار الرومانى الشهير فى التاريخ؟ إنما الاستعمار شهوة منحرفة للمجتمع الجاهلى – كل مجتمع جاهلى يجد فى يده القوة والسلطان0
        وفائض الإنتاج من جهة أخرى.. ليس الطريق الوحيد ((الحتمى)) لتصريفه هو الاستعمار0
        فالتجارة – الطبيعية – كفيلة بتصريفه . والكف عن إنتاجه أصلاً كفيل بعدم وجود الفائض الذى ((يلجئ)) إلى التصريف !
        وإنما كل هذه كانت حتميات فى ظل الرأسمالية 00 أو بالأحرى فى ظل الجاهلية التى سمحت بالرأسمالية ، وسمحت بعد ذلك بكل نتائجها ، التى أصبحت حتمية لأنه لا شىء يقومها ويمنعها من المزيد فى الطغيان0
        وخطوة خطوة كان من الممكن أن يقوم هذا الانحراف، ولا يؤدى إلى نتائجه ((الحتمية)) لو أراد الناس غير ما أرادوا ، واتبعوا منهج الله 0
((ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض))([1])0
ثم اختلت الجاهلية اختلالتها الأخرى00 فنزعت الملكية من الجميع 0
لقد خيل إليها – فى جهالتها – أن الملكية الفردية هى سبب الفساد فى الأرض. ولم تدرك – لجهالتها – أن الذى كان قد فسد هو ((الإنسان)) . وأن الذى ينبغى إصلاحه هو ((الإنسان))! .. وأن الإنسان لا يصلح حتى يستقيم أمره على منهج الله، فيعرف حقيقة نفسه، وحقيقة مكوناته وطاقاته، ويعرف مركزه من الكون والحياة0
إنها – حسب تفسيرها الجاهلى للتاريخ – تظن أن الاقتصاد هو الذى ((يصنع)) الإنسان! وأنه إذا أصلح الاقتصاد فقد صلح الإنسان من تلقاء نفسه، ولم يعد الأمر فى حاجة إلى ((التدخل)) .. لأن الحتمية الآلية التى تسير الحياة بمقتضاها – حسب هذا التفسير – سترتب النتائج الحتمية بصورة آلية.. وينصلح الكون كله 00 حين تنزع الملكية من الناس0
ولم يكن ذلك ((علماً)) ! وإنما كان حماقة جاهلية !
كان رد فعل لبشاعة الإقطاع والرأسمالية .. يحمل سمات كل ((رد فعل)) جاهلى، من الاندفاع والتطرف والتهوس المجنون .. مضافاً إليه الجهل بمكونات النفس، وطريقة تعاملها مع الحياة والكون، وتعاملها مع الناس0
إن الاقتصاد أياً كانت أهميته الذاتية لا يزيد على أن يكون جزءاً واحداً من حياة الإنسان. جزءاً أصيلاً ، نعم . ومؤثراً ، نعم. ولكنه ليس الحياة كلها، ولا هو العنصر الواحد المؤثر فى الحياة0
وحين أعطته الجاهلية الحديثة هذا الاهتمام المبالغ فيه – على حساب بقية الكيان الإنسانى –[سواء فى الغرب الرأسمالى أو الشرق الشيوعى] فقد أحدثت فى حياة الإنسان اختلالات ضخمة، ليس أقلها ضياع ((الإنسان)) ذاته فى النهاية، وتحوله – على الأكثر – إلى آلة منتجة، تقوم بقدر ما تنتج فى عالم المادة، ولا تقوم بمقاييس الإنسان0
وبالإضافة إلى هذا الاختلال الشامل – الذى سنتكلم عن طرف منه فى الأبواب التالية [فى الاجتماع، وفى الأخلاق، وفى علاقات الجنسين] – فإن الحل الخاص الذى ((اهتدت)) إليه الجاهلية الحديثة، حين نزعت الملكية الفردية البتة، لم يؤت ثماره الذى دارت يخلد الجاهليين وهم يظنون أنه مفتاح النعيم !
لقد قامت هذه الجاهلية المنحرفة بمقاومة الفطرة البشرية مقاومة مجنونة.. لتنزع مشاعرها تجاه التملك الفردى.. وجادلت جدالاً ((علمياً!)) طويلاً لتثبت أن حب التملك ليس نزعة فطرية، وإنما هو ميراث من المجتمع الإقطاعى والرأسمالى، ليس أصيلاً فى كيان الإنسان. بل.. لما خشيت أن يكون هذا الكلام قليل الإقناع ذهبت فى نقاشها خطوة أبعد، فنفت أصلاً أن للإنسان فطرة! لعلها تحسن الجدل من جذوره! وزعمت – كما قال ماركس وإنجلز وكثيرون غيرهم – أن الإنسان ولد بغير نزعات فطرية، وبالذات بغير نزعة إلى التملك. وإنما ((المجتمع)) هو الذى بذر فيه هذه البذور – الخبيثة – التى لابد من اقتلاعها لأنها السبب فى إشقاء البشرية0
ولم يناقش هؤلاء الجاهليون هذا السؤال الذى لابد أن يخطر فى المناقشة: لماذا صنع ((المجتمع)) ذلك ؟ وما هو هذا ((المجتمع)) الذى صنع ما صنع؟ هل هو شىء آخر غير ((الإنسان))؟ نعم قد يكون المجتمع مختلفاً عن الفرد! وقد تكون له صفات وخصائص غير الصفات والخصائص التى يتميز بها الفرد 00 ولكن هل هو شىء غير ((الإنسان))؟
ومع التسليم – جدلاً؟ – بما يزعمه ماركس ودركايم من أن الكيان الجمعى يفرض نفسه على الفرد فرضاً ويزرع فى نفسه الطبيات والخبائث دون وعى منه ولا إرادة [سنناقش هذه الأسطورة فى الباب القادم] مع التسليم جدلاً بكل ذلك، فمن الذى زعم أن ((الإنسان)) هو الفرد فقط؟ والمجموع؟ أليس مجموعاً ((إنسانياً))؟ أم هو جنس آخر غير بنى الإنسان؟!
كلا! لم يناقش الجاهليون هذا السؤال وهم يحاولون أن يقتلعوا الملكية الفردية فى نفس ((الفرد)) ! وإنما زعموا أن الإنسان البدائى لم يكن يعرف الملكية الفردية. وإنما كانت أدوات الإنتاج – التى لا وجود لها ! – مشاعة بين الجميع، والإنتاج كله مشاعاً بين الجميع كذلك. وإنما عرفت الملكية فقط حين اكتشفت الزراعة، فسعى الناس إلى ملكية الأرض، وملكية أدوات الإنتاج.. وملكية الناس الذين ينتجون، فى مرحلة الرق، ثم مرحلة الإقطاع، ثم مرحلة الرأسمالية!
وقليل من ((المنطق)) كان يكفى لرد هؤلاء الجاهليين إلى الصواب!
أى شىء كان قابلاً للامتلاك فى العهد البدائى الأول؟
قطعة الحجر المسنونة على هيئة سكين؟ ما نفعها لمن يملكها؟ إنها تستخدم – على الأكثر – لقطع قطعة من اللحم النيئ إذا لم تفلح فيه الأظافر والأسنان! وهذا اللحم ذاته – أو السمك – كيف يملك؟ إنه إذا فاض عن حاجة القوم فإنه ينتن ويفسد، ولا يعود صالحاً للأكل. فلماذا يحجز وكيف يحفظ ؟
إن عملية الملك هنا باطلة من أساسها لأنه ليس هناك ما يملك.. لا لأن الإنسان خال من نوازع الملك .. وإلا .. فهل ثبت لهؤلاء الجاهلين أن النزاع لم يكن يقوم قط فى هذا المجتمع البدائى على ملكية شىء على الإطلاق؟
ألم يكن يثور بينهم النزاع الوحشى على ملكية ((امرأة)) بعينها، يراها صاحبها أجمل وأوقع. فيحتجزها لنفسه.. وليكن هو شيخ القبيلة أو فتى فارهاً يدل بقوته على الآخرين؟
ألم يكن شيخ القبيلة ((يميز)) نفسه، ولو بريشة واحدة فى رأسه ((يمتلكها)) دون الآخرين، ويحرم على غيره أن يلبسها؟
لقد كانت ملكيات تافهة، نعم.. ولكنها ((ملكية)) .. وملكية ((فردية)) على قدر مستويات الناس فى ذلك العهد البدائى.. وعلى قدر ما هو فى مكنتهم أن يتملكوه.
فلما ارتقوا .. فصاروا أكثر نضوجاً من الناحية ((النفسية)) . وصارت إمكانياتهم ((المادية)) أكبر. وقدرتهم ((العلمية)) أوسع مدى.. ((تملكوا)) على نطاق أوسع .. تملكوا الأرض وأدوات الإنتاج0
ثم انحرفوا 00
لم يكن انحرافهم لأنهم تملكوا .. فقد كانوا يتملكون من قبل فى حدود مستوياتهم النفسية والمادية والعلمية 00
ثم لم يكن بدء انحرافهم حين عرفوا ملكية الأرض وأدوات الإنتاج!
إنما الانحراف قديم قدم البشرية 00
فحين كانوا يتنازعون على ملكية امرأة .. ويتنازعون على رئاسة القبيلة.. وعلى أيهم هو الذى يملك ((الريشة)) التى يزين بها رأسه ويتميز على الآخرين.. ثم يحسمون هذا كله بقوة الجسد، من غلب فله السلطان.. كان ذلك انحرافاً! كان ((شهوة)) تتملك الناس فتملك عليهم أنفسهم.. و((الشهوة)) منذ بدء البشرية هى الانحراف !
ولم يكن الانحراف فى أى وقت قوة حتمية .. ولا كان هو الصورة الواحدة للبشرية0
إنما الانحراف – فى أى وقت – ((احتمال)) بشى، يقع، كما يقع الاعتدال سواء بسواء.
ومرجع هذا وذاك إلى الفطرة البشرية ذاتها، التى تحمل فى طياتها استعداد الهدى واستعداد الضلال، وتتقبل الانحراف كما تتقبل الاعتدال.. حسب ((التوجيه)) الذى تناله، و((الاتجاه)) الذى تقصد إليه!([2])0
وإذا فالأسطورة التى زعمها التفسير الجاهلى للتاريخ، والتى تقوم إلى الملكية الفردية بدأت – فقط – باكتشاف الزراعة، وإن ((هذه)) الملكية هى سبب الانحراف .. هى أسطورة جاهلية جاهلة لا تعرف طبيعة ((الإنسان))!
وقد وجدت الملكية الفردية خلال التاريخ كله، ولم تكن – فى ذاتها – طريقاً إلى الضلال.. إنما كانت وضعاً محايداً، يوجه فى طريق الخير فيكون عنصر بناء ونشاط وتقدم، ويوجه فى طريق الشر فيكون عنصر هدم وتعويق وتدمير00
        ولم تكن الملكية الفردية مؤدية – حتماً – إلى الإقطاع والرأسمالية [كما بينا من قبل فى هذا الفصل ] وإنما الذى أدى إلى ذلك هو ((الشهوة)) .. الشهوة التى تتخذ الملكية طريقاً إلى استعباد الناس والتطاول عليهم.. وهنا .. يكمن انحراف البشرية منذ أقدم الأزمان!
        فلما قامت الجاهلية الماركسية تنزع الملكية الفردية البتة – ظنا منها بأن الفساد كامن فيها، وليس فى ((الإنسان)) الذى كان يعيش فى أوروبا الجاهلية – فماذا كانت النتيجة العملية لهذه التجربة فى نصف قرن من الزمان؟
(( شهوة)) السلطان هل قضت عليها الجاهلية الماركسية حين نزعت الملكية الفردية؟!
لا ينبغى لنا نحن أن نتكلم! فقد تكلم خروشوف! تكلم عن ((زعيمه)) السابق – بعد أن مات! – فقال إنه كان مجرماً سفاحاً يمثل أبشع دكتاتورية فى التاريخ!
لقد أزيلت الملكية الفردية وبقى الانحراف الكامن فى ذلك ((الإنسان)) الجاهلى الذى لا يهتدى بمنهج الله !
وكان من نتائج هذا الانحراف تلك الدكتاتورية البشعة التى تحدثنا عنها فى الباب السابق [فى السياسة] سواء دكتاتورية الزعيم المقدس – الوحش المجرم السفاح – أو دكتاتورية النظام ذاته، التى سلبت الناس كيانهم واستذلتهم – بلقمة الخبز – للسلطان الجائز المتمثل فى ((الدولة)) وما يتركز فى أيديها من سلطات !
* * *
إنه اختلال مزدوج فى هذه الجاهلية 00
        اختلال فى تغليبها العنصر الاقتصادى على كيان الإنسان كله، وإهمالها لحقيقة الإنسان ((الشاملة)) الأصيلة، التى لا تشمل الاقتصاد وحده، وإنما تشمل كل نشاط يقوم به الإنسان – نشاط الجسد ونشاط العقل ونشاط الروح.. أصيلاً كله عميق الأصالة00
        واختلال فى طريقة التملك ذاتها .. سواء بإباحتها بغير حد وفى أى صورة كما تصنعن الرأسمالية الغربية، أو بإلغائها البتة كما صنعت الشيوعية [من حيث المبدأ على الأقل، وإن كانت قد اضطرت تحت ضغط الواقع، واقع الفطرة البشرية، أن تتراجع خطوات أساسية حاسمة عن الماركسية اللينينية، فأباحت بعض الملكية الفردية وأباحت تفاوت الأجور ولعلها غداً ستلغى الملكية الجماعية للمزارع بعد أن ثبت فشلها كما يقول خروشوف ! ]
        والعلاج – حين تريد هذه البشرية الضالة أن تهتدى – لابد أن يكون لهذين الاختلالين معاً، وليس لأيهما دون الآخر.. ولا يصحح هذان الاختلالان إلا بتصحيح القاعدة التى انبثقا منها0
        العلاج كذلك أن يعدل – فى عالم الواقع – مكان الاقتصاد فى حياة البشرية، فلا ينظر للحياة كلها من خلال القيم المادية والاقتصادية، وإنما يوضع الاقتصاد فى مكانه الصحيح – بلا تضخم – ويوضع إلى جانبه، بل مهيمناً عليه وموجهاً لتنظيماته، الكيان الروحى للإنسان، كيانه الأصيل الذى حذفته الجاهلية الداروينية من حسابها، فكان ما كان من هبوط الإنسان إلى عالم الحيوان0
        ينبغى – ببساطة – أن يعود الناس إلى منهج الله !

[1] سورة الأعراف  (96)
[2] انظر ((دراسات فى النفس الإنسانية))
Previous Post Next Post