قامت ((حضارة)) إسلامية رفيعة بانية
لم يكن لدى العرب من مقومات الحضارة كثير .. ففى بداوتهم، وظروفهم الجغرافية والاقتصادية والعلمية، لم تكن الفرصة أمامهم واسعة لإنشاء حضارة 00
وعى الرغم من قيام حضارات سابقة فى الجزيرة00 وعلى الرغم من اتصال العرب بالرومان والفرس00 فالواقع الذى شهده التاريخ أن انطلاقة المسلمين فى إنشاء حضارتهم كانت شيئاً آخر لا يقاس به ماضى العرب كله فى شبه الجزيرة، كما لا يقاس به جهد أية أمة أخرى معاصرة فى ذلك الحين0
نعم0 لقد اقتبس المسلمون كثيراً من التشكيلات الإدارية من الروم والفرس0 ولكن قاعدة النظام الذى يستخدم هذه التشكيلات الإدارية ظلت إسلامية! على الرغم من كل ما أدخل عليها من الشوائب الغريبة على المدى التاريخى المتطاول نحو ألف عام0 حتى كانت حضارتهم هى الحضارة00 وهى مصدر الحضارة الأوربية الجديدة كلها كما يشهد الغربيون0
يقول بريفولت فى كتاب ((بناء الإنسانية Making of Hummanity " 0
((إنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحى الازدهار الأوربى إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة)) ([1])0
وكانت كذلك حركة علمية هى – فى وقتها – أكبر حركة علمية فى التاريخ .
والعلم – بصفة خاصة – لم يكن مما وجه العرب اهتمامهم إليه .. إذ كانوا مشغولين دائماً بفن القول، يجعلون همهم كله فيه.. وإنما الذى بعثهم يتعلمون وينشئون الحركة العلمية كان هو الإسلام0
وقد اقتبس المسلمون – كذلك – كل العلم الدنيوى من الأمم المجاورة لهم : علم اليونان القديم، وعلم الرومان، وعلم المصريين وعلم الهنود .. فى الفلك والرياضة والطب والطبيعة والكيمياء0
ولكنهم لم يقفوا عند ما اقتبسوه .. لا فى الكم ولا فى النوع 00
فقد كانوا هم – المسلمين – الذين غيروا وجه العلم، حين أنشأوا – بهدى من التوجيه الإسلامى – المذهب التجريبى الذى تقوم عليه الحركة العلمية الحاضرة فى أوربا بلا استثناء!
يقول بريفولت فى كتابه الذى أشرنا إليه 0
((لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية [يقصد الإسلامية!] على العلم الحديث.. وعلى الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحى الازدهار الأوربى إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون، وأهم ما تكون، فى نشأة تلك الطاقة التى تكون ما للعالم الحديثة من قوة متمايزة ثابتة، وفى المصدر لازدهاره: أى فى العلوم الطبيعية وروح البحث العلمى0
(( .. وإن ما يدين به علمنا لعلم العرب [يقصد المسلمين!] ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة. بل يدين هذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر من هذا : إنه يدين لها بوجوده نفسه. فالعالم القديم – كما رأينا – لم يكن للعلم فيه وجود. وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوما أجنبية، استجلبوها من خارج بلادهم، وأخذوها من سواهم، ولم تتأقلم فى يوم من الأيام ، فتمتزج امتزاجاً كليا بالثقافة اليوناينة0
((وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث فى دأب وأناة، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبى.. كل ذلك كان غريبا تماما عن المزاج اليونانى. أما ما ندعونه ((العلم)) فقد ظهر فى أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، من طرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان.. وهذه الروح، وتلك المناهج العلمية، أدخلها العرب [يقصد المسلمين!] إلى العالم الأوربى))0([2])
ويقول دريير الأمريكى فى كتابه ((النزاع بين العلم والدين))0
((تحقق علماء المسلمين من أن الأسلوب العقلى النظرى لا يؤدى إلى التقدم. وأن الأمل فى وجدان الحقيقة يجب أن يكون معقوداً بمشاهدة الحوادث ذاتها. ومن ثم كان شعارهم فى أبحاثهم الأسلوب التجريبى 000))([3])0
لقد كان هذا هو الترجمة العملية لتوجيه الله للمسلمين أن يتدبروا خلق الله، ويبحثوا عن آيات الله فى الكون. وتوجيهه لهم أن يعيشوا الحياة فى الواقع لا فى نظرية الخيال !
* * *
تلك كانت انطلاقه الأمة المسلمة فى واقع الأرض حين استقام تصورها لله، واستقامت عقيدتها فى الله !
شىء يذهل له التاريخ 00 من حيث الكم ومن حيث النوع سواء !
00 ولقد انحرفت الأمة المسلمة كثيراً عن منهج الله  00
أدركتها – بالتدريج – جهالة الجاهلية. ففصلت العقيدة عن الشريعة .. وأخذت ((الدين)) عقيدة مستسرة فى القلب، منقطعة عن الواقع، بينما الواقع يحكممه دين غير دين الله! فلم يعد منهج الله هو المحكم فى واقع الأمة الإسلامية 00 ومن ثم لم تعد أمة ((مسلمة)) وإن كانت ما تزال تتسمى بأسماء المسلمين، وتصلى – أحياناً – وتصوم !
ثم إنها – كذلك – فقدت حضارتها وحاستها العلمية الفردية 00 وانزوت فى داخل نفسها، تستسلم للضعف والهوان 00 فزادت بذلك بعداً عن الإسلام0
وانحلت أخلاقها 00 فلم تعد تصدق 00 ولا تخلص . ولا تستقيم فى المعاملة. ولا تقوم بينها  روابط ((الإنسان)) 0
ثم زادت فانزلقت فى تيار الجنس الجارف .. فى مصيدة يهود !
وبذلك خرجت عن كل الإسلام !
* * *
والإسلام بعيد عن هؤلاء !
الإسلام هو النهج الربانى الخالد ، الذى نزل على محمد بن عبد الله r . لا ينحرف بانحرافات البشرية 0
وهو الباعث ((للإنسانية)) .. حيث تكون وكيف تكون 00
الإسلام هو المنهج الذى يخرج الناس من الظلمات إلى النور. من الطاغوت إلى الله.
وهو المخلص للناس من الجاهلية الراهنة الطاغية الرهيبة . التى تدمر كيان الإنسان0
* * *
        كل ما شهدناه من انحرافات الجاهلية لا يصلحه إلا الإسلام 00

        حين يستقيم التصور على النهج الذى رأينا 00 يستقيم السلوك 0
        حين تعود البشرية الضالة إلى الله، تستقيم حياتها على الصراط.. فى السياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق وعلاقات الجنسين والفن 00 وكل شىء !
ولقد وضعت الجاهلية حجاباً كثيفاً بين البشرية ومنهج الله  00
التطور !
قالت إن التطور قد سار شوطاً بعيداً بالبشرية عن الدين! وقالت إن ما كان يصلح للناس قبل ألف وأربعمائة عام لا يصلح للناس اليوم .. لأنهم متطورون !
والتطور 00 هو هذا الفساد المروع فى التصور وفى السلوك .. الذى صحبناه فى الفصلين السابقين  من الكتاب ! والذى لم يدع جانباً واحداً من جوانب الحياة البشرية ولا النفس الإنسانية بلا انحراف !
التطور 00 هو الذى أشرف بالبشرية على الدمار !
((ويحسبون أنهم مهتدون)) !
أما منهج الله .. فهو كما هو منذ نزل .. المخلص من الجاهلية .. والمنقذ من الدمار !
حين يهتدى الناس إلى منهج الله ، ويتبعون هداه .. حين يؤمنون بالله الإيمان الحق 0 حين يعبدونه حق عبادته لا يشركون به شيئاً من طواغيت الأرض .. لا يتبجحون على الله بترك شريعته والتشريع لأنفسهم .. لا يغتصبون لأنفسهم الحاكمية التى هى من شأن الله وحده .. حينئذ تزول كل الانحرافات والمظالم ، والشقاء والعذاب الذى حل بالنسا حين انحرفوا عن سواء العقيدة وسواء العبادة، واغتصبوا الحاكمية، واتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله: هؤلاء يشرعون، وهؤلاء يطيعون!
وما يزال الإسلام – كعهده يوم نزل – هو المصحح لانحرافات البشرية، والهادى إلى الصراط00
وهو اليوم – كما كان قبل ألف وثلثمائة عام – الفيصل بين الحق والباطل، والبانى للإنسانية الرشيدة، والهادم للانحراف والطغيان00
وحين يؤمن به الناس 00 تعتدل حياتهم وتستقيم00
 * * *
        ولا يتسع بحث كهذا لعرض مفاهيم الإسلام – بالتفصيل- فى السياسة والاقتصاد والاجتماع، والأخلاق وعلاقات الجنسين والفن .. وكل شىء !
ولكنه يتسع لعرض مختصر لهذه المفاهيم، يعرض فقط رءوس المسائل .. يعرض ((المفاتيح))!
لقد أوضحنا من قبل انحرافات الجاهلية فى هذه الأمور كلها .. من ((مفاتيحها)). لم نعرض لتفصيلات الجاهلية فيها إلا بالقدر الذى يوصلنا إلى مكمن الانحراف وعقدة الاختلال.. وكذلك حين نعرض منهج الله فى هذه الشئون كلها لن نذكر من التفصيلات إلا القدر الذى ينير لنا السبيل لتصحيح الانحراف0
أما البحث التفصيلى فى المفاهيم الإسلامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والفنية.. إلخ، فمجاله كتب مستقلة فى كل باب .. كتب متخصصة يقدمها مختصون. وبعض هذه الكتب موجود بالفعل، والباب مفتوح – دائماً – للمزيد 00
هناك كتاب ((نظرية الإسلام السياسية)) للأستاذ المودودى وكتاب ((الإسلام وأوضاعنا السياسية)) و ((سياسة المال والحكم فى الإسلام)) للأستاذ عبد القادر عودة وهناك كتب للمودودى وسيد قطب تبين منهج الاقتصاد الإسلامى([4]). وكتب ((التطور والثبات)) و((دراسات فى النفس الإنسانية)) ((ومنهج التربية الإسلامية)) و ((منهج الفن الإسلامى)) تعالج موضوعات اجتماعية ونفسية وتربوية وفنية من وجهة النظر الإسلامية0
ولكن هنا لا نبحث هذه التفصيلات إلا بالقدر الذى ينير السبيل 0
عقدة الجاهلية فى السياسة أنها لا تحكم بما أنزل الله !
وبصرف النظر – مؤقتاً – عن تفصيلات ما أنزل الله فى هذا الشأن، فإنه ينبغى أن نتبين – أولا – أن عدم الحكم بما أنزل الله – ابتداء – هو الذى ينشئ الانحراف لأن الحكم بما يضعه البشر معناه – حتماً – حكم طائفة معينة من الناس على بقية الناس، ومن ثم حكم مصلحة طائفة معينة من الناس على مصالح بقية الناس !
والذى يقول ذلك ليس نحن .. من وجهة نظرنا الخاصة !
كلا ! إنها شهادة الجاهليين أنفسهم، بعضهم على بعض ((وشهد شاهد من أهلها))!
إن من القواعد المقررة – عندهم – فى السياسة والاجتماع والاقتصاد – مجتمعة – أن ((الطبقة)) التى تملك، هى فى الوقت ذاته الطبقة التى تحكم، وتحكم لصالحها هى ضد بقية ((الطبقات))0
        فالرأسمالية تملك .. وتحكم لصالح الرأسماليين ضد العمال أو ((الكادحين)) 00

        والبروليتاريا تملك .. وتحكم .. تحكم لصالح البروليتاريا ضد المالكين 0
        ولا يحدث قط فى حكم البشر أن تحكم طائفة من الناس لكل الناس! ولمصلحة كل الناس!
        إنما يحدث ذلك فقط حين يحكم الناس بما أنزل الله. لأنه حينئذ لا يكون الحكم لأية طائفة من الناس! وإنما يكون الحكم لله سبحانه. وليس لله طبقة ولا طائفة يشرع من أجلها. ولا مصلحة له – سبحانه – عند طبقة ولا طائفة !إنما هو رب ((الناس)) جميعهم .. وحكمه هو لجميع الناس!
* * *
        إن الله حين دعا الناس إلى عبادته وحده، وإفراده بالألوهية والحاكمية، كان يدعوهم إلى الكرامة والعزة والتحرر، بصورة لم تعهد قط إلا فى عبادة الله !
        إن الله لا يتعبد الناس لحاجته إليهم 00 سبحانه !
        ((ما أريد منهم من رزق، وما أريد أن يطعمون))()
        وحقيقة إن واجب الخلق نحو خالقهم ورازقهم، ومالك أمرهم فى محياهم ومماتهم.. أن يعبدوه0
        ولكن الله – سبحانه – من رحمته بعباده وفضله عليهم، جعل فى هذا الواجب خير العباد، بل جعله هو الخير ذاته.. فيعبد الناس الله بحكم أنه هو خالقهم، وربهم، وإلههم، ثم تكون عبادته لخيرهم وصالحهم، لا لصالح الله المستغنى عن العباد :
        ((ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه. إن الله لغنى عن العالمين))()0
        فحين طلب الله إلى الناس أن يفردوه بالألوهية وبالحاكمية، ولا يحكموا بشريعة أحد منهم، وإنما يحكمون بما أنزل الله وحده فى كل شىء؛ وقال لرسوله r  :
        ((واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ))([5])0
        حين طلب الله إلى الناس ذلك، كان يريد أن ينقذهم من عبودية بعضهم لبعض، ومما يترتب على هذه العبودية من ((الطاغوت)) الذى رأينا نماذج بشعة منه فى الجاهلية الحديثة، وفى كل جاهلية فى التاريخ0
        كان يريد لهم أن يحسوا بالتحرر الحقيقى، الذى لا يمكن أن يحسوا به فى أى نظام آخر يصنعه البشر لأنفسهم، وتستعبد فيه طائفة من الناس بقية الناس، وتحكم لصالحها هى على حساب صوالح الناس !
        كان يريد لهم الكرامة التى لا تتحقق لبنى الإنسان إلا حين يتساوون جميعاً فى العبودية الحقيقة لله، فلا يبرز من بينهم أحد بطاغوته، يقول: أنا أشرع للناس. أنا أسيطر على الناس. أنا أخضع لإرادتى الناس. أنا أصنع – على رغبتى – حياة الناس !
        كان يريد لهم العزة التى لا تتحقق للناس إلا حين يحس كل منهم أن صلته بمصدر التشريع الحقيقى لا تقل ذرة واحدة عن صلة بقية الناس. وأن هذه الصلة متاحة – حقيقة – لجميع الناس بمقدار ما يجتهدون هم بجهدهم الخاص فى التقرب إليه : ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم)). لا بمقدار ما فى يد أحدهم من ملك أو قوة أو سلطان !
        وفى هذا النظام – الوحيد – الذى يحس فيه الناس بالعزة الحقيقية والكرامة الحقيقية والتحرر الحقيقى، يكون للناس ولى أمر منهم – ينتخبونه انتخاباً حراً ، فى بيعة حرة، ويولونه أمرهم- ولكن ولى الأمر هذا لا يشرع لنفسه. ولا يحق له أن يشرع ولا يملك رقاب الناس ولا يحق له أن يملك. ولا يخضع الناس لإرادته ولا يحق له أن يخضعهم.. إنما يحكم بما أنزل الله. وكل مهمته التى يبايع من أجلها، ويملك السلطان من أجلها هى تنفيذ شريعة الله. التى لم تضعها طبقة أو طائفة، ولم تراع فيها مصلحة طبقة أو طائفة. إنما وضعت لجميع الناس0
        وولى الأمر هذا واحد من الناس لا غير 00
        لا يمثل طبقة معينة .. لا تنتخبه – أو تساعد على انتخابه – طبقة معينة. إذ أنه ما مصلحة أى طبقة فى أن تبايع إنساناً معيناً من الناس وتفضله على غيره – إلا صلاحيته الحقيقية لتولى الأمر – ما دام – حين يصل إلى السلطان – لا يملك أن يشرع لهذه الطبقة ولا أن يضع مصلحتها فوق مصالح الناس؟
        وكيف تستطيع طبقة معينة – مهما أوتيت من وسائل الإعلام، والتأثير، والإغراء، بل التشويش كذلك! – كيف تستطيع أن تغرى الناس بترك واحد معين، أو اختيار واحد معين لصالحها هى، ما دامت لا تملك – فى ظله – سلطة زائدة تستعبد بها الناس؟!
        نعم ، يحدث فى ظل ((الضعف)) البشرى أن يبايع الناس رجلا لا يكون صالحاً لولاية الأمر، ويكونوا مخدوعين فى صلاحه وتقواه، فيتكشف لهم أنه ضعيف الإرادة أو قليل التجربة أو ضيق الأفق أو غير موفق فى الرأى 00 نعم .. وعندئذ يتحملون هم تبعتهم الكاملة فى الاختيار، لأنهم هم – بإرادتهم الحرة – الذين اختاروه .. ثم هم يملكون الأمر .. فهو دائماً فى أيديهم . يقولون له: لقد اخترناك ولكنك لا تصلح للتبعة. فسنعزلك ونختار شخصاً آخر !
        بذلك تتحقق – فى عالم الواقع لا فى عالم النظريات – الحرية الحقيقية والعزة الحقيقية والكرامة الحقيقية للناس 0
        ولقد يجد ولى الأمر، ويجد الناس معه، أن شريعة الله المنزلة لم تسعفهم بالنص فى مسألة معينة تواجههم([6]). فعند ذلك يسلكون طرقاً بعينها، تعينهم فى استنباط الحكم الذى يريدونه – لا ندخل فى تفصيلها هنا – من بحث فى السنة، ومن إجماع ومن قياس ومن اجتهاد بالرأى .. على أساس الشورى: ((وأمرهم شورى بينهم)) حتى يهتدوا بإذن الله وتوجيهه إلى حل القضية المعروضة عليهم0
        إنما المهم- ونحن نضع المفاتيح – أن نقرر هذه الحقائق البارزة فى النظام السياسى فى ظل منهج الله :
        أنه لا توجد طبقة تملك وتحكم لصالحها على حساب الناس 0
        أن ولى الأمر الذى يبايع مبايعة حرة لا يتبع طبقة معينة من الناس. وأنه لا يملك أن يشرع لطبقة معينة من الناس 0
        أنه يحكم فقط بما أنزل الله ولا سلطان له إلا السلطان الذى يستمده من تنفيذ شريعة الله0
        أنه حين لا يجد النص فى الشريعة المنزلة لا يشطح، ولا يتبع هواه، إنما يتبع قواعد مقررة تجعل حكمه فى النهاية سائراً فى حدود ما أنزل الله 00
        تلك القواعد العامة فى السياسة على منهج الله هى الوحيدة التى تضمن للناس الحرية الحقيقية والعزة والكرامة، وتمنع عن الناس أن يتملكهم الطاغوت!
        وتلك القواعد – على ضوء الواقع الذى تعانيه الجاهليات كلها، الجاهلية الحديثة بصفة خاصة – هى التى تبين لنا : لماذا ينبغى أن ينفرد الله وحده بالحاكمية، ويكون وحده صاحب التشريع!
        إن الجاهلية الحمقاء فى غرورها وفتنتها ((بالإنسان)) .. حين ألهت الإنسان وزعمت أنه قد استغنى عن وصاية الله.. حين استنكفت أن تعترف بحاكمية الله وحده، واغتصبت لنفسها الحاكمية .. قد وصلت إلى ما وصلت إليه من طغيان غائل، يتمثل – اليوم – فى دكتاتورية رأس المال ودكتاتورية البروليتاريا، وما يذوقه الناس من المذلة والمهانة فى ظل هذه الدكتاتوريات0
        وإفراد الله بالحاكمية هو – وحده، واغتصبت لنفسها الحاكمية.. قد وصلت إلى ما وصلت إليه من طغيان غائل، يتمثل – اليوم – فى دكتاتورية رأس المال ودكتاتورية البروليتاريا، وما يذوقه الناس من المذلة والمهانة فى ظل هذه الدكتاتوريات0
        وإفراد الله بالحاكمية هو – وحده – الذى ينقذ الناس من هذه الدكتاتورية الطاغية، ويردهم أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم. ويجعل فى أيديهم هم أمر أنفسهم، فى ظل شريعة الله. فإن ركبهم طاغية من البشر، فتبعة ذلك عليهم هم.. وهم يملكون دائماً رده .. لأنه لا يركبهم ((بحتمية)) زائفة، ولا يركبهم بمصلحة طبقة معينة منهم تأخذ دورها الحتمى فى التاريخ. ,إنما يركبهم لأنهم تهاونوا فى رده إلى شريعة الله. وهم يملكون دائماً أن يعودوا فيردوه إلى شريعة الله. ولو تحملوا فى ذلك تضحيات وتعرضوا لأخطار ! فهى – فى النهاية – أقل على وجه التحقيق من التضحيات التى يدفعونها ثمن المذلة لطاغوت من البشر يحكمهم ((بالحتمية)) ولا يملكون من حتمية الفرار !
        وبقى أن نعرف – ونحن نستعرض الاقتصاد والاجتماع والأخلاق وعلاقات الجنسين والفن – أن شريعة الله هذه التى يحكم بها الناس فى ظل منهج الله، هى العدل الكامل والخير الخالص – ابتداء – إلا بمنع البشر من أن يشرعوا لأنفسهم، وعزلهم من هذا السلطان الجائر – وهو دائماً جائر- الذى يعطونه لأنفسهم حين لا يحكمون بما أنزل الله0
        إن شرع الله لم يكن ينتقص كرامة البشر ووعيهم وفاعليتهم ونضوجهم وتقدمهم 00 إلخ – حين حرم عليهم أن يشرعوا لأنفسهم .. إنما كان يضع الوسيلة – التى لا وسيلة غيرها – لتحرير الناس تحريراً حقيقياً من كل طغيان000
* * *
        وحين تتأكد لنا هذه الحقيقة وتستقر فى أذهاننا – كما ينبغى لها أن تصنع – ننتقل إلى عرض نماذج من شريعة الله ومنهجه فى الاقتصاد والاجتماع والأخلاق 000إلخ0
        لقد كان مصدر الطغيان فى الجاهلية – فيما يتعلق بالاقتصاد – أمرين اثنين : طريقة التملك من ناحية، وكون الطبقة التى تملك هى التى تحكم من ناحية أخرى0
        ومنهج الله يعالج الأمرين معا، بما يصلح أمور الناس 0
        فهو أولا يعزل عن السلطان كل طبقة تريد أن تتجبر ، بتقريره حاكمية الله وحده. ومنع الناس من الحاكمية 0
        وهو ثانياً يعطى عدالة موضوعية فى مسألة الملكية 0
        فإذا كانت الجاهلية الرأسمالية تطلق الملكية الفردية بغير حد 000 مما يترتب عليه استعباد غير المالكين 00
        وإذا كانت الجاهلية الجماعية تمنع الملكية الفردية البتة .. مما يترتب عليه كذلك استعباد غير المالكين ([7]) 00
        فالإسلام لا يمنع الملكية الفردية البتة00 ولا يطلقها بلا حدود!
        إنه لا يمنع الملكية الفردية البتة، لأن ذلك يجعل أرزاق الناس كلهم فى يد((الدولة))00 وبالتالى يستعبدهم للدولة بلقمة العيش!
        والإسلام يقيم نظامه السياسى والاقتصادى والاجتماعى على أساس أن يكون((الناس)) هم الرقباء على ولى الأمر، يتابعون مدى تنفيذه لشريعة الله، ويوجهونه إذا أخطأ فى تنفيذها، ويسقطون سلطانه عليهم إذا خرج عن شريعة الله:
        ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر))([8])
        ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده0 فمن لم يستطع فبالسانه0 فمن لم يستطع فبقلبه0 وهو أضعف الإيمان([9])))
        ((أطيعونى ما أطعت الله فيكم0 فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم([10])))
        وهذا كله لا يتأتى إذا كان الناس كلهم مستعبدين للدولة بلقمة الخبز00
        والإسلام نظام واقعى00 فهو لا يفترض فى الناس الملائكية0 ولا يفترض فيهم كذلك أن يكونوا كلهم من أولى العزم! إنما يتعامل مع النفس البشرية فى واقعها: بضعفها وقوتها، وهبوطها ورفعتها0 لذلك يضع نظمه على أساس هذا الواقع البشرى، ويساعد الناس فى ضعفهم إزاء السلطان المتجبر00 فيحرص حرصاً شديداً- أساسيا- على أن يكون للناس موارد أرزاق يطولونها بأيديهم مباشرة بعيدة عن التحكم الكامل للدولة، الذى يجعل الدولة منفذ الرزق الوحيد إلى الناس00
        ولكن من جانب آخر يقدر الإسلام فى واقعيته ما ينشأ من إباحة الملكية الفردية على إطلاقها، من ظلم وطغيان من بعض الناس على سائر الناس0
        لذلك يضع قيوداً موضوعية تمنع تزايد المال وتضاعفه فى أيدى فئة قليلة من الناس0 منها تحديد وسائل الملكية ابتداء بوسائل حلال طيبة نظيفة0 ومنها طريقة الميراث التى تفتت الثروة على رأس كل جيل0 ومنها الزكاة التى تأخذ من رأس المال وربحه كل عام0 ومنها تحريم الربا والاحتكار00 كما وضع فى يد ولى الأمر سلطة تصحيح الأوضاع كلما جنحت إلى الانحراف0 دون مخالفة ولا هدم للأصل الذى تقوم عليه الحياة فى الإسلام0 وهو أن يكون للأفراد موارد رزق خاصة لا تتحكم فيها الدولة تحكم المانع المانح00
        ولقد كان الربا والاحتكار هما مصيبة الرأسمالية الطاغية، إذ مكناها رويداً رويداً من تجميع الثروات فى أيديها وحرمان سائر الناس منها0
        ولو كان الأمر فى حاجة إلى شهادة على أن هذا المنهج منزل من عند الله، لا من عند البشر،  لكفت هذه الشهادة! فمصائب الرأسمالية كلها: من طغيان وفساد، وإذلال للخلق، واستعمار بشع واستغلال لشعوب الأرض0 لم تكن واضحة للبشر يوم نزل الإسلام0 ولم يكن واضحا لديهم أن هذه الرأسمالية الطاغية ستقوم على الربا00 ثم على الاحتكار0
        وتحريم الربا والاحتكار فى هذا المنهج الربانى، يكفى- وحده- لأن يثبت ربانية هذا المنهج، ويشهد له- لو احتاج الأمر إلى الشهادة- على أنه منزل من عند الله:!
        وليس هنا مجال التفصيل فى منهج الإسلام فى الاقتصاد0 فذلك- كما قلنا- موضعه الكتب المخصصة فى الموضوع0
        إنما نعرض هنا عرضا ملخصاً للمفاتيح الرئيسية فى منهج الإسلام:
        ((النظرية العامة للاقتصاد الإسلامى تقوم على أساس أن الله سبحانه استخلف الإنسان- كنوع- فى الأرض، وأن المال مال الله، والجماعة الإنسانية مستخلفة فيه، وفق شروط الله الواردة فى شريعته، سواء فى صورة مبادئ كلية أو تشريعات جزئية- والأولى هى الأكثر- وأن الفرد موظف فى هذا المال، تقوم وظيفته فيه على أساس الملكية الفردية لجانب من هذا المال مقابل جهد يبذله، وبشرط حسن التصرف فى هذه الملكية- بما يعود على نفسه وعلى الجماعة كلها بالخير، وفى حدود شروط الله التى بدونها لا يتحقق الخير0 فإن هو سفه وأساء استخدام حق الملكية قيد حق التصرف وعاد حق التصرف هذا إلى الجماعة، صاحبة الحق الأول المستمد من خلافتها عن الله فى الأرض0 وهذا لا يخل بقاعدة الملكية الفردية التى يقوم عليها نظام الإسلام كله- لا النظام الاقتصادى وحده- ولكنه فقط يحيط هذه القاعدة بالقيود التى تكفل حسن التصرف فى هذه الملكية، ويحفظ للجماعة حقها المقرر فى مال الأفراد بالزكاة وغيرها من التكاليف بقدر حاجة الأمة وبحسبها، مع الإبقاء على ملكية الأفراد0 فيما عدا بعض الموارد العامة التى تبقى ملكية عامة:
        ((وآتوهم من مال الله الذى آتاكم))([11])
        ((ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما))([12])0
ثم يجعل هناك قاعدة لتوزيع المال فى الجماعة:
((كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم))([13])             
        ((فلا ينبغى أن تحتكره أيدى الأغنياء فى أية صورة0 يجب أن توزيع ملكيته فى الأيدى الكثيرة كى تتداوله، وكى تتم دورة المال الطبيعية فى أيدى أكبر عدد من الأمة0
        ((وهناك حق المعوزين والمحرومين، تتقاضاه الجماعة حقا مفروضا، وتوزعه على المحتاجين إليه:
        ((وفى أموالهم حق السائل والمحروم))([14])0                
        ((هو حق الزكاة0 ووراءه التكاليف الطارئة التى يؤخذ بحسبها كلما وجدت من أموال الأغنياء))0
((ثم هناك قواعد لكسب المال والتعامل فيه0 فلا يجئ هذا الكسب، ولا يتم هذا التعامل بطريقة فيها مضارة من أى وجه لفرد أو أكثر فى الجماعة0 ومن ثم يحرم النصب والنهب والسرقة والغش والاحتكار0 كما يحرم الربا وهو أبشع هذه الوسائل جميعاً0
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين0 فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله000))([15])
((وهناك أمر بالمعاونة((النظيفة)): ((وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة0 وان تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون))([16])
         ((تلك قواعد عامة0 وهذا هو الإطار الذى ينمو فيه الاقتصاد الإسلامى بلا عائق0 إلا العوائق التى تمنع الانحراف))([17])0
        وتلك هى الطريقة التى يعالج بها المنهج الربانى أمور الاقتصاد فى كل طور من أطواره فيمنع عن الناس الظلم، ولا يجعل الناس عبيداً لقوة طاغية فى الأرض000
* * *
        غير أنه ينبغى لنا أن نضيف إلى تلك القواعد العامة حقيقة أخرى كبيرة يتميز بها المنهج الربانى فى أمور الافتصاد0
        إن التصور الإسلامى لا يجعل الإنسان عبداً((للحتميات)) من أى نوع00 سواء حتمية المادة أو حتمية التاريخ0
        إن((الناس))- فى الإسلام- هم الذين ينشئون مجتمعهم وافتصادهم0 إنه ليست هناك أطوار حتمية تأخذ قالباً معيناً فى حياة الناس، وتغلب طبقة على طبقة، بما تمنحها الحتمية الاقتصادية من التملك وما تمنحها من السلطان!
        إن هذا يحدث فقط فى ظل الجاهلية المنحرفة عن منهج الله!
        أما فى ظل المنهج الربانى، فالناس يعبدون الله وحده00 ولا يعبدون هذه الحتميات!
        ولقد حدث بالفعل أن حال المنهج الربانى- رغم انحراف الناس عنه انحرافا جزئياً- دون قيام الإقطاع بصورته الأوربية البشعة فى أرجاء العالم الإسلامى0 ولم يستطع هذا الإقطاع أن يفرض صورته((الحتمية!)) على حياة المسلمين!
إن الإنسان هو القوة الفاعلة فى تصور الإسلام0 والكون كله- بطاقاته جميعا- مسخر له:
        ((وسخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض جميعا منه))([18])
        ومن ثم ينشئ الإنسان اقتصاده حسما يعتقد هو ويتصور0 بإرادته التى منحه إياها الله0 ولا يكون عبداً ذليلا خاضعاً لأطوار الاقتصاد((الحتمية)) تستعبده وهو صاغر، وتفرض عليه حتميتها وهو خاضع ذليل0
        وحين يمنح المنهج الربانى الإنسان هذه الإيجابية الفاعلة، فهو يكرمه فى عالم التصور ويصحح خطاه فى عالم السلوك فيجعل مجتمعه الإنسانى بريئاً من الظلم والانحراف والفساد0
* * *
        والمنهج الربانى فى أمور الاجتماع  يقيم التوازن بادئ ذى بدء بين الفرد والمجتمع، ثم ينظم علاقة الرجل والمرأة فى المجتمع أدق تنظيم([19])0 
        ليس الفرد والمجتمع معسكرين متقاتلين فى نظر الإسلام!
        وما ينبغى لهما أن يكونا كذلك!  
        إن((الخلافة)) التى منحها الله((للإنسان)) تشمله فرداً وتشمله جماعة0 و((الإنسان)) يشمل الفرد والمجتمع فى ذات الوقت0
        ومن ثم فلا عداوة ولا بغضاء00 ولا تشاحن على الغلبة بين هذا وذاك!
        والقضية التى تصور المجتمع عدوًا للفرد يسعى إلى سحقه وتحطيمه، أو تصور الفرد عدوا للمجتمع يسعى إلى منع الخير عنه00 لا تصور الحقيقة إلا فى حالات الشذوذ والانحراف!
        أما فى حالات الاستواء فالفرد من المجتمع والمجتمع من الفرد00 لا انقطاع بينهما ولا انفصال!
        فى حالات الانحراف والشذوذ فقط يوجد الفرد الطاغى- أيا كان لون طغيانه- والفرد والفساد، والفرد والمنحل، والفرد الجشع00 الخ الذى يرى أن روابط المجتمع المتماسكة تحول بينه وبين تحقيق الانحراف المسيطر عليه، فيسعى إلى تفكيك هذا المجتمع وتفتيته، أو إلى السيطرة عليه واستغلاله00 بحسب نوع الانحراف0
        ويوجد المجتمع الطاغى- بصورة من صور الطغيان- والمجتمع الفاسد المنحرف عن سواء السبيل، الذى لا لا يطيق من الفرد المستقيم استقامته، أو لا يطيق منه دعوته إياه إلى الاستقامة، فيسعى إلى سحقه وتحطيمه0
        أما فى حالة الاستواء- من الفرد والمجتمع كليهما- فهناك التجاوب الطبيعى الذى تلتقى عنده الأهداف والأفكار والمشاعر، وتتآلف وتترابط، ليتكون منها كيان متكامل سليم0
        والإسلام- بطبيعة الحال- يسعى إلى الوصول إلى حالة الاستواء، فى الفرد والمجتمع فى ذات الوقت، ويسعى إلى تقويم حالة الشذوذ والانحراف، من الفرد والمجتمع على السواء0
* * *
        يسعى الإسلام إلى إيجاد حالة من التوازن بين الفرد والمجتمع، بإبراز كيان الفرد المستقل من ناحية، وإبراز كيان المجتمع المترابط من ناحية0 كلاهما على استواء0
        الفرد يخاطبه الإسلام مباشرة، ويعطيه حقوقا ويلقى عليه تبعات، تبرز فى النهاية كيانه الفردى المستقل0
        والجماعة يخاطبها الإسلام كذلك، ويعطيها حقوقا ويلقى عليها تبعات تبرز كيانها المجتمع المترابط0
        فالفرد فى الإسلام يتصل بالله مباشر بلا وسيط0 يخاطبه ويناجيه ويعبده ويتقرب إليه، فرداً مستقلا ذا كيان محدد متخصص0 والإسلام يشعره على الدوام برعاية الله له- فرداً- رعاية كاملة0 فهو الذى يخلقه-فردا- من لقاء أبويه، بقدر من الله محدد له هو شخصيا، لا لأحد سواه00 ثم هو الذى يرزقه- فردا كذلك- وإن كان يسبب لرزقه الأسباب الظاهرة التى تشترك فيها الجماعة- كما يشترك فيها الكون كله- ولكنه رزق محدد له هو ذاته، مكتوب له شخصيا من عند الله، لا يناله أحد سواه0 ثم الله هو الذى يستجيب له حين يدعوه، فيجيب حاجته فى الدنيا- إن شاء- أو يكتبها له فى الآخرة، ولكنه فى الحالين يستجيب لدعائه الفردى المستقل عن كل فرد سواه0 ثم هو يلقى الله فى النهاية فردا: ((وكلهم آتيه يوم القيامة فردا))([20]) ولا يسأل إلا عن نفسه وأعماله الذاتية: ((كل نفس بما كسبت رهينة))([21])0 ((ولا تزر وازرة وزر أخرى))([22])00 وبذلك كله يتحقق الأساس الشعورى للفردية الذاتية المستقلة، عن طريق الاتصال المباشر بالله0         
        ثم يكلف الإسلام الفرد تكاليف فردية تبرز ذاتيته0 فهو- شخصيا- كل فرد بمفرده- مكلف أن يقيم شعائر الله وشرائعه0 وأن يدعو((المجتمع))- أى غيره من الأفراد- إلى إقامتها، ثم هو مكلف أن يقاوم المنكر من المجتمع- أى من غيره من الأفراد- بكل ما يملك من طاقة، وبقدر ما فى نفسه من إيمان0 ولا يقف دون هذا التكليف حائل، فالفرد- كل فرد- ينبغى أن((يتبنى)) القضايا العامة للجماعة بحيث تصبح هى قضيته الخاصة والقضايا العامة فى الإسلام هى تنفيذ شريعة الله0 أى إقامة حكم راشد، وإقامة اقتصاد راشد، وإقامة مجتمع راشد وإشاعة القيم الأخلاقية فى المجتمع، والإشراف على تنظيف المجتمع وتطهيره من كل فساد خلقى- بمعناه الواسع، ومعناه الضيق[الفاحشة الجنسية] على السواء- والرقابة على أعمال الحاكم، لضمان أنها لا تنحرف عن شريعة الله، أى عن الحق والعدل الشامل للجميع00 وبذلك كله تبرز له شخصية إيجابية فاعلة فى واقع الحياة لا فى عالم النظريات0 تبرز عن طريق((تربية)) الفرد نفسيا وخلقيا واجتماعيا ليقوم بكل هذه المهام0
        ثم إن الإسلام يعطى الفرد حق الملكية الفردية، فيبرز له ذاتيته المستقلة من جانب آخر0 وسواء تحقق له هذا الملك فى عالم الواقع أم لم يتحقق، فالحق قائم0 والفرصة كذلك قائمة0 والحق والفرصة كلاهما يحققان للفرد الذاتية المستقلة، فهو من ناحية ملك شخصى، يتعلق بشخص الفرد، ويحس فيه الفرد بوجوده، ومن ناحية أخرى يجعل رزقه- الممنوح له من الله- على مقربة من كيانه الفردى، يطوله بيده، فيشعر فيه بالوجود الذاتى0 ومن ناحية ثالثة يجعل فى يده وسيلة ارتزاق يستطيع بها أن يقاوم الطغيان حين يتعرض له من جانب الحاكم أو المجتمع المنحرف سواء0
        وحين لا يتحقق الملك فى عالم الواقع- رغم وجود الحق ووجود الفرصة النظرية- فالإسلام كذلك لا يدع شخصيته الفردية تنسحق وتضيع وإنما يرتب له كفالة الدولة- من بيت المال- تحميه من الضياع0 وكفالة الدولة فى مفهوم الإسلام تشمل إعداده لعمل نافع، وتوظيفه فى عمل نافع0 أو الإنفاق عليه من مواردها إذا عجزت عن إعداد العمل له أو عجز هو عن العمل للضعف أو الشيخوخة[أو الطفولة] وهو فى هذا كله يأخذ((حقا)) له مفروضا من الله ولا يأخذ((إحسانا)) من أحد من الناس0 فالناس لا يرزقون أنفسهم إنما هو رزق الله0 خصص منه نصيبا((مفروضا)) يأخذه المستحقون له بحق الله0
        وذلك كله أقصى ما يمكن أن يصل إليه نظام يطبق فى الأرض لإبراز ذاتية فردية سوية0                  
        ومن الجانب الآخر يبرز الإسلام((شخصية)) الجماعة00
        فكما كلف الفرد تكاليف، لإثبات ذاتيته الفردية، فكذلك ألقى على عاتق الجماعة تبعات تثبت ذاتيتها الجماعية00 المترابطة0
        فهى مكلفة- كمجموعة- بإقامة شريعة الله وتنفيذها والرقابة على تنفيذها00
        هى التى تولى ولى الأمر00 وهى التى تملك أن تسحب منه البيعة[لا الأفراد!] وهى التى تراقب سيره فى الحكم، وتحاسبه، وترده إلى الصواب، وتؤدى له المشورة0
        ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر))([23])0   
        ((وأمرهم شورى بينهم([24])))0
((وشاورهم فى الأمر([25])))0
وينادى القرآن((الجماعة)) المسلمة نداءات عديدة متكررة: ((يا أيها الذين آمنوا00)):
((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى([26])))0
        ((يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة([27])))0
        ((يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل([28])))0
       
((يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا([29])))0
        ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه([30])))0
        وفى هذه النداءات المتكررة يضع لهم تشريعاتهم- ليقوموا بتنفيذها- وتوجيهاتهم- ليربيهم عليها كجماعة، وينشئوا عليها أنفسهم وأولادهم و((أفراد)) المجتمع جميعاً- ويكلفهم تكاليف ينهضون بها مجتمعين:
        ((واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا000([31])))0
        ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان([32])))0
        وكلها أمور تقتضى وجود((جماعة)) متماسكة مترابطة00 ومهيمنة فى ذات الوقت على سير الأمور0  
        والإسلام يقيم الجماعة من الأفراد00 فهذه الجماعة المؤمنة التى تنادى هذه النداءات وتقع عليها هذه التكاليف تنشأ من الأفراد المؤمنين- الذين كل واحد منهم مؤمن على حدة ومتصل بالله- فرداً- على حدة- ولكن الإسلام يعطى هذه الجماعة- التى تكونت من الأفراد بهذه الطريقة- كياناً متميزاً متبلوراً((كجماعة)) ويعطيها من الهيمنة ما يوازن الكيان المستقل للفرد الذى قد تغريه فرديته واستقلاله أن ينحرف عن سواء السبيل0 فهى رقيبة عليه وهى موجهة لأعماله، وفى يدها السلطة المخولة لها من الله- عن طريق ممثلها- ولى الأمر- أن تقوم الفرد المنحرف وترده إلى الصواب0 ولكن يمنع من طغيانها بهذه السلطة- فى المجتمع الإسلامى- أنها تنفذ- فى جميع الأحوال- شريعة الله لا هواها الخاص0 وشريعة الله منزلة((للإنسان))00 الفرد والجماعة على السواء0
        والجماعة كذلك هى المكلفة حماية أرض الإسلام وشريعته وأهله00 ككيان مجتمع مترابط متناسق0
        والجماعة هى- من الوجهة النظرية- صاحبة المال الأولى، التى تمنح التصرف فيه للفرد00 ومن الوجهة العملية تملك استرداد حق التصرف من الفرد الذى لا يحسن القيام على المال:
        ((ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياماً0 وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً))([33])0         
        ثم هى المكلفة- فيما بينها- بكفالة أفرادها الضعاف وحمايتهم، قبل الدولة التى هى الموئل الأخير0 فى حدود الأسرة أولا، ثم فى حدود كل جماعة محلية على حدة ثم فى حدود الأمة الإسلامية عامة0
        وبذلك كله تبرز شخصية الجماعة على استواء، ثم تتوازن شخصية الفرد وشخصية الجماعة على استواء!
        وحقيقة إن الأمر فى واقع الناس ليس بالسهولة التى تكتب بها هذه الألفاظ!
        فالذى يحدث فى حقيقة الواقع أن الفرد يطغى أحياناً، والجماعة تطغى أحياناً أخرى0
        ولكن هذه الحقيقة مردها إلى((الناس)) وليس إلى النظام!
        الناس ينحرفون، بما فى فطرتهم من استعداد للانحراف، مقابل لاستعدادهم للاستواء0
        والفرق كبير- من الوجهة النظرية والعملية معاً- بين هذا الوضع، وبين أن يكون الانحراف قائماً فى النظام ذاته، حيث لا يملك الناس له ردا إلا بتغيير النظام من أساسه، وإقامة نظام جديد0
        فى النظرية الرأسمالية يطغى للفرد بطبيعة النظام، ولا يملك الناس رده إلا إذا غيروا النظام الرأسمالى من جذوره وأما فى ظله فلا يستطيعون أن يردوا ما يقع عليهم من طغيان، ولا أن يقوموا الطغاة0
        وفى النظرية الجماعية تطغى الجماعة بطبيعة النظام، ولا يملك الفرد إلا أن ينسحق تحت ثقلة النظام الهائل المروعة، التى تكتسح فى طريقها كل فرد خارج عليه0 أو فى الحقيقة خارج على الزعيم المقدس الذى يدير الدولة بالدكتاتورية الصريحة التى تسمى دكتاتورية البروليتاريا0
        أما فى الإسلام فلا يقع طغيان من الفرد أو الجماعة بطبيعة النظام، إنما يقع إذا انحرف الفرد أو الجماعة عن النظام0 وعندئذ تقع تبعة انحراف الناس على أنفسهم0 وعليهم تقويم هذا الانحراف الواقع فى أنفسهم والرجوع إلى الله ورسوله00 فتستقيم الأمور0
        ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنوا بالله واليوم الآخر))([34])0                    
ومما ينبغى الإشارة إليه هنا أن الله والرسول هما السلطة التشريعية التى يرجع إليها فى جميع الأمور، والطاعة لها طاعة مباشرة0 أما طاعة أولى الأمر فهى متعلقة بطاعة الله ورسوله0 لذلك كرر الفعل((أطيعوا)) مع الله ومع الرسول، وأدمج طاعة أولى الأمر فى طاعة الله وطاعة الرسول بغير فعل مستقل0 ثم جعل المرجع فى حالة التنازع بين المؤمنين على شئ، هو الله والرسول وحدهما باعتبار تشريعهما هو الأصل الوحيد للتشريع0
        وفى ظل هذا التصور لا يكون الفرد والمجتمع معسكرين متقابلين متقاتلين، وإنما يكونان قوتين متداخلتين- كما هما فى حقيقة الواقع- متعاونين- كما ينبغى أن يكون الأمر- متحدتين فى الأهداف والمشاعر والأفكار؛ فلا يحدث الصراع ولا يحدث الطغيان000
* * *
        أما أفراد المجتمع من رجال ونساء وأطفال، فالإسلام شديد العناية بهم، شديد الحرص على تنشئتهم النشأة الصالحة التى تمنع ما وقع لهم فى الجاهلية من انحراف، تبعه الشقاء والعذاب والحيرة والاضطراب0
        فأولا هناك تقسيم عام شامل، للعمل والاختصاصات: الرجل مكلف بالإنتاج المادى وما ينتج عنه من اقتصاد وسياسة00 والمرأة مكلفة بالإنتاج البشرى، وما يترتب عليه من رعاية الأسرة وتربية النشء الجديد على أسس صالحة00 والأطفال ينالون الرعاية والتربية والتقويم فى ظل الأسرة، محضنهم الطبيعى الفطرى0
        وليس هذا التقسيم تعسفيا من ناحية0 وليس صارما قاطعا من ناحية أخرى0
        إنه يرعى فطرة الرجل وفطرة المرأة واستعدادهما الطبيعى الأصلى00
فالمرأة باستعدادها الفطرى- البيولوجى- للحمل والولادة والإرضاع، قد ركبت تركيبا نفسياً معيناً، يجعل الجانب العاطفى فيها هو الأقوى والأغرز، والأقرب للاستثارة، وهو الأملك لكيانها كله00 وليس معنى ذلك أنها لا تصلح أية صلاحية للعمل فى خارج نطاق البيت، وخارج نطاق هذه الوظيفة الفطرية00 ولكنا رأينا من شهادة الطبيبة النمساوية فى الفصل السابق كيف فعلت المرأة بنفسها حين سعت إلى((المساواة)) مع الرجل فى جميع وظائفه وأعماله، وكيف أثر هذا على كيانها البيولوجى، فضمرت أجهزة الأمومة ووظائفها، ولم تعد المرأة امرأة- ولا رجلاً كما تمنت فى داخلية نفسها!- وإنما جنساً ثالثاً فى طريقه إلى الظهور! جنساً حائراً قلقاً مضطرباً غير مستقر!
إنها عقوبة الفطرة الحاسمة التى لا تخضع لحماقات الجاهلية وأهوائها00 لأن الفطرة من صنع الله، الذى خلق كل شئ ثم هداه إلى فطرته ووجهته بلا تبديل!
وحماقة فارغة كل ما تقولوه المرأة((الحديثة))، أو يقوله لها الرجل الذى يستهويها للخروج من مملكتها الطبيعية الفطرية، لتكون بين يديه أسهل منالا، وأقرب إلى إجابة نزواته فى حمى المجتمع المختلط الهائج بالنزوات! حماقة فارغة أمام شهادة الفطرة00 فالفطرة لا تعرف أن((عقارب الساعة)) قد تقدمت إلى الأمام أو أنها لا يمكن أن ترجع إلى الوراء!! فليس للفطرة علاقة بعقارب الساعة! وعقارب الساعة هذه حين اختل توازنها فاندفعت بلا ضابط، جرت معها المرأة ذاتها، وكذلك الرجل والأطفال إلى التشرد والشقاء! فحين خرجت المرأة شاردة إلى الطريق، صار الأمر فى المجتمع كله كما وصفه ول ديورانت0([35]) شقاء شامل، وضياع مدمر00 لا بيت ولا أسرة ولا استقرار!

[1] عن كتاب ((تجديد الفكر الدينى فى الإسلام)) تأليف محمد إقبال وترجمة عباس محمود ص149 0
[2] المصدر السابق 149 - 150
[3] عن كتاب ((الإسلام دين علم خالد)) لفريد وجدى 0
[4] للمودودى ثلاثة بحوث رئيسية فى الموضوع: ((أسس الاقتصاد الإسلامى)) و((الربا)) و((ملكية الأرض فى الإسلام)) ولسيد قطب كتاب ((العدالة الاجتماعية فى الإسلام)) 0
[5] سورة الذاريات (57) 0
[6] فى كتاب ((التطور والثبات فى حياة البشرية)) بينت العناصر الثابتة والعناصر المتطورة فى النفس البشرية وفى الحياة البشرية. وبينت كيف يلتقى الإسلام – دين الله – التقاء كاملاً بهذه وتلك . فيعطى فى المسائل الثابتة تشريعات تفصيلية ثابتة لا تتغير، لأنها تواجه أموراً لا تتغير فى حياة البشر. ويعطى فى المسائل المتطورة إطاراً عاما ثابتاً، ويدع للأجيال المتعاقبة – كل حسب نضجه و((تطوره)) وصورة مجتمعة – أن يملأ الإطار الثابت بالتشريع المتطور. ومن ثم تكون الشريعة ثابتة، والفقه دائم النمو لمواجهة حاجات الناس كما قال عمر بن عبد العزيز ((يجد للناس من الأقضية بقدر ما يجد لهم من القضايا))0
[7] راجع الفصل السابق 0
[8] سورة آل عمران (104)0
[9] متفق عليه0
[10] من كلام الخليفة الراشد الأول أبى بكر رضى الله عنه0
[11] سورة النور (33)0
[12] سورة النساء (5)0
[13] سورة الحشر (7)0
[14] سورة الذاريات (19)0
[15] سورة البقرة (278،279)0
[16] سورة البقرة (280)0
[17] من كتاب((التطور والثبات))0
[18] سورة الجاثية (13)0
[19] لا نتحدث هنا عن العلاقات الجنسية، وإنما عن العلاقات الاجتماعية، وعلاقة الجنس واحدة من هذه  العلاقات ولا شك، ولكنها  تتميز بطابعها الخاص ولذلك أفردنا لها الحديث0   
[20] سورة مريم (95)0
[21] سورة المدثر (38)0
[22] سورة الأنعام(164)0
[23] سورة آل عمران (104)0
[24] سورة الشورى (38)0
[25] سورة آل عمران (159)0
[26] سورة البقرة (178)0
[27] سورة البقرة (208)0
[28] سورة النساء (29)0
[29] سورة النساء (71)0
[30] سورة المائدة (90)0
[31] سورة آل عمران (103)0
[32] سورة  المائدة (2)0
[33] سورة النساء (5)0
[34] سورة النساء (59)0
[35] راجع شهادة ول ديورانت فى الفصل السابق0

Previous Post Next Post