بحث فى الأخلاق


بحث الاخلاق 


الاخلاق قديما وحديثا


            لعل من أشد ما يفتن الناس فى الجاهلية الحديثة أنها ذات((أخلاق))!

        انظر إلى هذا الرجل الغربى المهذب00 إنه  شخص ذو أخلاق00 إنه لا يجذب عليك ولا يغشك ولا يخادعك0 إنه يحدثك فى استقامة، ويعاملك بأمانة0 ثم إنه مخلص فى عمله، صادق النية فى خدمة((وطنه))00 ((مثال)) فى كل شئ00

        فأما المسألة الجنسية00 فدعك منها! إنهم- هناك- لا يعتبرون لها صلة بالأخلاق! وليست العبرة بهذه النقطة00 ياليتنا يا سيدى نفسد مثلهم، ويكون لنا أخلاق!

        وسوف نتتبع هنا تاريخ الأخلاق فى الجاهلية الحديثة، لنر إن كانت سائرة فى طريق الصعود أم فى طريق الانحدار00 ونرى- على ضوء الواقع الحقيقى، بعيداً عن الهالات- من بقى فى العالم الغربى من أخلاق0

        ولكننا نود قبل أن نسير مع خطوات التاريخ، أن نؤكد المعنى الذى أشرنا إليه أكثر من مرة من قبل: إنه لا توجد جاهلية واحدة فى التاريخ خلوا من((جميع)) الأخلاق0 فليس فى طاقة البشرية أن تفسد كلها00 وفى كل شئ! لأن النفس البشرية لا يمكن أن تتمحض- فى مجموعها- للشر0 ولابد- مهما فسدت- أن تبقى منها لمحات متناثرة من الخير هنا وهناك00 ولكن وجود هذا الخير المتناثر- فى أية صورة وفى أى مجال- لا ينفى عن الجاهلية انحرافها، ولا يعفيها من النتائج الحتمية لهذا الانحراف0

        وقد كانت الجاهلية العربية حافلة بألوان من((الفضائل))0

        كان فيها الشجاعة والإقدام، وبذل النفس رخيصة فى سبيل ما تؤمن به من هدف0 والكرم0 والأنفة وإباء الضيم00

        ولكن ذلك كله لم يعفها من كونها جاهلية0 ثم لم يعفها من نتائج ضلالها0 فقد كانت هذه((الفضائل)) ذاتها- لبعدها عن منهج الله- تنحرف عن طريقها القويم0 كانت الشجاعة والإقدام وبذل النفس تضيع فى جاهلية الأخذ بالثأر، والتناصر على ضلال0 لا يهم إن كان الذى ينصرونه على الحق أو على الباطل0 إنما((ينفرون)) لهيجة القتال بتجرد استثارتهم، لا لعدم حق ولا إزالة باطل00 فكان الباطل يتراكم على الدوام! وكان الكرم ينقلب مباهاة فارغة! فذبح الذبائح وقرى الضيف00 لكى يتحدث بذكره الركبان! فإن لم يكن ركبان ولا حديث0 إن كان إعانة للضعيف والمحروم- لوجه الله- فعند ذلك يدرك النفوس الشح وتمتنع عن العطاء! وكانت الأنفة وإباء الضيم تنقلب استكباراً آثما عن اتباع الحق! فليس الحق هو الأصل وإنما هو((الأنا)) الطاغية، ولو علم صاحب((الأنا)) بينه وبين نفسه أنه على ضلال!

        والجاهلية الأوربية حافلة بألوان من الفضائل فى مجال التعامل الفردى: الصدق والإخلاص فى العمل والاستقامة والأمانة ونظافة التعامل00 ولكنها- لبعدها عن منهج الله- تنحرف عن طريقها القويم0 فقد تحولت- كما سنرى بعد لحظة- إلى فضائل((نفعية))! يتبعها من يتبعها لأنها- فى مجموعها-((نافعة)) فى التعامل00 تجعل عجلة الحياة تسير هينة بلا احتكاك0 أما حين تفقد((نفعها)) فهى تفقد كذلك رصيدها عند ذلك الأوربى((الفاضل))00 وتصبح فى نظره حماقة((مثالية)) لا تستحق الاتباع0

* * *

ولا نتعجل الحديث00 فسنتتبع- على هينة- خطوات التاريخ0

        ((كانت)) الأخلاق الأوربية مستمدة كلها من الدين0 وليس هناك مصدر للأخلاق فى الحقيقة سوى الدين! والبشرية تنحرف فى عقيدتها بعد أن تكون على الحق، فتنحرف معها أخلاقها0 ولكن انحراف الأخلاق بطئ بطئ إلى أقصى حد00 لا يتم فى جيل واحد، بل أجيال00 ومن ثم يحدث ذلك المظهر الخادع الذى خدع الجاهلية الحديثة، وخدع معها عشاقها00 أن يوجد الانحراف عن العقيدة ظاهراً، ولا يكون الانحراف عن الأخلاق قد اتضح بعد وأخذ صورته الحادة00 فيظن الناس لأول وهلة أنه لا صلة بين العقيدة والأخلاق0 وأنه يمكن أن ينحرف الناس عن العقيدة ما شاءوا ثم تظل لهم أخلاق!

        وهو وهم خادع00 سببه اختلاف السرعة فى انحدار! وسببه أن النفس تحتجز رصيدها الخلقى- بحكم العادة والتقاليد- أمدا طويلا بعد أن تكون قد فقدت((الإيمان)) به كجزء من العقيدة00 وقد تحتجزه فترة- على وعى- منفصلا عن العقيدة00 على أنه شئ((ينبغى)) فى ذاته أن يقوم00 ولكن النتيجة الحتمية واحدة فى النهاية00 إنه ما دامت العقيدة قد انحرفت فلابد أن تنحرف الأخلاق0 وما دامت الأخلاق قد انفصلت عن العقيدة، فلابد أن تموت0

        وهذا هو الذى حدث- فى تدرج بطئ- فى الأخلاق الأوربية، التى ما زالت بقية منها تضلل الجاهلية الحديثة عن حقيقة الواقع، فتحسب أنها ذات أخلاق0

* * *

        كانت الأخلاق الأوربية ذات يوم مستمدة كلها من المعين الذى لا معين غيره للأخلاق00 معين الدين0

        وكان هناك مصدران لهذا الرصيد الخلقى فى أوربا: أحدهما الديانة المسيحية، والثانى هو الإسلام0

        فأما الديانة المسيحية- منذ أدخلها قسطنطين فى أوربا- فقد صبغت الحياة الأوربية بمثل أخلاقية معينة، ظلت قائمة أمداً فى نفوس الناس، رغم ما دخل فى هذه الديانة- على يد قسطنطين ذاته- من انحراف([1])0 غير أن هذه الأخلاق كانت تتسم بصورة سلبية لا تواقع الحياة0 لقد كان المسيح عليه السلام وهو يقول للناس: ((من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر)) يقصد تطهير الأرواح من الداخل، ولم يكن قط- وهو نبى الله ورسوله- يقصد أن يبذر الذلة والخنوع فى النفوس0 ولكن الصبغة العامة للأخلاق المسيحية فى العصور الوسطى كانت تتسم بهذا الطابع، الذى لم يقصده- ولا شك- السيد المسيح، إنما اتكأ عليه أتباعه لظروف محلية فى داخل الإمبراطورية الرومانية الجانحة إلى المادية الطاغية، والتجبر والفساد0

        ثم احتك العالم الصليبى بالعالم الإسلامى فى الحروب الصليبية، ودخل الصليبيون بلاد إسلامية وأقاموا فيها فترة من الوقت، وأقاموا دويلات مؤقتة فى بعض بلاد الشام0

        وامتزج الصليبيون بالحياة الإسلامية عن كثب، وأفادوا منها الكثير00 أفادوا منها نظرة إيجابية للحياة00 مع المحافظة على((الأخلاق))0

        لقد كانوا يرون المسلمين- فى داخل دويلاتهم- إذا أذن المؤذن تركوا دكاكينهم مفتوحة أو شبه مفتوحة، بكل ما فيها من البضائع الثمينة، لا يحرسها شئ، وهرعوا إلى الصلاة فى المسجد00 فإذا قضيت الصلاة وعادوا إلى دكاكينهم لم يمن شئ قد سرق منها00 لأن الناس أمناء، بالإسلام0

        وكانوا يرون الصانع المسلم مثالا للجد والنشاط والأمانة00 أمانته هى رأس ماله الأول0 وجده هو رصيده الواقعى للتقدم .. ومن ثم تقدمت بينهم الصناعات وتوافر الإنتاج0

        وغير ذلك من الفضائل كانوا يلمسونه فى واقع المسلمين الذين احتكوا بهم .. وبخاصة ((الوفاء بالعهد)) أشهر ما لمسه الصليبيون فى تعاملهم مع المسلمين، وعلى الأخص مع صلاح الدين00

        ومن هذا الرصيد المتجمع كله، ومن حصيلة العلم الذى أخذوه عن المسلمين فى المغرب والأندلس قامت النهضة الأوربية الحديثة فى كل ميدان0

* * *

        ولكن النهضة – لظروف بيناها تفصيلا من قبل – قد انحرفت عن عبادة الله، وعادت وثنية.. يونانية ورومانية، وإن بقيت العقيدة رصيدا باهتا فى داخل الضمير.

        وهنا أضيف إلى حصيلة الأخلاق فى النفس الأوربية رصيد ثالث.. هو ((الفلسفة)) المستمدة من الثقافة الهيلينية، ثقافة ((الأبراج العاجية)) ذات المثل المعلقة فى الفضاء.

        وبدأ الانحراف فى الأخلاق منذ ذلك الحين !

        ولأن الانحراف فى الأخلاق يكون بطيئاً جداً وتدريجياً جداً .. لم تتبين للناس حقيقة الأمر 00 عدة قرون 0

        لقد كان من أثر دخول الرصيد اليونانى فى حصيلة الأخلاق الأوربية أنهم تصوروا أنه من الممكن – ومن المستساغ – أن تقوم المثل الأخلاقية فى الفضاء .. فى الأبراج العاجية، بينما السلوك الواقعى يسير فى خط آخر ، محكوم – كما يقولون – بالضرورات0

        وهذه التفرقة بين النظرية والتطبيق، رصيد أوربى بحت، أنتجته الجاهلية الحديثة بوجه خاص، وصبغت به ((أخلاقيات)) العالم كله فى كل مجا، فصار من المستساغ عند الله أن يتحدثوا عن ((النظرية)) الأخلاقية ويستمتعوا بها فى ذاتها – فى عالم  المثل – ثم لا يتوقعوا تطبيقها فى واقع الأرض، وإنما يسيرون فى هذا الواقع بحسب ما تقتضيه ((الظروف))!

        وفى ظل هذه الجاهلية فى التصور، ولدت       ((المكيافيلية)) التى تسم بطابعها السلوك الغربى كله. فى كل مجال تجد فيه أوربا أن ((المثل)) لا تسعفها ((بالفائدة)) المطلوبة!

        وبدأت المكيافيلية فى السياسة 00

        كانت السياسة أول ما تأثر بعملية الفصل بين النظرية والتطبيق !

        وسارت أوربا فى السياسة على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة! فكل وسيلة – مهما كانت قذارتها وبشاعتها – مستساغة ما دامت توصل إلى  الهدف المطلوب.

        وفى الداخل والخارج طبعت المكيافيلية سياسة أوربا بطابعها 0

        الملوك والأشراف ورجال الدين يتبعون أخس الوسائل للمحافظة على ما لهم من سلطان. والرأسمالية من بعدهم ترثهم وترث وسائلهم وتزيد عليها.. بشاعة زائدة فى التواء السلوك لتحقيق المصالح غير المشروعة التى تعيش عليها.. حتى لا يعود هناك مانع فى نظر الرأسمالية الأمريكية مثلا من قتل كنيدى .. للمحافظة على مستوى الأرباح!

        أما فى الخارج فالأمر أشد بشاعة .. الاستعمار يتوسل بكل سفالات الأرض ودناءاتها ليوطد سلطانه، ويمتص دماء الناس.. ولا يرى فى ذلك انحرافاً ! فالغاية تبرر الوسيلة! ولا يهم أن تكون الغاية ذاتها نظيفة.. ففى عالم المثل توجد النظافة .. لا فى عالم الواقع المشهود !

        وهكذا انفصلت السياسة عن الأخلاق فى أوربا.. وقال الناس : لا ضير ! إنها هكذا ((السياسة)) .. لا صلة لها بالأخلاق !

* * *

        كان ذلك بدء الانحراف .. ولكنه لم يكن كل الانحراف 0

        وخدع الناس فلم يفطنوا إلى الحقيقة .. أنه ما دامت الأخلاق قد انفصلت عن العقيدة فى الله فلن تثبت فى الأرض ، ولن تصمد للعقبات !

        خدعوا 00 لأنهم رأوا رصيداً ضخماً من الفضائل ما زال باقياًن فى واقع الأرض .. لم يتطرق الفساد إليه .. فظنوا – مخدوعين – أن السياسة شأنها هكذا حقيقة .. لا تخضع لقواعد الأخلاق! وأن ما حدث لم يكن هدماً للأخلاق ولا انتقاصاً من رصيدها النيل، وإنما هى نظرة ((واقعية)) للأشياء ، لا تحلم بالمثل المستحيلة التطبيق !

        ولكن السنة الحتمية لا تتخلف! فما دامت الأخلاق قد انفصلت عن العقيدة، معينها الطبيعى الذى يجدد حيويتها، ويمنحها الإخلاص، فلا يمكن أن تثبت !

        لقد استبدلت أوربا بالدين الفلسفة .. وصاغت منها قواعد أخلاقها.. أو أنها فى الحقيقة – كراهية فى الدين – قد أعطت ثوباً فلسفياً لما كان باقياً لديها من رصيد خلقى لم يفسد بعد .. فصار الناس يمارسون الفضائل – الموروثة – ثم ينفرون من أن يحسوا بأنها مستمدة من الدين! فيفسرونها ((بالواجب)) أو ((بالضمير)) أو بكذا .. وكذا .. ويأبون أن يفسروها بالدين([2])!

        ولكن هذه الأخلاق، المنفصلة عن معينها، لم يكن يمكن أن يكتب لها الدوام 0

        أخذ الاقتصاد – من بعد السياسة – ينفصل عن الأخلاق !

        حقيقة إن الوضع الاقتصادى فى أوربا كان قائماً منذ البدء على أساس غير أخلاقى. فقد كان نظام الإقطاع المعتمد على عبيد الأرض قائماً فى الإمبراطورية الرومانية من قبل المسيحية بكل شناعاته ورذائله، ولم تستطع المسيحية – فى صورتها الزائفة التى فرضها الإمبراطور هذه المسيحية الكنسية المحرفة فى أن تخضع الوضع الاقتصادى فى الإمبراطورية لقواعد الأخلاق المستمدة من الدين. بل إن الكنيسة ذاتها انقلبت بعد أجيال قليلة إلى مؤسسة إقطاعية، تمارس فى ممتلكاتها كل ما يمارسه الإقطاعيون من مظالم كريهة .. باسم الدين !

        ومع ذلك فقد كان الانحراف الخلقى فى الاقتصاد الإقطاعى محصوراً فى هذا الوضع الموروث من قبل، الذى عجزت الكنيسة المسيحية عن تعديله . واستطاعت تعاليم الدين – على الرغم مما أصابها من انحراف ومسخ – أن تجعل التعامل بالربا – مثلا – أمرا مستبشعاً لا يلجأ إليه الناس فى تعاملاتهم الاقتصادية إلا كارهين0

        فلما جاء الانقلاب الصناعى والرأسمالية كان الناس قد بعدوا أشواطاً عن العقيدة وأشواطاً عن الأخلاق! ومن ثم لم تجد الرأسمالية الناشئة حاجزاً يحجزها عنا انتهاك كل ما رغبت فى انتهاكه من مبادئ الأخلاق0

الربا 00 المحرم فى المسيحية – واليهودية من قبل – كان هو الأساس الذى قامت عليه الرأسمالية من أول لحظة، بكل ما يشتمل عليه من قبائح وظلم، واغتصاب للجهد المبذول، واستمتاع فاجر بالكسب الذى لم يتعب فيه آخذه، وإنما يأتيه الكسب سهلاً ميسراً وهو قاعد مستريح !

ثم كان الاستغلال البشع لجهد العمال لقاء القوت الضرورى، بل لقاء أجر يقل أحياناً عن الكفاف00

وكان استغلال المرأة لمضاربة لرجل وتفتيت عزيمته حين أخذ يطالب برفع الأجور وتحسين أحوال العمل .. ثم استغلالها لإرضاء شهوات الرجل الهابطة ، وقهرها على بيع عرضها لقاء لقمة الخبز!

وكان إفساد الأخلاق بالجملة لإتاحة فرح الربح المجنون للرأسمالية، فى ((الملاهى)) والملذات، وأدوات الزينة والملابس و((المودات)) و ((التقاليع)) 00 !

وكان نهب المواد الخام من البلاد المستعمرة لتحصل الرأسمالية على الربح الفاحش، وتترك الملاك الأصليين فى الفقر والتأخر والجهل والمرض والعجز .. مع تصدير المفاسد الخلقية إليهم لتربح الرأسمالية عن طريقها مزيداً من الأرباح!

وكان شراء الذمم والضمائر – فى السياسة الداخلية – لضمان تسيير السياسة حسب أهواء الرأسمالية الحاكمة، وفى السياسة الخارجية للإبقاء على مصالح الرأسمالية والاستعمار 00

وسخرت الرأسمالية أيماً سخرية من الذين يواجهونها بالدعوة الخلقية والرجوع إلى مبادئ الأخلاق !

وظهرت نظريات ((علمية!)) تقول إن الاقتصاد له قوانينه الخاصة .. قوانينه الحتمية التى لا علاقة لها بالأخلاق 00 بل لا علاقة لها ((بالناس)) على الإطلاق !

وهكذا انفصل الاقتصاد عن الأخلاق انفصالاً كاملاً .. وهز الناس أكتافهم، وقالوا : هذا شأن الاقتصاد 00 إنه لا يخضع لقواعد الأخلاق !

* * *

        ثم أخذ الجنس – من بعد السياسة والاقتصاد – ينفصل عن الأخلاق !

        على هدى التفسير الحيوانى للإنسان، والتفسير الجنسى للسلوك، وفى ظل الانقلاب الصناعى الذى ولد فى الجاهلية المنحرفة عن العقيدة.. أخذ الناس يغرقون فى حمأة السعار الجنسى المجنون00

        وفى مبدأ الأمر كان واضحاً للناس ولا شك أن هذا فساد فى ((الأخلاق)) !

        ولكن رويداً رويداً نسى الناس هذه الحقيقة .. أو أنستها لهم الشياطين !

        ماركس .. فرويد .. ودركايم .. وغيرهم من الشياطين ، يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول .. غروراً ([3])0

        ماركس – ومعه التفسير المادى للتاريخ – يقول : إن ((العفة)) الجنسية من فضائل المجتمع الإقطاعى البائد ! كقيمة موقوتة لابد أن توجد فى هذا الطور الاقتصادى .. لا كقيمة ذاتية ينبغى أن تتبع بصرف النظر عن الظروف الاقتصادية، لأنها مرتبطة بكيان ((الإنسان)) ذاته المتميز عن الحيوان!

        وفرويد يقول: إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسى. وكل قيد – من دين أو أخلاق أو مجتمع أو تقاليد – هو قيد باطل، ومدمر لطاقات الإنسان00 وهو((كبت)) غير مشروع!

        ودركايم يقول:

        ((إن الأخلاقيين يتخذون واجبات المرء نحو نفسه أساساً للأخلاق0 وكذا الأمر فما يتعلق بالدين، فإن الناس يرون أنه وليد الخواطر التى تثيرها القوى الطبيعية الكبرى أو بعض الشخصيات الفذة لدى الإنسان00 الخ[يقصد الرسل والأنبياء والقديسين] ولكن ليس من الممكن تطبيق هذه الطريقة على الظواهر الاجتماعية اللهم إلا إذا أردنا تشويه طبيعتها([4])!))     

        ويقول:

        ((ومن هذا القبيل أن بعض هؤلاء العلماء يقول بوجود عاطفة دينية فطرية لدى الإنسان، وإن هذا الأخير مزود بحد أدنى من الغيرة الجنسية والبر بالوالدين ومحبة الأبناء، وغير ذلك من العواطف0 وقد أراد بعضهم تفسير نشأة كل من الدين والزواج والأسرة على هذا النحو0 ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية فى الإنسان))([5])0

        ويقول:

        ((وحينئذ فإنه يمكن القول بناء على الرأى السالف بأنه لا وجود لتفاصيل القواعد القانونية والخلقية فى ذاتها إذا صح هذا التعبير.. ومن ثم فليس من الممكن، تبعاً لهذا الرأى، أن تصبح مجموعة القواعد الخلقية التى لا وجود لها فى ذاتها موضوعاً لعلم الأخلاق()))00

        وسنتحدث عن الفساد فى علاقات الجنسين فى الباب القادم من هذا الفصل0 ولكننا هنا نشير فقط إلى دلالات خط التاريخ 00

        لقد غرق الناس فى حمأة الجنس بتأثير هذه المبادئ الهدامة، ثم نسوا أنهم بذلك ينحرفون عن ((الأخلاق)) فراحوا يقولون: إن الجنس عملية ((بيولوجية)) بحتة لا علاقة لها بالأخلاق!! كما قالوا من قبل: إن السياسة هى سياسة ولا علاقة لها بالأخلاق! وكأنهم حين يقولون ذلك بأفواههم يغيرون حقيقة الواقع، أو ينفون عن هذا الواقع ثقلة الانحراف، ونتائج الانحراف!

        وهكذا انفصل الجنس عن الأخلاق كما انفصلت السياسة والاقتصاد من قبل، وانهار ركن جديد من الأخلاق بعد إذ انفصلت عن معينها الحقيقى الذى لا معين غيره .. معين الدين !

* * *

        وإذ كان التحول فى مجال الأخلاق تدريجياً وبطيئاً .. وإذ كانت الحصيلة التى جمعتها الأجيال تحتاج – فى هدمها – إلى أجيال .. فقد انفصلت السياسة والاقتصاد عن الأخلاق ثم انفصل الجنس، وبقى بعد ذلك رصيد ضخم من الأخلاق لم يكن قد فسد بعد .. فخيل للناس – فى جاهليتهم – أن الأخلاق يمكن أن تنفصل عن العقيدة فى الله وتظل مع ذلك حية فاعلة فى الأرض .. وخيل إليهم – بما نفخت الشياطين فى أذهانهم من المذاهب والنظريات – أن السياسة والاقتصاد والجنس، لا علاقة لها بالأخلاق حقا! فهى محكومة بقيم أخرى واعتبارات أخرى غير القيم والاعتبارات الخلقية .. وأن ((الأخلاق)) باقية بخير، ومستمرة فى فاعليتها .. حتى بعد انفصال السياسة والاقتصاد والجنس.. لن تتأثر بهذا الفساد ، الذى آن لنا أن نكون ((واقعيين)) فلا نسميه فساداً .. ولنسمه مثلا .. تطوراً .. أو فنمسه.. ضرورة حتمية ! والتطور والحتمية كلاهما قوة لا تناقش ولا تعارض، ولا توضع – كالأشياء الأخرى  - فى الميزان. فهى ميزان نفسها ولا تقاس بشىء خارج عنها .. أو ليست ((آلهة))؟ لا تسأل عما تفعل! فلنقبل حكمها صاغرين .. بل فنتقبل حكمها مسرورين!

* * *

        ومضت العجلة خطوة أخرى فى طريق الانحدار .. فما كان يمكن أن تقف عند حد معين .. ما دامت فى طريق الانحدار !

        لقد كان قد بقى رصيد من الأخلاق الحقيقية فى أوربا .. رصيد من الفضائل الإنسانية الخليقة بالإعجاب. الصدق والأمانة والاستقامة والجلد على العمل والإخلاص فيه .. والقدرة على التنظيم .. والتوجه إلى الإنتاج والصبر على مقتضياته، والكفاح من أجل تحسين الحياة وتجميلها وتيسيرها 00

        وهى كلها جزء من الرصيد الأصلى للأخلاق، الذى استمدته أوربا من معينه الأول – معين الدين – سواء المعين المسيحى والمعين الإسلامى .. مضافاً إليه الروح الرومانية القديمة، النشيطة فى عالم المادة والإنتاج المادى، المتجهة إلى ((التنظيم)) و ((التحسين))0

        ولكن الروح الرومانية ذاتها هى التى أفسدت ذلك الرصيد !

        وكما أفسدت الهيلينية رصيد الأخلاق من قبل، ففصلت بين المثال والواقع، وأباحت الاستمتاع بالمثل الأخلاقية – فى الأبراج العاجية – دون أن يكون لها رصيد من الواقع [ونشأت عن ذلك المكيافيلية فى عالم السياسة] فكذلك أفسدت الروح الرومانية ما تبقى من رصيد الأخلاق.. من ناحيتين :

        إن الروح الرومانية – كانت – نفعية من ناحية . وأنانية من ناحية 0

        ومن هذين الانحرافين فى الجاهلية الرومانية القديمة حدث الانحراف فى الرصيد الذى تبقى من الأخلاق فى الجاهلية الحديثة .. فصارت نفعية .. وصارت أنانية 00

        إن الصدق والإخلاص والأمانة والاستقامة ..إلخ، فضائل . ولكنها يمكن أن تتم على مستويات مختلفة، وليست صورة واحدة مفردة 00

        يمكن أن تتم على مستوى ((إنسانى)) .. وهذا هو الخليق بها .. وهذه صورتها الحقيقية الأصلية التى تستمدها من معين الدين . ويمكن أن تتم على مستوى ((قومى)) أى أنها لا تطبق إلا فى حدود ((القومية)) التى يعيش الإنسان فى داخلها، فإذا خرجت عن حدود هذه القومية – الضيقة- مهما اتسعت – عن النطاق ((الإنسانى)) الشامل – فقدت رصيدها ودوافعها، وانقلبت أنانية تسرق وتنهب وتغش وتخادع وتلتوى .. ولا تبالى أن تصنع ذلك كله، ولا تتأثم ولا تتحرج .. لأنها – فى أصلها – لا تقوم على ركيزة ((إنسانية)) حقيقية. ويمكن – بعد ذلك – أن تتم فى المستوى القومى ذاته، لا على أساس أنها قيم مطلقة ينبغى طاعتها – فى المستوى القومى على أقل تقدير – وإنما على أساس ما تجلبه من النفع لحاملها.. فهى تتبع بمقدار هذا النفع، وتبطل إذا بطلت المنفعة، القريبة أو البعيدة، التى هى – فى هذه الحالة – الرصيد الوحيد المتبقى لهذه ((الأخلاق)) !

        ولقد وقعت أوربا – بتأثير الجاهلية الرومانية المعادة – فى هذين الانحرافين معاً 00 بالتدريج!

* * *

        حين كان المسلمون يتعاملون مع الصليبيين فى الحروب  الصليبية – وخاصة فى عد القائد المسلم صلاح الدين – فيفون بعودهم، ويأبون أن ينقضوا مواثيقهم حتى حين تحصرهم الضرورة وتكون ((المنفعة)) فى نقض هذه المواثيق00 حينئذ كانوا يضربون مثلا للأخلاق ((الحقيقة)) ! فهذه هى الأخلاق فى صورتها الأصلية، المستمدة من منهج الله0

        ((وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء . إن الله لا يحب الخائنين([6]) ))0

        فالميثاق لا ينقض غدراً حتى حين تخاف الخيانة.. وإنما يعلن العدو أن الميثاق قد انتهى بسبب الخيانة من جانبه، ويعلن أن العلاقة هى علاقة الحرب، فلا يؤخذ على غرة – وهو عدو!! – وعدو فى العقيدة .. أغلى ما يملك المؤمنون !!

        وحين كان الصليبيون ينقضون الميثاق الذى ضربوه للمسلمين. ويأخذونهم على غرة. ويقتلون منهم الألوف من الرجال والنساء والأطفال قتلا وحشيا بشعاً لا يطيقه إلا ((ضميره)) أوروبا. ويدخلون عليهم المسجد – وهو الحرم الآمن المقدس .. بيت الله – وهم لاجئون إله بلا سلاح ولا عدة ، فيقتلونهم فى داخل بيت الله حتى تغوص سيقان الخيل الهاجمة فى الدماء.. ثم ترتد الجولة للمسلمين فينتصرون على هؤلاء الصليبيين ذاتهم، فيعاملونهم على نفس المستوى ((الإنسانى)) الذى كانوا يعاملونهم به من قبل .. كانوا يضربون مثلا آخر للأخلاق ((الحقيقية)) القائمة على ركيزة ((إنسانية)) لأنها تستوحى منهج الله وتعيش على هداه0

        ولكن أوروبا الجاهلية المنحرفة عن عبادة الله لم ترتفع إلى هذا المستوى قط فى تاريخها كله .. لأنها لا تستمد الأخلاق من منبعها الرائق الأصيل، وإنما تمزج به – على الدوام، وبنسب متزايدة – مفاهيمها الجاهلية المنحرفة، المستمدة من جاهلية اليونان وجاهلية الرومان .. وعليها مزيد !

        إن الروح الرومانية القديمة التى كانت تتمثل فى القانون الرومانى الشهير، الذى يمنح ((العدالة)) للرومانى فقط! ويحرم منها الآخرين  .. لأنها هى ذات الروح الأنانية التى سيطرت على ((أخلاق)) أوروبا فى جاهليتها الحديثة. فالأخلاق سارية المفعول فى حدود ((القومية)) وحدها. فإذا انتقلت إلى خارجها فقدت رصيدها ودلالتها.. إلا فى حالة واحدة .. حالة المنفعة! وعندئذ يمكن أن تستمر قائمة خارج حدود القومية !

        السياسة أمرها واضح! فالمواثيق تعقد وتوثق.. وفى لحظة غادرة تنقض وتصبح حبرا على ورق، بمجرد أن تلوح ((المصلحة القومية)) فى نقض الميثاق! ويمر الناس بهذا الأمر مستخفين غير مبالين، لأن النظرية الجميلة شىء والتطبيق شىء آخر، بموجب الجاهلية اليونانية الفلسفية!

ولكن السياسة ليست هى المجال الوحيد لهذه ((الأخلاق))!

كان المسلمون فى كل بلد فتحوه يحافظون على ((عقائد)) المخالفين له، ويضعونها تحت حماية الدولة المسلمة وحراستها، ويأبون أن ((يحتالوا)) على الناس ليتركوا دينهم ويدخلوا فى الإسلام.. لأن الله – فى منهجه الربانى – علمهم هذه الأخلاق00

وفى جنوب أفريقيا شركة ملاحة انجليزية يعمل على سفنها بحارة أفريقيون مسلمون.. ولا تطيق الشركة المسيحية أن تراهم مسلمين! لابد من إفسادهم بأية وسيلة! فدأبت على أن تصرف لهم جزءاً من أجورهم زجاجات من الخمر! وهى أغرب ((عملة)) يتعامل بها الناس فى عالم الأجور! والخمر محرمة على المسلمين ، شربها وبيعها سواء ! فكانوا يحطمون هذه الزجاجات، ويفقدون بذلك الجزء الأكبر من أجورهم ويعيشون على الكفاف! ثم أدركهم أحد المسلمين البصيرين بالقانون، فوصاهم أن يرفضوا قبض أجورهم بهذه الصورة التى لا مثيل لها فى أى بقعة على الأرض ويرفعوا على الشركة قضية إذا أصرت على هذا التصرف الغريب.. فما كان من الشركة إلا أن فصلتهم من العمل جميعاً دفعة واحدة! وهذه هى ((الأخلاق)) !

وأهل فرنسا قوم ((ظرفاء)) ((مهذبون)) . للمنفعة! .. فحين يستقبلك أهل باريس بالأدب والظرف و ((الإتيكيت)) ويمنحونك ((عواطفهم)) فكل ذلك لكى ((تنفق)) فى فرنسا أكثر ما تستطيع إنفاقه من النقود! أما إذا لم تصنع 00 !

حدثنى شاب مصرى كان هناك، لا يشرب الخمر ولا يرتاد أماكن الفجور ولا يتقبل ما يعرضه عليه الفندق من دعارة تأتيه حتى غرفته وهو جالس مستريح. فضيق عليه الفندق الخناق لكى ((يتعب)) ويخرج ! ورفع عليه الأسعار !

وحين تتعامل التجارة الدولية بأمانة فائقة ، نادرة المثال، خارج حدود القومية، فهى ليست ((الأخلاق)) وإنما هى ((المنفعة)) ! فالغش يفق السوق، ويفقد الأرباح! والحرص الشديد على الربح يستوجب الأمانة الفائقة فى التعاملات!

على أن هذا التفسير النفعى للأخلاق ليس مقصوراً  على التعامل ((الخارجى)) وحده0 فرويداً رويداً أصبح هو الدافع الأخلاقى داخل القومية ذاتها! فلم يعد الأمر أن الأخلاق انحسرت من نطاقها الإنسانى إلى النطاق القومى، وإنما فقدت حتى داخل هذا النطاق الضيق رصيدها الصادق، وأصبحت منفعة متبادلة بين الناس!

الصدق جميل فى التعامل لأنه نافع فى حدود التنظيم القومى! أنت تصدق وتتوقع من الآخرين أن يكونوا صادقين مثلك. لا لأن الصدق فى ذاته فضيلة، ولكن لأنك وإياهم تكسبون بذلك جميعاً، تكسبون توفير كثير من الجهد وكثير من المال وكثير من الوقت.. يمكن أن توجه إلى كسب مزيد من الربح !

فأما حين يكون الصدق بلا مكسب 00 أو حين يكون الصدق خسارة مادية .. فما قيمته؟ وما الدافع إليه ؟!

حدثنى أحد المصريين الذين عاشوا فى أمريكا 00

كان يتلقى درساً فى اللغة على يد مدرسة خصوصية تعمل فى مدرسة من مدارس الأحد هناك. ولما اطمأنت بينهما العلاقة، وعرفت أنه مسلم متدين. قالت له: إننى أعرف أشياء عن الإسلام تجعله منفراً للناس! إننى أعرف مثلا أن نبيكم محمداً سكر ذات مرة حتى لم يعد يملك خطواته، فوقع على الأرض فعضه خنزير .. ومن أجل ذلك حرم الخمر والخنزير !!

فلما قال لها : إن هذه خرافة لا سند لها من التاريخ، وإن الحقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرب الخمر قط، قالت : أوه .. أشكرك على ما بينت لى من الحقيقة. هل تعلم أننى أدرس هذه الأشياء لتلاميذى فى مدرسة الأحد ؟!

قال : والآن وقد علمت أن ذلك ليس حقيقة .. هل تستمرين فى تلقينه للصغار؟

قالت مسرعة : أوه : هذه مسألة أخرى. إننى أرتزق من تدريس هذه الأشياء!!!

* * *

        ولأن الأخلاق فى الجاهلية الحديثة فقدت رصيدها الخلقى ((الحقيقى)) بتأثير الجاهلية اليونانية والرومانية بعد انفصالها عن معينها الحقيقى الصادق .. لم يكن فى الإمكان أن تثبت للصدمات!

        ولقد فتن الناس بقضية الأخلاق فى الغرب، حين رأوا هذه الأخلاق صامدة راسخة لا تتأثر بفساد السياسة والاقتصاد والفساد الجنسى، وغابت عنهم فى الوقت ذاته دلالة الأنانية والنفعية فى هذه ((الأخلاق)) ، فحسبوا أن الأخلاق يمكن أن تنفصل عن معينها الدينى وتظل حية فاعلة فى واقع الأرض، وأن الأمور التى انفصلت عنها لم تكن من أصولها.. وأنها ستبقى هكذا أبداً، مهما فسدت أمور السياسة والاقتصاد والجنس (أو تطورت أو خضعت للحتمية)) ومهما طغت الروح المادية والنفعية والأنانية على الناس!

        والفتنة كامنة – كما بينا – فى بطء التحلل الخلقى، حتى ليبدو للناس أنه لا يحدث تحلل على الإطلاق 00

        ولكن أحداث ربع القرن الأخير كانت حاسمة الدلالة فى هذا الشأن الخطير !

        ونبدأ بفرنسا 00

        لقد سرى الفساد الأخلاقى فى ميدان الجنس كالسوس ينخر فى داخل العظام 0

        وجاءت الحرب وفرنسا ماخور كبير غارق فى حمأة الجنس المسعور 00

        وحدث ما لابد أن يحدث! انهارت فرنسا فى أيام! لا لأنها لا تملك السلاح – فقد كانت أحدث الأسلحة وأفتكها فى أوروبا كلها، ملك فرنسا! وكانت تحصينات خط ماجينو أشد ما عرف فى ذلك الحين! ولكن لأنها لا تملك ((الروح)) التى تحارب 00 ولا تملك ((الكرامة)) التى تدافع عنها! ولأنها خشيت على مراقص باريس ومواخيرها من قنابل الألمان 00 فسلمت فى أسبوعيين من الزمان!!

        وقال الناس : هذه ظروف ! لا علاقة لها بالأخلاق !!



الرجل الغربي والجنس

صفات الرجل الغربي ناعمه الهاشمي

صفات الرجل الشرقي

الرجل الجنوبي الغربي والجنس

الرجل الجنوبي الغربي والزعل

صفات الرجل الجنوبي الغربي ناعمة الهاشمي

صفات الرجل الجنوبي الشرقي

صفات الرجل الشمالي


        ثم جاء دور أمريكا !

        قرر كنيدى فى تصريحه الخطير سنة 1962 أن مستقبل أمريكا فى خطر. لأن شبابها مائع منحل غارق فى الشهوات، لا يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه. وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين! لأن الشهوات التى غرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية.. و((النفسية))!!

        وحدث ما هو أخطر وأبشع! اضطرت وزارة الخارجية الأمريكية إلى فصل 33 موظفا من موظفيها لأنهم مصابون بالشذوذ الجنسى، ولأنهم – بهذه الصفة- غير مؤتمنين على أسرار الدولة!

        ثم جاء دور انجلترا !

        قضية بروفيمو 00 وتعريض أسرار الدولة العسكرية للخطر لقاء لذة فاجرة يقضيها وزير الحرب مع إحدى العاهرات 00

        ثم جاء دور روسيا !

        صرح خروشوف سنة 1962 – كما صرح كنيدى – بأن مستقبل روسيا فى خطر ! وأن شباب روسيا لا يؤتمن على مستقبلها ، لأنه مائع منحل غارق فى الشهوات !

        ثم جاء دور دول الشمال فى أوروبا – أرقى بلاد العالم !! أرقى بلاد الجاهلية الحديثة!!

        الشباب الشارد 00 الذى يدخن الحشيش والأفيون 00 وينفق طاقته الحية فى هذا الخبل المجنون.. والعصابات التى تتألف للخطف والقتل والاغتصاب الجنسى .. تقلق أمن الدولة، وأمن علماء الاجتماع !

        وذلك كله فى مجال واحد 00 هو مجال الجنس !

        ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد .. ولا يمكن للعجلة المنزلقة فى الطريق المنحدر أن تقف عند حد !

        فى أمريكا عصابات من ((كبار)) المثقفين.. من المحامين والأطباء والكتاب ورجال القانون.. مهمتها .. ماذا ؟!

        ففى الولايات الكاثوليكية لا يباح الطلاق إلا فى جريمة الزنا من أحد الزوجين.. فيحق للزوج الآخر أن يطلب الطلاق 0

        ومن ثم يلجأ الطرف الكاره الذى يطلب الطلاق – سواء هو الزوج أو الزوجة – إلى تأجير واحدة من هذه العصابات، للإيقاع بالطرف الآخر فى جريمة زنا، وضبطه متلبسا، وإعطاء المستندات اللازمة التى تمكن من طلب الطلاق .. لقاء أجر معلوم !

        وفى أمريكا كذلك عصابات لبيع الفتيات! بيعهن!! رقيقا .. على مذبح الشهوات لأثرياء أوروبا الذين يطبون هذا المتاع الدنس ويدفعون فيه الثمن المطلوب !

        هذا فضلاً عن العصابات التى تعمل علنا فى الانتخابات – الديمقراطية !! – لتهديد المعارضين والقضاء عليهم إذا لزم الأمر ! لقاء أجر معلوم!

* * *

        ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد 00


        الجيل الناشئ فى أوروبا يعانى أقصى درجات التحلل والانحدار !

        عصابات للخطف والسلب والنهب والاغتصاب 00

        عصابات – من الأطفال – لمهاجمة القطارات وقذف نوافذها بالأحجار !

        عصابات – من الأطفال – تضع الأحجار على القضبان لتخرج من عليها القطارات!

        عصابات الحشيش والأفيون وبقية المخدرات 00

        ((التزويغ)) من دفع أجرة الركوب 00

        كل ((الرذائل)) التى يمكن أن يتصورها الإنسان!

* * *

        حقيقة إن هذا الفساد لم يصبح بعد صورة شاملة !

        وما تزال فى الجاهلية الغربية فضائل حقيقية بعد هذا الانحدار كله! وفضائل كثيرة! وفضائل متماسكة ! .. فضائل تكفى لأن تعيش الجاهلية الحديثة – إذا شاء الله – جيلا آخر قبل الانهيار!

        ولكن المهم هو دلالة خط السير ! صعود أم هبوط ! خير أم شر ؟!

        لقد حاول الناس فى مبدأ الأمر أن يتجاهلوا النذير . حاولا أن يضحكوا على أنفسهم ويدفنوا رءوسهم فى الرمال، ويقولوا: إن الدنيا بخير! إنه ((التطور)) !

        بل راح قوم – فى سماجة – يتظاهرون بالتعقل و((التثقف!)) وأنهم ((يرتفعون)) إلى مستوى التطور !

        يقول قائلهم : إن الجيل الجديد بخير .. بل هو خير من الجيل الماضى بكثير ! إنه جيل جرئ متفتح متطور يعيش بعقلية ظروفه! إنه لا يجوز لنا أن نحكم على الجيل ((الصاعد)) بعقلية جيلنا نحن المتخلف! إن أخلاقياتنا نحن لا تصلح للحياة فى الظروف الجديدة، والجيل الجديد يصنع أخلاقياته بنفسه، حسب ظروفه، صاعدا.. صاعدا..  إلى ما شاء الله! وإن الذين يتصايحون بأن الجيل الجديد منحل أو منحرف، هم الجامدون المتخلفون الذين عجزوا عن أن يروا الأمور بمنظار الجيل الجديد0

        ثم جاءت الأنباء من عند ((السادة)) أنفسهم ! من أوروبا! من أمريكا !

        جاءت تلجم ألسنة العبيد الذين يتظاهرون بالتعقل والتثقف والارتفاع إلى مستوى التطور!

        جاءت تقول: إن مؤتمرات ((علمية)) تعقد هناك للنظر فى انحراف الشباب، وتقرر – فى جد صرام لا هزل فيه – أن الأمر خطير حقا .. وأن الجيل الناشئ الذى سيتولى غدا قياد الأمر.. جيل منحرف هابط، لا يؤتمن على المستقبل. وأن ((الدول الغربية)) مهددة بالبوار !

        وبصرف النظر عن هذا التفكير اللا إنسانى. الذى لا يفكر فى الأخطار الماثلة لمستقبل ((الإنسان))، وإنما ينظر من داخل الحدود ((القومية)) وبوحى من هذه الروح 00

        بصرف النظر عن هذا التفكير – وهو انحراف ((أخلاقى)) مما تمارسه الجاهلية الحديثة – فإن الدلالة خطيرة إلى أقصى حد 00 إلى حد تهديد البشرية كلها بالزوال !

* * *

        ذلك تاريخ ((الأخلاق)) فى الجاهلية الأوربية الحديثة، الذى ينتشر – بالعدوى – فى بقية بلدان الأرض 00

        إن الأخلاق حين انفصلت عن معينها الأصلى .. حين انفصلت عن العقيدة فى الله .. أو حين تأثرت بانحرافات هذه العقيدة .. لم تستطع أن تصمد .. لم تستطع أن تعيش 00

        فى قرنين اثنين انهارت أخلاق أوروبا .. التى احتاجت فى بنائها إلى عدة قرون!

        وليس يهم أنه ما يزال هناك رصيد كبير من الفضائل فى الجاهلية الحديثة، هو الذى يمكنها من أن تعيش حتى اليوم 00

        إن هذا الرصيد يتضاءل يوماً بعد يوم .. وأخطر ما فيه أن الجيل الناشئ هو الأشد فساداً والأكثر تحللاً .. ومعنى ذلك أن المستقبل يزداد خطورة، لأنه معرض لمزيد من الانحدار 00

        ولم يعد يجدى أن يقال : إن كذا وكذا لا علاقة له بالأخلاق 00 !

        إن خروج السياسة من دائرة الأخلاق، ثم خروج الاقتصاد، ثم خروج الجنس، لم يكن إلا بداية لمزيد من الانزلاق! لا يمكن أن تقف العجلة المنزلقة على المنحدر عند حد معين .. لابد أن تزيد فى الانزلاق !

        وقد حدث بالفعل مزيد من الانزلاق

        وتلك هى الدلالة الخطيرة لسير الأحداث فى هذه الجاهلية المنحرفة عن عبادة الله 0

        لقد وصل الفساد إلى ((العظم))  00

        ولئن كان السوس بطيئاً .. وبطيئاً جداً وهو ينخر فى العظم .. فإنه كذلك خداع! فى لحظة واحدة بنهار العظم المنخور، الذى كان يبدو سليماً قبل لحظات0

        ومع ذلك فما زالت الجاهلية تزعم للناس، ويزعم لها الناس، أنها غنية بالفضائل0 وأنها ذات أخلاق !


[1] راجع شهادة دريبر الأمريكى فى فصل((صفحة من التاريخ)) ص28 من هذا الكتاب0


[2] انتشر هذا المفهوم – بالعدوى – فى الشرق ((الإسلامى))! فتجد أحدهم يقول لك : أنا لا أشرب الخمر.. ثم يسارع فيقول لك كأنه ينفى عن نفسه تهمة كريهة : لست أفعل ذلك عن تدين !! وإنما كراهة فى الشراب !

[3] انظر فصل ((اليهود الثلاثة)) فى كتاب ((التطور والثبات فى حياة البشرية))0

[4] قواعد المنهج فى علم الاجتماع ص165 0

[5] ص 173 0

[6] سورة الأنفال [58]


Previous Post Next Post