الرقابة القضائية
يراد بالقضاء بمعناه الاصطلاحي الفصل بين الناس في الخصومات على سبيل الإلزام، ووجوده في المجتمع يعد ضرورة لإنصاف المظلومين. فحال الناس لا يخلو من ظلم والقضاء هو الوسيلة التي ترد بها الحقوق إلى أصحابها وتصان بها الحريات والأعراض والأموال.[1]
والدولة التي يوجد فيها قضاء مستقل وتلقى أحكامه احترام الكافة لها، من الحكام والمحكومين، توصف بأنها دولة قانونية، حيث يشعر أهلها بأمان واستقرار ويتمتعون بقسط كبير من الحرية الشخصية أما إذا لم تتوافر للقضاء حصانة ولا استقلال، ولم تقابل بالاحترام الواجب  لها فإن هذه الدولة والحال كذلك يمكن وصفها بأنها دولة بوليسية، وئدت على أرضها الحرية.[2] لهذا نجد بأن الكثير من الدول تعارفت على قاعدة ترد بصيغة أو أخرى ومؤداها "أن السلطة القضائية هي الحارس والضامن للحريات الأساسية.[3]
ويتضح دور هذه السلطة في حماية الحريات من خلال إعطاء المواطنين في الدولة حق التقاضي، إذ بإعطائهم هذا الحق يمكنهم إذا تم الاعتداء على حقه، أو إذا أهدرت حرياته أي كان المعتدي عليه فردا أو سلطة، مقاضاة تلك السلطة، أو مقاضاة ذلك الفرد أمام المحاكم المختصة فيحصل على ما فاته من حقوقه وما أهدر من حرياته.
وإذا كان من الممكن تنظيم صور مختلفة لهذه الحماية، كالرقابة البرلمانية والرقابة الإدارية، فإن الرقابة القضائية تبقى الأكثر جدارة في تأمين وتحقيق ضمانة حقيقية للأفراد، فهي تعطيهم سلاحا يستطيعون بمقتضاه الالتجاء إلى جهة مستقلة تتمتع بضمانة حصينة من أجل إلغاء أو تعديل أو التعويض عن الإجراءات الغير القانونية التي تتخذها السلطات العامة، ومن ثم يكون استقلال السلطة القضائية وتمتعها بالضمانات الكافية لصيانة هذا الاستقلال ضروريان لتحقيق رقابة فعالة ومنتجة.[4]
أ- الرقابة الدستورية:
إن ما يميز الدولة القانونية هو خضوعها لأحكام القانون واحترامها لتدرجيتها. وفي ظلها يتأكد سمو الدستور باعتباره القانون الأعلى للدولة بحيث تخضع له جميع سلطات الدولة. ومن مبدأ سمو الدستور، نبعت النظرية المسماة بالرقابة الدستورية على القوانين، وعلى سائر الأعمال التشريعية. وهي نظرية تقوم على التمييز بين طبيعة وقوة ونفوذ المقتضيات الدستورية من جهة، وبين القوانين العادية من جهة ثانية. وبما أن الدستور يعد القانون الأساسي للدولة فلا بد لقوانين الدولة العادية من أن توافق نصه وروحه.[5] وبتعبير آخر، إن المقصود بالرقابة في هذا المقام هي تلك الرقابة المنصبة على ملاحظة الانسجام التشريعي بين قواعد البنية القانونية العادية وقواعد القانون الدستوري، بحيث تكون الأولى غير مخالفة للأخيرة، فإن خالفتها كانت غير مشروعة[6]، أي أن الأصل أن تكون القوانين نابعة من جوهر الدستور ومتطابقة مع نصوصه بحيث تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية.
والجدير بالإشارة هنا، هو الرقابة القضائية على دستورية القوانين لا يمكن تصورها إلا في ظل الدساتير الجامدة والعلة في ذلك، أن هذه الدساتير تستوجب إجراءات مشددة لتعديلها وإجراءات من نوع خاص، أما الدساتير المرنة فإنها لا تتطلب ذلك النوع من الرقابة، أي رقابة دستورية القوانين، لأنه يمكن تعديل قواعدها بنفس الكيفية وبنفس الإجراءات التي تعدل بها البنية القانونية العادية. ومن ثم فلا توجد إلى سلطة واحدة تملك حق تعديل قواعد البنية القانونية المعمول بها في الدولة، ويختفي تبعا لذلك أي تمييز بين أحكامها من حيث الدرجة، أي أنه يختفي التمييز بين التشريع الدستوري والتشريع العادي.
1- الرقابة الوقائية: تكون سابقة على صدور القانون ونفاذه. وتوضيح ذلك أن المجلس الدستوري يتولى فحص دستورية القوانين قبل إصدارها، فإذا تبين للمجلس عدم دستورية القانون المعروض عليه، فإنه يترتب على ذلك عدم إمكان إصداره وتنفيذه. وقد جعل المشرع الدستوري قرارات هذا المجلس غير قابلة للطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن، كما أضفى عليها صفة الإلزام بنسبة لجميع السلطات العامة والإدارية والقضائية.[7]
2- الرقابة القضائية على دستورية القوانين:
إن الأثر القانوني المترتب على الرقابة القضائية على دستورية القوانين هو تبلور صورتين رئيستين لها وهما: رقابة الامتناع ورقابة الإلغاء.
2-1 رقابة الامتناع: وتعني أن يتولى القاضي النظر في القانون ليتحقق من مدى اتساق قواعده مع أحكام الدستور. فإذا ما تبين له الالتقاء والتوافق بينهما عمل على تطبيق القانون على القضية المعروضة أمامه أما إذا كان الوضع على خلاف هذا النحو أي إذا وجد أن القانون غير دستوري فإنه يمتنع عن تطبيقه على القضية المطروحة أمامه. وهذا يعني أن هذه الصورة من الرقابة القضائية لا تحول دون استمرار القانون ونفاذ حكمه في الأحوال الأخرى التي يمكن إعمال بعض أحكامه فيها، بل إن هذه الصورة لا تتنافى مع تطبيق ذات القانون الذي سبق لأحد المحاكم الامتناع عن تطبيق أحكامه في قضية معينة إذا ما عرض ذات النزاع على محكمة أخرى وتطلب الأمر تطبيق نفس القانون.
وإذا كانت الأحكام القضائية التي تصدر في ظل الصورة القضائية تتسم بالنسبية في حجيتها من الناحية النظرية، إلا أن هذه الأحكام قد تكتسب حجية في مواجهة الكافة من الناحية العملية بفضل نظام السوابق القضائية، وما يقوم عليه من التزام ذات المحكمة بمقتضى الحكم الذي أصدرته، وامتداد هذا إلى المحاكم الأخرى التي في نفس درجة المحكمة التي أصدرت الحكم، وإلى المحاكم الأخرى الأقل درجة، ويعد النظام الأمريكي أوضح مثال في هذا الخصوص.[8]
2-2 رقابة الإلغاء: أطلق فقه القانون العام على هذه الصورة رقابة الإلغاء لأنها تمنح القاضي سلطة إبطال القانون المخالف للدستور في مواجهة الكافة عن طريق الدعوى الأصلية أو الفرعية. أي أن هذه الصورة تفترض عرض نزاع أصلي أو فرعي على القاضي، ويتعلق ذلك بنوعيه بالطعن بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه أو المطبق فعلا، فإذا ثبت للقاضي عدم دستوريته أي مخالفته لأحكام الدستور حكم بإلغائه واعتباره كأنه لم يكن من تاريخ صدوره، أو على الأقل إنهاء حياته بالنسبة للمستقبل بحيث لا يمكن التعويل عليه والاستناد إليه.[9]
ب- رقابة المشروعية:
تعتمد الدولة القانونية الحديثة على مبدأ المشروعية، وهو يعني سيادة حكم القانون، أي أن تكون جميع تصرفات الإدارة في حدود القانون، على أن يأخذ القانون هنا بمعناه العام والشامل لجميع القواعد الملزمة في الدولة سواء أكانت مكتوبة أم غير مكتوبة وأيا كان مصدرها مع مراعاة التدرج والتسلسل في ارتباطها وقوتها، ومبدأ المشروعية بهذا المعنى مستقل عن شكل الدولة، فهو يسري على الدولة الديمقراطية كما يسري على الدولة التي تأخذ بأي صورة أخرى من صور الحكم ما دامت تخضع للقانون، أما إذا صودر هذا المبدأ صارت الدولة بوليسية.[10]
وفي نفس الاتجاه العام، فإن المشروعية تعني أن أعمال الهيئات العامة وقراراتها النهائية لا تكون صحيحة ولا مخلفة لآثارها القانونية، كما أنها لا تكون ملزمة للأفراد إلا بقدر مطابقتها لقواعد القانون العليا التي تحكمها، وأن يتمكن الأفراد بوسائل مشروعة من رقابة الدولة في أدائها لوظيفتها، بحيث يمكن أن يردوها إلى جادة الصواب إذا خرجت عن حدود القانون ولا يتأتى ذلك إلا بتحديد الاختصاصات الإدارية، بصورة واضحة لأن هذا التحديد هو الذي سيمكن الأفراد والقضاء من رقابة الإدارة في أداء وظيفتها الإدارية، كما أنه يضع المسؤولية في إطارها السليم.[11]
وهكذا يجب على السلطة التنفيذية في أدائها لوظيفتها الإدارية أن تحترم إرادة المشرع فلا تخرج عن نصوص القانون ولا تتنكر لها أو تعمل على إهمالها بعدم تطبيقها من جانبها أو بعدم زجر المخالفين لها ويترتب على ذلك نتيجة بالغة الأهمية وهي أن كل قرار إداري يصدر عن الإدارة يجب أن يكون مستندا إلى نص قانوني بالمعنى العام. ولما كان هدف مبدأ المشروعية هو الحد من طغيان واستبداد الإدارة وممثليها وإلزامهم حدود القانون في قراراتهم وتصرفاتهم، كان جزاؤهم عن مخالفتهم لهذا المبدأ يتمثل في إجراء الرقابة القضائية على تلك الأعمال باعتبارها الوسيلة الفعالة لحماية مبدأ المشروعية.[12] ذلك أن أعمال الإدارة هي أولى الأعمال بالرقابة القضائية، إذ أنها تمس حقوق الأفراد وحرياتهم خاصة بعد أن تحولت وظائف الدولة من الإطار التقليدي إلى المستوى الاجتماعي – الاقتصادي، مستهدفة من ذلك تحقيق بعض مظاهر العدالة الاجتماعية بين الأفراد. وهناك مجموعة من الأسباب تدعو إلى إعمال الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة، وتتمثل فيما يلي:
* الأعمال المادية، التي تباشرها الإدارة وعمالها وتمتد آثارها إلى الأفراد.
* الأعمال القانونية التي تقوم بها الإدارة سواء أكانت من جانب واحد كالقرارات الإدارية التنظيمية أو الفردية أو من جانبين كالعقود التي تبرمها مع الهيئات العامة والخاصة أو الأفراد.
ويمكن على العموم إجمال حالات عدم المشروعية في ثلاث مجموعات:
* عدم المشروعية التي مردها إلى مخالفة الشكل.
* عدم مشروعية التي مرجعها إلى عدم اختصاص الهيأة التي أصدرت العمل
* عدم المشروعية العادية، وتتضمن:
- العيب في أسباب العمل
- العيب في محل العمل
- العيب في غرض العمل
على أن مبدأ المشروعية ترد عليه بعض الاستثناءات التي تقيد من إطلاقه سواء في الظروف العادية أو الظروف الاستثنائية ويتمثل ذلك في نظرية السلطة التقديرية ونظرية الضرورة والجزاء المفروض من الجهة القضائية المختصة في رقابته على أعمال الإدارة هو الذي يمنعها من ممارسة حكم القوة المادية ومن الاستبداد والتحكم. ويترتب على خروج الإدارة من مبدأ المشروعية بطلان التصرف الذي خالفت به القانون، وهناك مظاهر عدة لهذا البطلان تتفاوت في حجمها وفي آثارها، وفقا لدرجة الانحراف وعليه فقد يكون الجزاء هو إبطال القرار الإداري، أو بطلانه بطلانا مطلقا أو بطلانا نسبيا، بينما يكون في حالات أخرى تعويضا ماليا عن الضرر الحاصل من جراء العمل للمشروعية.[13]

[1] م.س. ص: 356
[2] م.س. ص: 356
[3] م.س. ص: 357
[4] م.س. ص: 85
[5] م.س. ص: 85
[6] م.س. ص: 551
[7] م.س. ص: 553.
[8] م.س. ص: 559
[9] م.س. ص: 559
[10] م.س. ص: 87
[11] م.س. ص: 87
[12] م.س. ص: 87
[13] م.س. ص: 89

Previous Post Next Post