مفهوم الحريات العامة في المذهب الفردي
أولا: المذهب الفردي
يمثل المذهب الفردي في واقع الأمر اتجاها فكريا يقوم أساسا على الإعلاء من شأن الفرد والنظر إليه باعتباره محور النظام السياسي وغايته وقوته  المحركة. ومن الزاوية المقابلة تعتبر الدولة مجرد أداة لخدمة الفرد تتكفل بضمان ممارسة حقوقه وحرياته في أمن وسلام.[1]
ولقد هيمن هذا المذهب على الفكر السياسي في أوربا خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر وعلى مبادئه وأحكامه قامت الديمقراطية التقليدية التي كانت في نظر الشعوب محل تقدير وإعجاب، باعتبارها النظام الوحيد القادر على تخليصها من نير العبودية والاستبداد، وعلى إطلاق حريات الأفراد وتحريرها من القيود التي كانت مكبلة بها، وتأكيدها في كافة المجالات بما في ذلك حرية الفرد في اختيار السلطة المديرة لشؤون الحكم.[2]
ولإلقاء الضوء على هذا المذهب، نتناول من جهة المرجعية الفكرية للمذهب (1) ومدلول الحرية لديه (2)
1- المرجعية الفكرية للمذهب الفردي
إن أول ما ينبغي إدراكه بادئ ذي بدء، هو أنه من الصعب تتبع المنابع الفكرية للمذهب الفردي واستقصاءها، ومرد ذلك، أن المذهب له جذور عميقة في التاريخ بحيث لا يمكن إرجاع ذلك إلى نظرية قال بها مفكر بذاته أو تجربة عاشتها دولة دون أخرى، علاوة على تعدد العوامل والمؤثرات التي تضافرت وساهمت في تكوينه أي أن المذهب الفردي كما يرى البعض لا ينسب إلى فيلسوف معين أو مدرسة معينة، أو إلى حدث بذاته، وإنما هي حصيلة تفاعل عدة عوامل فكرية ومادية أفرزت في خاتمة المطاف، ما يسمى بالمذهب الفردي، الذي أثر تأثيرا واضحا في النظام الديمقراطي التقليدي الذي ارتبط منطقيا وتاريخيا بفكرة الحرية الفردية. وإجمالا يمكن القول بأنه بالرغم من تعدد المرجعية الفكرية للمذهب الفردي؛ فإنه مع ذلك استمد مضمونه من مجموعة الاتجاهات، والمدارس الفكرية، فكان لكل من الفكر المسيحي، ونظريات العقد الاجتماعي ومدرسة الطبيعيين أثر مباشر في تحديد معالمها.[3]
أ- الفكر المسيحي:
كان الفرد قبل ظهور المسيحية خاضعا لسلطان الدولة ذات السيادة المطلقة، حيث كانت تستوعب الفرد في كل شيء، وحتى في ضميره العقائدي، مما أدى إلى ذوبان الفرد في كيان الجماعة، وبذلك لم تعترف له بأية حقوق في مواجهتها، ومن ثم كانت الجماعة السياسية غاية في ذاتها ولذاتها ولا يحد نشاطها أي شيء[4]، فحتى في ظل تجربة الديمقراطية اليونانية التي كانت تقر للأفراد بالحريات السياسية[5]، لم يكن هناك اعتراف حقيقي لهم بحقوق فردية إزاء الجماعة، كالحق في الحرية الشخصية وحرية التملك وحرية العقيدة وحرية المسكن نظرا لكون الفلسفة السائدة في النظام السياسي لدولة المدينة كانت قائمة على أساس أن الدولة هي الغاية وأن الفرد أداة في خدمتها، بحيث كان للدولة أن تتدخل في أخص شؤون الأفراد وأن تصادر أموالهم وحرياتهم دون أن يكون في استطاعة هؤلاء أن يحتجوا بحقوق مكتسبة أو حريات مقدسة.[6]
بيد أنه لما ظهرت المسيحية في واقع طغت فيه المادة وسادت فيه الآثام والخطيئة، وجد الفرد في تعاليمها ضالته المنشودة نظرا لكون المسيحية رفضت الفكرة الرومانية القائلة بأن الدين خاضع للدولة، ورأت في عبادة الإمبراطور ضربا من الوثنية ونوعا كثير من الشرك، لذلك أمرت أتباعها أن يرفضوا الشعائر المخالفة لتعاليم الدين.[7]
وكان الجديد الذي جاءت به المسيحية كما قال "جورج سباين" في كتابه "تطور الفكر السياسي"، كامنا فيما افترضته من وجود طبيعة مزدوجة للإنسان، وكذلك وجود رقابة مزدوجة تشرف على الحياة البشرية وتتلاءم مع هذا الازدواج في الطبيعة والمصير، فالتفرقة بين عالم الروح وعالم الوجود الدنيوي، أو عالم البقاء وعالم الفناء، هي صميم وجهة النظر المسيحية وقوامها ولذلك لم تلبث العلاقة بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية للمسيحي أن خلقت مشكلات جديدة، فكانت معتقداته الدينية الجديدة من شأنها أن تجعل منه خائنا لواجباته السياسية من وجهة نظر الإمبراطورية القديمة كما كانت مثله العليا الإمبراطورية من ناحية أخرى، وهي المثل التي طالما اعتنقها من قبل، خليقة بأن تجعل منه من وجهة النظر المسيحية الصرفة وثنيا بغير دين، فكان الوثني يعتبر أن أرفع واجباته الخلقية والدينية إنما تنبع وتصب في الدولة ممثلة في شخص الإمبراطور؛ ومن ثم كان شخص الإمبراطور هو مصدر السلطة الدنيوية العليا من ناحية والقداسة الإلهية من ناحية أخرى في نفس الوقت، أما بالنسبة للمسيحي فإن واجباته الدينية كانت هي التزاماته العليا يدين بها لله، ولله مباشرة، فإقحام سلطة أرضية نفسها في هذه العلاقة بين الإنسان وخالقه أمر لا يستطيع مسيحي من حيث المبدأ أن يجيزه، ويترتب على ذلك وعلى ضوء هذا الفكر الجديد، أن المراسيم الرسمية التي تتطلب من الرعايا أن يرفعوا إلى الإمبراطور فروض التشريف والتمجيد الدينية كانت تتنافى مع المبادئ المسيحية، ومن ثم كان على المسيحي أن يرفض القيام بها.
وبمناداة المسيحية بحرية العقيدة وبمبدأ ازدواجية السلطة، تكون بذلك قد وضعت اللبنة الأولى في إرساء صرح المذهب الفردي، إذ ترتب من تعاليم المسيحية حرمان السلطة الحاكمة من التدخل في كل ما يتعلق بحرية العقيدة، مرخص لها فقط بالإشراف على الجانب الزمني أو الدنيوي إعمالا لقول المسيح "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله،" وقوله أيضا " مملكتي ليست من هذا العالم، طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله". منا هنا رسمت حدودا فاصلة بينما ما هو ديني، وما هو دنيوي من أجل تنظيم المجتمع الإنساني على أسس واضحة، وخاصة فيما يتعلق بالروابط بين الفرد والسلطة.[8]
ومع سيادة المسيحية ترسخت بعض المبادئ التي ركزت عليها الكنيسة في سياستها مع السلطة الزمنية، تمثلت فيما يلي:
* إن الحرية لم تكن منحة من السلطة الزمنية، بل هي خاصية متصلة بجوهر الإنسان، والحرية في هذا المعنى لا تقف مع أي نظام سياسي أو اجتماعي لا يقر بحرمتها واستقلالها، لأن الحرية ناتجة عن المشيئة الإلهية التي خلقت الإنسان حرا كريما
* إن الجماعات البشرية لم يخلقها الله لخدمة نفسها، وإنما لمنفعة الإنسان، وأن للسلطات الزمنية واجبات نحو الإنسان، قبل أن تتمتع إزاؤه بحقوق.
وعلى هذا الأساس قامت المسيحية بتحرير الفرد المؤمن من سلطات الحاكم الزمني تقريرا لحرية العقيدة، وحرية الفكر أما من الناحية السياسية، فالنتيجة كانت حاسمة، حيث تم التفريق بين الإنسان الذي يتمتع بحقوق إنسانية، وبين المواطن الخاضع لسلطة الحاكمين الزمنية، لأن الحياة الاجتماعية والسياسية هي مظهر للحياة الأرضية بقواعدها وقيمها ولذلك فهي لا تشترك مع الحياة الروحية في شيء، ومن ثم وجب على الإنسان دفع الضريبة فهي الرمز الأبدي على ولائه المدني نحو السلطة الزمنية
وتبعا لذلك فالقانون هو الآخر، يختلف من خلال السلطة التي تصدره ومن خلال نوع العقوبة التي يقررها، فالقانون المقدس عقوبته الحرمان من الدخول إلى الجنة، وهي عقوبة مكانها الآخرة، أما عقوبة القانون البشري فهي دنيوية.
إن التأثير الكبير الذي مارسته المسيحية إذن، هو أنها ساهمت في منع السلطة من التدخل في كل ما يتعلق بحرية الديانة أو الحرية الشخصية للأفراد، وبالتالي في تحديد مجالات السلطة بما لا يتنافى مع هذه الحريات.[9]
الشرعية، إذ يبدل الاغتصاب بحق حقيقي والانتفاع بالملكية.[10]
ويميز "روسو" بين ثلاثة أنواع من الحريات:
* الحرية الطبيعية، وهي سلبية برأيه، لأن أقصى ما تحققه هو عدم خضوع فرد لإرادة فرد آخر في حالة الطبيعة.
* الحرية المدنية، ويحصل عليها الفرد بعد انتقاله إلى المجتمع المنظم حيث يعيش في ظل قوانين يصوغها بنفسه.
* الحرية الأخلاقية أو الإيجابية، وتعني التزام الفرد بواجبات المواطن، أي التصرف بمحض إرادته من أجل تحقيق الخير المشترك.[11]
د- فلسفة عصر الأنوار:
يتفق معظم الباحثين على القول بأن عصر التنوير يشكل منعطفا تاريخيا حاسما في تاريخ الحضارة الأوروبية، ففيه تشكلت المبادئ والأسس التي لا يزال تتحكم بالغرب منذ مائتي سنة وحتى اليوم.[12] ففي القرن الثامن عشر، عرفت أوروبا بداية "الثروة الصناعية" التي حملت معها تطورا في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؛ وهو ما أثر على تطور النقاش الفكري على المستويين السياسي والفلسفي، بحيث طغى هذا النقاش على مجمل الحياة الفكرية في القارة الأوربية، وخاصة في فرنسا وإنجلترا.[13]
وكان من نتائج هذا النقاش حدوث ثورة ثقافية تمخض عنها خلق جيل جديد من المفكرين والفلاسفة، أخذ ينتقد بقوة وحدة المؤسسات القائمة مع الإيمان بالقدرة على خلق مجتمع أفضل، وقد اتسمت هذه العقلية الجديدة بالسعي نحو التقدم نتيجة الاكتشافات العلمية الكبرى التي عززت الثقة بقدرات الفكري البشري على الخلق والتنظيم، ومن هنا اعتقد الكل أن القرن الثامن عشر، شكل مرحلة لإعادة اكتشاف الإنسان ووجوده، بل واعتباره محورا للكون ومن ثم برزت الشعارات الكبرى كالتقدم والإنسان والحرية.[14]
يقول "دالمبير" موضحا ما حدث من خلال هذه المرحلة ما يلي: "لقد حصل تغير هائل في أفكارنا، وسرعة هذا التغير تعد بالمزيد منه لاحقا لقد حصلت ثورة فكرية حقيقية ولن تستطيع إلا الأجيال اللاحقة أن تقيس حجمها وأبعادها، أو إيجابها وسلبياتها، فنحن لا نزال غاطسين فيها، وبالتالي فغير قادرين على رؤية كل ملابساتها، وتنقصنا المسافة الزمنية الكافية لذلك"[15]
وكان من أبرز كتاب عصر "الأنوار" "مونتسكيو" و"فولتير" اللذان تناولا في مؤلفاتهما العديد من المسائل السياسية والقانونية التي تركز على أفضل السبل الكفيلة بتطوير المجتمع من أجل تحقيق سعادة الإنسان.
1- مونتسكيو وروح القوانين
كان الهاجس الأول "لمونتسكيو" والذي تجلى بشكل واضح في كتابه "روح القوانين" هو تعيين نسق قانوني لتحقيق الحد الأقصى من الحرية. ويبدأ في "روح القوانين" بمناقشة حول القوانين بشكل عام، أو العلاقات الضرورية النابعة من طبيعة الأشياء.
ويعرف "مونتسكيو" القوانين، في صياغته الافتتاحية الشهيرة، بالمعنى الأكثر شمولا، بأنها العلاقات الضرورية المستمدة من طبيعة الأشياء، إن القوانين علاقات، لأنها توجد بصورة موضوعية وبالضرورة، وهي تحكم سلوك كل الأشياء، أي تأثير الله في العالم وتأثير الأجسام في بعضها البعض، وهكذا وهذه المشروعية الكلية هي الخلفية التي يجب أن يرى في مقابلها القانون البشري[16]، أي أن القوانين الطبيعية للسلوك الإنساني هي التي تحدد حاجات الإنسان الملحة، وهي التي ترسم الحدود والأهداف وكذلك المعايير الأساسية لوجودنا.[17]
وينظر "مونتسكيو" إلى الديمقراطية باعتبارها الوسيلة التي من خاصيتها الأكثر جاذبية هي العظمة الأخلاقية لمواطنيها وكفالة درجة عليا من الحرية والأمن في ظل القانون، وعلى هذا الأساس فالحرية عنده تقوم أساسا على الأمن لأنه المكسب الوحيد الذي يمتاز به شعب حر على آخر.[18]
ويعتبر "مونتسكيو" من أكبر الدعاة إلى تعميم مبادئ الدستور الإنجليزي، وهذا لأن "إنجلترا" الحديثة في نظره؛ هي البلد الوحيد الذي تكون فيه الحرية هدفا مباشرا لقوانينه، والحرية هي، إذا تحدثنا من الناحية السياسية، الحق في فعل ما تسمح به القوانين ولها جانبان، هما: دستور متوازن وإحساس المواطن بالأمن المشروع أو القانوني. ويبقى مطلبها الأول هو فصل سلطات الحكومة الثلاث، أعني السلطة التشريعية والتنفيذية، والقضائية، حتى تبقى في أيدي مختلفة فإذا اجتمعت اثنتان أو كلها في نفس الأيدي، فإن السلطة تكون متمركزة بصورة كبيرة، وتضبط بصورة غير كافية[19]، مما قد يكون معها مصير الحرية التلاشي أو الزوال.[20]
وتتطلب الحرية السياسية في علاقتها بالدستور لا أن تكون السلطات الثلاث منفصلة فحسب، بل تتطلب أيضا أن تتكون بطريقة معينة، فالسلطة القضائية يجب أن تعطى لمحلفين خاصين يتكونون من نظراء المدعى عليه، مع أحكام محددة بصورة دقيقة بقدر الإمكان عن طريق قانون مكتوب. ولا بد أن تقسم السلطة التشريعية بحيث يؤول دورها إلى ممثلين حقيقيين عن الشعب كله. وينبغي أن يؤلف أولئك الذين يتميزون عن طريق الميلاد والثروة، أو درجات الشرف طائفة النبلاء الذين يحمون امتيازاتهم الموروثة من حيث أنهم يمثلون النصف الثاني من المجلس التشريعي ولا بد أن يكون المنفذ ملكا تتكون مراقبته للمجلس التشريعي من سلطة حق الفيتو (الرفض)، ويستطيع المجلس التشريعي بدوره أن يقوم باختيار وزرائه (وزراء الملك)، ومعاقبتهم على الرغم من أنه هو نفسه لا يمكن عزله بصورة مشروعة أو قانونية.[21]
وينظر "مونتسكيو" إلى بلاد "الإنجليز" الموصوفة هكذا بأنها ليست حرة فحسب، وإنما هي أكثر عدالة في بعض النواحي من الجمهوريات القديمة، فميزتها الأولى هي الفصل الواضح الحاسم بين السلطات، وآلية الضبط المتمثلة في فرعي التشريع والتنفيذ، وميزتها الثانية هي أنها تمثل الرأي العام عن طريق فرع واحد من المجلس التشريعي الذي يستطيع بالتالي، أم ينتقل إلى مناقشة المسائل التشريعية، ويكف عن إصدار القرارات التنفيذية على نحو كان مستحيلا في دولة المدينة القديمة.
وقصارى القول أن الحرية في نظر "مونتسكيو" ستحقق حينما تقوم السلطات في الدولة بمعارضة بعضها البعض، وأن إحساس كل شخص بالمصلحة الذاتية يدعم حبه للحرية ويدعم وطنيته، هذا زيادة على اعتقاده أن الدولة ملزمة في إطار فصل السلطات، بتأمين المعيشة لكل المواطنين من ملبس ومأكل وصحة، وعليها أن تحارب الفقر، وقد خلفت أفكاره هذه تأثيرا قويا على الجماهير ومهدت فكريا لقيام الثورة الفرنسية عام 1789[22]
2- فولتير:
يعكس "فولتير" في كتاباته تلك الحركة التحررية التي تميز بها عصر التنوير، والتي حاولت أساسا تحرير العقل الإنساني من التطير وبشكل خاص من الأحكام المسبقة والخرافات الدينية، واستخدام هذا العقل المتحرر في الإصلاحات السياسية والاجتماعية. وهكذا نجد في كتاباته "الرسائل الفلسفية" و"المعجم الفلسفي" و"تعليقات على روح الشرائع" و"رسالة عن التسامح"، مسائل أساسية تتناول الدين والسلطة والثروة والملكية والإصلاحات الهادفة إلى ضمان حريات الإنسان وصيانة حقوقه، وقد هاجم بخصوص الدين، الخرافات والتعصب؛ وكان عداؤه لرجال الدين شديد جدا؛ بيد أنه لا يصل إلى درجة الإلحاد الواضح، حيث أنه يقر بأنه يجب أن يكون للمرء دين وأن لا يصدق الكهنة، ويعترف بأن لديه أرضية دينية أصلية تنطلق من الإيمان بالله الذي يحس به الفكر لا القلب.[23] ويقول نعم أنا مؤمن إذا كان المقصود بهذه الكلمة الإيمان بإله خالق للكون، أو المهندس الأكبر للكون بحسب تعبير "فولتير" شخصيا.
نعم إذا كان المقصود بها الإيمان بالله الذي يعاقب الشرير ويكافئ الإنسان الطيب، ويقيم الحق والعدل في الكون كله. لا إذا كان المقصود بها الإيمان بدين محدد بعينه بكل عقائده وطقوسه، ثم التعصب له ورفض كل ما عداه رفضا قاطعا حتى من دون تفحص أو تفكير.[24]
ولقد امتدح "فولتير" بقوة نظام الحكم "الإنجليزي" القائم على النظام الملكي الدستوري. هذا النظام الذي يؤمن التسامح الديني لمواطنيه، أي يؤمن التعددية المذهبية والعقائدية ولا يفرض عليهم مذهبا واحدا بالقوة. كما يؤمن لهم حكم القانون الذي يمنع الحاكم من ممارسة التعسف الاعتباطي على المحكومين.[25] وطالب بسلطة قوية مركزية من أجل تأسيس الحرية. وأكد على أن المظالم التي يتعرض لها الناس ليست من صنع الحكومة، وإنما من صنع الهيئات الحاكمة باسمها، مثل القضاة والنبلاء وغيرهم.
وعليه، فعندما ينادي بالإصلاحات، فإن هذه الأخيرة يجب أن تكون إدارية ومدنية؛ وأن توجه لخدمة حريات الإنسان وحقوقه؛ مثل منع التوقيف التعسفي، وإلغاء التعذيب، وعقوبة الإعدام، وضمان حرية الفكر والتعبير، ووحدة التشريع، وتناسب العقوبة مع الجريمة، وإلغاء بعض الحقوق الإقطاعية.[26]
إن حريات الإنسان الحقيقية، هي حريته الكاملة في شخصيته وأملاكه، ومخاطبة الأمة بواسطة قلمه، وألا يحاكم إلا من قبل هيئة قضائية مكونة من أشخاص مستقلين، وألا يصدر عليه أي حكم إلا بحسب النصوص الدقيقة للقانون، وأن يمارس بسلام الدين الذي يشاء.
إن مشكلة الحرية ليست في نظر "فولتير" نظرية فقط، وإنما هي قبل كل شيء عملية، فإن تكون حرا يعني أن تعرف حقوق الإنسان، وأن تعرف هذه الحقوق يعني أن تدافع عنها، من هنا فإن حرية الفكر والكتابة، أي وسائل الدفاع عن هذه الحقوق هي أولى هذه الحريات وأن أول مرحلة في عملية تحرير الإنسان يجب أن تقتصر على اعتبار هذه الحقوق ثابتة وغير قابلة للتنازل.[27]
3- جون ستيورات ميل
ينظر "جون ستيورات ميل" إلى الحرية باعتبارها شرط التقدم بالنسبة للمجتمعات المعاصرة؛ وأنها يجب أن تكون الحكم النهائي والوحيد فيما يقوم به من أعمال، يقول في كتابه عن الحرية "إن موضوع هذه المقالة هو الحرية، الاجتماعية والمدنية، وكذلك عن السلطة وطبيعتها، وما يمكن أن تفرضه على المجتمع والفرد في حدود القانون. ويبين "ميل" في هذا السياق الفرق بين الحاكمين والمحكومين، لأن الحكام في تصوره لا يمثلون كل الشعب بل يمثلون الأغلبية ليس إلا، فالحكومة لا يمكن أن تكون ممثلة للشعب تماما، ولذا فهي إذا منحت سلطة غير محدودة، فمن الجائز أن تقضي على الحريات التي ناضل الشعب من أجلها؛ ولذلك ناضل "ميل" من أجل الحد من تغول الدولة اتجاه الأفراد".[28]
وعليه فمن اللازم على الدولة أن تقف عند حدود معلومة، وإذا ما تجاوزتها، فإن الحرية ستتحول من مفهوم يعبر عن واقع إلى كلمة فارغة. كما يرى أن الدولة الديمقراطية الصناعية تتجه في هذا الاتجاه، ويقول في ذلك "إذا كانت الطرق والسكك والبنوك ودور التأمين والشركات والجامعات والجمعيات المحلية نابعة كلها لإدارة الحكومة، وإذا ما أصبحت البلديات والجماعات المحلية مع ما يترتب عنها اليوم من مسؤوليات أقساما متفرعة عن الإدارة المركزية... إذا حصل كل هذا، حينئذ تصبح الحرية اسما بلا مسمى، رغم المحافظة على حرية الصحافة وعلى انتخاب المجلس التشريعي بالاقتراع العام.[29]
ويعتقد "ميل" أن ما هو مطلوب على هذا المستوى هو مبدأ عملي يحدد مساحة الحرية الفردية بدرجة لا تمنع الحكومة من مواجهة التزامها بأن تطور المجتمع. ويرسي "ميل" هذا المبدأ في نظريته الأخلاقية: فالشيء الوحيد للقيمة القصوى هو سعادة الأفراد، ويستطيع الأفراد أن يحققوا سعادتهم بصورة أفضل في مجتمع متحضر عندما يشعرون بأنهم أحرار في أن يتعقبوا مصالحهم الخاصة بمواهبهم الخاصة كما يفهمونها في ظل نظام كاف من التربية ويمكن وراء ذلك كله افتراض القيمة القصوى للفردية، أعني القيمة القصوى للتطور الفردي بالنسبة للفرد نفسه وبالنسبة للتقدم المستقبلي للمجتمع، بالنسبة للفرد حالما تتحقق شروط التطور الحر، أعني الحضارة والحكومة النيابية؛ وبالنسبة للمجتمع لأن تقدم الحضارة يعتمد على المساهمات التي لا يقوم بها إلا الأفراد الذين يفكرون لأنفسهم.[30]
ويرى "ميل" في عملية ضبط النفس من جانب الأفراد في المجتمع الشرط الذي وفقا له يستطيع المجتمع أن يتقدم نحو هذا الهدف، ويتطلب ضبط النفس أن يمتنع كل فرد، ومجموعة الأفراد والحكومة وجمهور الناس عن معارضة فكر أي فرد من الأفراد، أو تعبيره، وفعله، وهذا هو المبدأ الأساسي للحرية.[31]
غير أنه للحد من إطلاقية هذا الحكم أو هذا المبدأ الذي قد يجعل الحكومة والمجتمع المنظم مستحيلين، يقوم "ميل" بإقرار نوع من التقييد، في تطبيقها العملي، وذلك من خلال إدراكه أنه بينما يجب أن يكون التفكير حرا بصورة مطلقة، فإن حرية فعل الفرد لا بد أن تكون مقيدة من أجل أمن المجتمع.
ويبرهن "ميل" أن الفرد ينتمي إلى نفسه، ولا يخضع لضبط اجتماعي إلا من أجل منعه من أن يلحق الضرر والأذى بالآخرين إن الفرد صاحب سيادة على نفسه، والمجتمع صاحب سيادة على أفعال الفرد التي تعتدي على الآخرين وأفكار الفرد جزء منه، وبالتالي يتطلب المبدأ أن لا يتحكم المجتمع فيها؛ وبالتالي لا يستطيع أحد بصورة مشروعة أن يطالب بحق كبت أي رأي، لأن المجتمع يكسب كل شيء ولا يخسر شيئا بتمكين الفرد من حرية التعبير والمناقشة، وقد يكون رأي مقزز، ويثير الاحتجاج، صحيحا، وفي هذه الحالة يمكن أن تتعلم البشرية شيئا من وجهة النظر المتمردة ويصدق ذلك حتى إذا كانت صادقة من بعض الوجوه وزائفة من بعض الوجوه. وحتى إذا كان الرأي المتمرد زائفا تماما، فإن المجتمع سيكسب بالسماح بالتعبير عنه.[32]
أما بالنسبة للحريات الضرورية للفرد فهي ثلاثة أقسام:
1- حرية الضمير: وتشمل حرية العقيدة والتفكير وإبداء الرأي في الموضوعات المختلفة.
2- حرية الذوق والعمل: وتشمل تكييف حياة الفرد لتلاءم شخصيته بينما تعني حرية العمل المطلقة في حدود عدم الإضرار بالآخرين.

[1] م س ص: 9
[2] مصطفى قلوش: م س ص: 9
[3] م س ص: 73
[4] حماد صابر م س ص: 9
[5] أحمد البخاري، أميمة جبران م س ص: 67
[6] م س ص: 12
[7] ن م ص: 13
[8] خضر خضر م س ص: 46
[9] حماد صابر م.س. ص: 10
[10] مصطفى قلوش: م س ص: 37
[11] خضر خضر م س ص: 75
[12] هاشم صالح: مدخل إلى التنوير الأوروبي دار الطليعة الطبعة الأولى 2005 ص 144
[13] خضر خضر: م س ص: 76
[14] حماد صابر: م س ص: 17
[15] هاشم صالح: م س ص: 145
[16] ليوشتراوس جوزيف كروبسي: ترجمة محمد سيد أحمد تاريخ الفلسفة السياسية من جون لوك إلى هيدجر: الجزء الثاني نشر المجلس الأعلى للثقافة طبعة أولى 2005 ص 72
[17] خضر خضر م س ص: 77
[18] حماد صابر م س ص: 17
[19] ليوشتراوس جوزيف كروبسي: م س ص: 85
[20] خضر خضر م س ص: 79
[21] م س ص: 86
[22] حماد صابر  م س ص 18
[23] م س ص: 80
[24] هاشم صالح: مدخل إلى التنوير الأوربي م س ص: 224
[25] م س. ص: 229
[26] م س ص: 81
[27] م س ص: 81
[28] عبد الله العروي مفهوم الحرية م س ص: 39 - 41
[29] م س ص: 20
[30] ليوشتراوس جوزيف كروبسي: م س ص: 460 - 461
[31] م س ص: 461
[32] م س ص: 462

Previous Post Next Post