الحق والواجب والمسؤولية



ما العلاقة بين الحق والواجب
الفرق بين الحق والواجب
تعريف الحق والواجب لغة واصطلاحا
ما العلاقة بين الحق والواجب المستوى الخامس
الفرق بين الحقوق والواجبات
الحق والواجب في الفلسفة
ما الفرق بين الحقوق والواجبات للصف الخامس
الحق والواجب متلازمان


إن كل من ( الحق، الواجب، والمسؤولية ) أمور ترتبط ببعضها ارتباطا توافقيا وترتيبيا، فالحق وفقا لتقسيماته يرتبط بالواجب باعتبار أن قيمته لا تتحقق إلا إذا كان هناك تكليف يقع على الجميع بعدم انتهاكه والاعتداء عليه، ومالم تترتب المسؤولية على انتهاك الحق أو عدم الالتزام بالواجب والتقصير فيه، فإنه لا قيمة عملية ما دام هذا الحق لم يسبغ عليه القانون الحماية المطلوبة.

·                  الحـق وتقسيماته: إن الحق هو الثابت الذي لا يجوز إنكاره، وهو من أسماء الله الحسنى، أما في الاصطلاح الفقهي فلم يتحدث الفقهاء السابقون عن تعريف جامع مانع له، وإنما فعل ذلك الفقهاء المحدثون، ومنهم مصطفى أحمد الزرقاء، والذي عرف الحق بأنه اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا.[1]
وأضاف عليه الدريني في تعريف آخر بعد أن قرر المفاهيم التي وضعها الزرقاء في تعريفه بأن الحق يكون تقريرا لمصلحة معينة، وذلك ليظهر الغاية من الحق. [2]
إن الحق وفق تقسيماته عند الفقهاء القدامى لم يخرج عن التقسيم الثنائي المعتاد:
·                  حق الله المتعلق بأمره ونهيه.
·                  حق العبد وهي مصالحه.[3]
ووفقا لهذا التقسيم فإن حقوق الله تعالى يعني أنها لا تقبل الإسقاط لا من الأفراد ولا من الجماعة، وتعتبر العقوبة حقا لله تعالى في الشريعة كلما استوجبتها المصلحة العامة، وهي دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم، وكل جريمة يرجع فسادها إلى العامة، وتعود منفعة عقوبتها عليهم  تعتبر العقوبة المقررة عليها حقا لله تعالى تأكيدا لتحصيل المنفعة، وتحقيقا لدفع الفساد والمضرة؛ إذ اعتبار العقوبة حقا لله تعالى يؤدي إلى عدم إسقاط العقوبة بإسقاط الأفراد أو الجماعة لها.
أما حقوق العباد فمنها ما يقع من جرائم القصاص والدية، وهي الجرائم التي يعاقب عليها بقصاص أو دية، وكل من القصاص والدية عقوبة مقدرة حقا للأفراد، ومعنى أنها مقدرة لذلك أنها ذات حد واحد، فليس لها حد أعلى وحد أدنى تتراوح بينهما، ومعنى أنها حق للأفراد أن المجني عليه له أن يعفو عنها إذا شاء، فإذا عفا أسقط العفو العقوبة المعفو عنها.[4]
على أن الناظر في استعمالات الفقهاء لهذا المصطلح يجد أنها مختلفة، وسياق الكلام هو الذي يحددها.[5] قال بن عبد السلام: ( إن الحقوق كلها إما فعل الحسنات، وإما الكف عن السيئات ).[6]
إن اكتساب الحق لسمة الإلهية ليكون حقا من حقوق الله إنما يتقرر كما ذكرت نقلا عن عبد القادر عودة بما استوجبته المصلحة العامة بدفع الفساد عن الناس وصيانة السلامة لهم، وهي حقوق تسمى في منظور القانون اليوم بحقوق الشعب، حيث ينوب جهاز النيابة في دفاعه عن هذه الحقوق التي قررت لها عقوبات لم تستمد من الكتاب والسنة، وهي لا تقبل التنازل على أساس أنها حقوق للعامة التي تنوب عنهم النيابة العامة، فهي لا تقبل التنازل، وذلك على العكس من الحقوق الشخصية أو حقوق الناس، وهي تقوم على الشكوى، وبتنازل مقدمها عنها خلال فترة معينة يسقط حق المطالبة بها، فهي حقوق تقبل التنازل.
وإذا كان التقسيم السابق هو تقسيم يقع ضمن اصطلاحات الفقهاء باعتباره حقا إلهيا وحقا إنسانيا، وأن الحق إنما يعد قيمة مادية متى ما حقق مصلحة شرعية تقررها النصوص. فإن وضع تعريف للحق كمفهوم قانوني كان محل جدل فقهي واسع قامت من أجله نظريات متعددة ينتقد بعضها البعض الآخر في قصوره عن إعطاء تعريف جامع مانع للحق يغطي جميع وجوه استعمالاته في الحياة الإنسانية التي هي محل تدخل قانوني، خاصة في المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية، وجزء من المجالات الاجتماعية.[7]
ويرى صفاء الدين في كتابه ( حق الإنسان في التنمية الاقتصادية وحمايته دوليا ) بأن أقرب تعريف للحق من حيث جوهره هو ما ذهب إليه الدكتور عبد المنعم فرج الصده، حيث يرى بأن الحق هو ثبوت قيمة معينة لشخص بمقتضى القانون.[8]، وبذلك فإن الحق يشمل ماله قيمة مادية أو أدبية أو معنوية مما لا تقدر بمال .
ويرى دابان – صاحب النظرية الحديثة في الحق – بأن الحق هو استئثار بشيء أو بقيمة استئثارا يحميه القانون، ولا يكون للإرادة دور في إثباته، وتتمثل الحماية القانونية له بمنع الاعتداء وضرورة احترام الغير لهذا الحق.[9]
وأيا ما كان الحق طبيعي يقع الاستئثار به لكل إنسان، وهو ما يطلق عليه الحق الفطري الذي يستقر به الاستئثار لكل إنسان منذ ولادته، أو كان حقا مكتسبا تتحقق فيه الفروقات الفردية بين إنسان وآخر، فإن كلا الحقين يسبغ عليهما القانون الحماية القانونية.
وبناء على كلا التقسيمين – التقسيم الشرعي والتقسيم القانوني – فإن معايير كل منهما تختلف عن الآخر ، فقد يكون حق الله طبيعيا ومكتسبا؛ ذلك أن معيار حقوق الله تعالى يتمثل في تحقيقها للمصلحة العامة، وكذلك قد تكون حقوق الناس طبيعية أو مكتسبة؛ ذلك أن معيارها هو  حماية المصلحة الخاصة البحتة. وبالمقابل قد يكون الحق الطبيعي أو الفطري حقا لله إذا كانت حمايته تحقق مصلحة عامة، وقد يكون حقا للناس إذا كان يحقق مصلحة خاصة، كما أن الحق المكتسب قد يكون حقا لله، وقد يكون حقا يحمي القانون المصلحة الخاصة التي يقررها.
وقد ذكر إبراهيم المرزوقي نقلا عن السنهوري بأن كل ما لا يحرمه الشرع أو القانون يمكن أن يشكّل حقا؛ وذلك لأن الأصل في الأمور هو الإباحة شرعا. [10]
ويقرر محمود أبو زيد بأن قانون الطبيعة الذي هو أساس كل القوانين الوضعية هو الذي يحدد الحقوق الطبيعية للأفراد، ونطاق هذه الحدود ومداها، كما أنه هو أيضا يسبغ عليها ما تتصف به من أهمية أو اعتبار. [11]
وأيا ما كان مصدر هذا القانون، وهو ما يتقرر به تحديد الحقوق المستأثرة التي يتعين على القانون حمايتها سواء أكانت حقا لله أو للناس، حقا طبيعيا أو  مكتسبا، فإن ذلك جميعه مرتبط بالمصلحة التي يحددها الشارع الحكيم، أو تتقرر برؤية الإنسان مناقضة بذلك تحديد الشارع الحكيم، أو ضمن أطر تخرج عن الحدود التي قرر فيها الشارع الحكيم العناصر المحمية وضوابطها ووسائلها وغاياتها.

·                  الواجب وأقسامه: إذا كان القانون يقرر الحق، فإن  مثل هذا الحق لا تكون له قيمة عملية إلا إذا فرض على سائر المكلفين به احترامه، وهذا الاحترام الذي يفرض على سائر المكلفين به يكون واجبا يقع على كاهلهم، وهو واجب قانوني يفرضه القانون بحيث إذا لم يقم المكلفون به أجبرهم القانون على ذلك.
ثم إن الواجب الذي يقع على عاتق الغير قد يكون واجبا عاما وقد يكون واجبا خاصا، والواجب العام هو ما يقع غلى عاتق الكافة عدا صاحب الحق نفسه، وذلك بأن يلزمهم بعدم التعرض له في مباشرة حقه، حيث أن الواجب الذي يقع على الغير في هذه الحالة واجب سلبي دائما يتمثل في الامتناع عن التعرض أو الاعتداء على هذا الحق واحترامه، ومنه حق الملكية، وهذا الواجب ينشأ من الخضوع لقاعدة القانون العامة التي تقضي باحترام حقوق الآخرين.
وعلاوة على الواجب الذي يقع على عاتق الكافة، فإن بعض الحقوق يقع بسببها واجب خاص يقع على عاتق شخص معين أو أشخاص معينين، وهذا الواجب لا يتطلب ممن يجب عليه الامتناع من الاعتداء على حق الغير فحسب، بل يتطلب منه أن يمكّن صاحب الحق من اقتضاء حقه، وقد يستلزم ذلك منه أن يقوم بعمل أو يمتنع.، ومثاله الالتزام بواجب العمل مع شخـص ما، مع الالتـزام في ذات الوقـت بعدم العمل مـع آخر.[12]

·                  المسؤولية وارتباطاتها: إن المسؤولية صفة تتحقق في الذات متى ما قامت هذه الذات بانتهاك حق أو عدم الالتزام بواجب أو التقصير فيه، وهي لا تتحقق – أي المسؤولية – مالم تكون مرتبطة بجزاء يترتب ثبوتها عليه.
>
وقد ذكر علي وافي بأن ظواهر المسؤولية والجزاء تبدو في صور كثيرة تتصل كل صورة منها بناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، وترتبط بمجموعة من النظم التي تسير عليها الحياة.
فمن هذه الظواهر قسم يتصل بالقوانين الوضعية للأمة، والتي تشرف عليها الهيئات التي ينشئها المجتمع لحماية هذه القوانين وتطبيق ما تقرره، وينتظم هذا القسم مع جميع المسؤوليات المنحدرة من الدستور وقانون العقوبات وما إلى ذلك. ومنها كذلك قسم يتصل بالنظم الدينية للأمة، والذي تشرف عليه الهيئات التي تشرف على هذه النظم وتطبيق ما تقرره ، وينتظم هذا القسم مع جميع المسؤوليات المنبعثة من تعاليم الدين. ومنها كذلك قسم ثالث يتصل بالنظم الخلقية.
وبذلك فإن المسؤولية ظاهرة اجتماعية أيا كانت الصورة التي تبدو هي فيها ويبدو فيها ما تؤدي إليه من جزاء، وهي بوصفها تؤلف موضوعا من موضوعات علم الاجتماع.[13]    
وإذا كان هناك مسؤولية جنائية فهناك أيضا مسؤولية مدنية، والتي تعتبر  هي التاريخ الأساسي والأهم لتطور النظم القانونية بصفة عامة، حيث تشكل المسؤولية المدنية إحدى النظم القانونية الرئيسة في القانون المدني.ثم إن قضية المسؤولية – كما قال جوسران – في طريقها إلى أن تكون نقطة الارتكاز من القانون كله، وأنها باتت مركز الحساسية في جميع النظم القانونية. [14]
إن انتهاك الحق والاعتداء عليه، والتقصير في الواجب أو عدم الالتزام به هو الذي يرتب المسؤولية حسب طبيعة الانتهاك والاعتداء على الحق، وحسب نوعية التقصير في الواجب أو عدم الالتزام به، وبناء على ذلك تترتب العقوبة التي تتقرر في القانون حماية لهذا الحق واحتراما لذاك الواجب، ويرتبط جميع ما سبق بمصلحة ولا يتصل باشتراط وجود إرادة من عدمه.

ثالثا: الحرية والحريات الأساسية

       منذ قديم الأزل وعلى مر العصور كان تعبير الحرية وتفسيره موضع بحث واهتمام الفلاسفة، حيث دأبوا على محاولة التوصل إلى مفهوم دقيق يكون من شأنه وضع حدود واضحة للتصرفات التي يجوز للإنسان أو يسمح له بالتصرف في إطارها وفقا لرغباته وبما يحقق مصالحه.
       وقد قام بعض الفلاسفة الإسلاميين بدراسة الحرية من منظور إرادة أو مقدرة الإنسان على الاختيار بين البدائل، ويُرجع هؤلاء الفلاسفة الحرية إلى أنها هبة الله التي أنعم بها على البشر للاختيار بين البدائل المتاحة لهم.
إن الشريعة الإسلامية جاءت لتحافظ على كرامة الإنسان كمبدأ أساسي، خاصة فيما يتعلق بحقوق وحرية جميع البشر ( الحريات العامة )، وذلك بصرف النظر عن أجناسهم أو معتقداتهم، وبالإضافة إلى ذلك فإن الحرية الفردية منظمة شرعا بطريقة تمنع وقوع تعارض مع فرصة الآخرين للتمتع بمثل هذه الكرامة الإنسانية.[15]
إن الإسلام جاء باحترام الشخصية الإنسانية، والشخصية الإنسانية لا تكون إلا مع الحرية، وبذلك فإن محمد أبو زهرة يفسر الحرية بأنها كلمة أخذت من وصف الحر، فالحر والحرية متلاقيان في المؤدى وإن كانت الحرية وصفا، والحر موصوفا. [16]

·                  الحرية: لتحديد ماهية مصطلح الحرية عبر الفقه السياسي الإسلامي، فإنه يتبين أن استخدامه مر بمرحلتين، فقد كان استخدامه في صدر الإسلام ولقرون متأخرة بمعنى عتق العبيد والإماء من قبضة الرق والعبودية. ثم تطورت دلالته السياسية بمعنى الاستطاعة التي تمكّن الإنسان من التعبير عن الفعل أو القول الذي يريده ضمن أصول الإسلام وقواعده.[17]    
وإذا كان مفهوم الحرية الشرعي يتأطر ضمن تعاليم الإسلام حفاظا على إنسانية الإنسان في ممارساته وسلوكياته، فإنه يختلف عن تلك الحرية التي نشأت في النظامين   – الرأسمالي الديمقراطي والاشتراكي الشيوعي -، حيث يتفق كل منهما على إعطاء الإنسان حريته الشخصية يتصرف بها كيف يشاء، وعلى نحو ما يريد، وذلك ما دام في هذا التصرف سعادة له، وذلك دون النظر إلى كون تصرفه اعتداء على حريات الآخرين، وهو توجه يختلف عن حدود الحرية في منظومة الفكر الإسلامي، والتي تتقيد بالأحكام الربانية التي تؤطر مصلحة الإنسان في الآن والمستقبل.[18]
وبالنظر إلى المعنى العقلي للحرية فإنها تتمثل في القدرة على التفكير الباطني دون أثر للقوالب الذهنية المفروضة على المجتمع، والقدرة على التحرر من الخوف الداخلي حتى يصبح الإنسان هو ذاته لا غيره، وأن يكون مظهره حقيقته. كما تتضمن الحرية القدرة على التعبير عن الرأي وصياغته في قضايا يمكن فهمها والرد عليها والتحاور بشأنها، وليس مجرد التعبير عن رغبات وتمنيات.
ومن دلالات مفهوم ومصطلح الحرية أنه تعبير عن القدرة على الانسلاخ من الشائع، وإنقاذ الذهن من المتعارف عليه، والعود إلى الذات الحر الأصيل الذي يضع المسائل منذ البداية.[19]  
إن الحرية هي شرط أساسي للعقلانية والفعل والإنجاز، والإنسان لا يكون حرا عندما يكون محبطا وضعيفا وغير فعّال، بل يكون حرا عندما يكون قادرا على تشكيل المستقبل، وترجمة مثله إلى حقائق، وأحلامه إلى وقائع، ولن يمارس قواه كشخص – ولا يكون حرا – حين لا يكون مسؤولا أو قادرا على تحمل المسؤولية.[20]
وبناء على مدلول الحرية فإن المسؤولية التي تترتب على الحق والواجب كما سبق بيانه تتصل هي الأخرى بالحرية كمفهوم لم نجد مما سبق استعراضه من دلالاته ما يقرر أن الحرية يمكن أن تكون دون قيد أو حد، وأن هذا المفهوم بمختلف دلالاته ومفاهيمه يقرر أنه إذا كانت الحرية هي لحظة انطلاق الإنسان نحو إيجاد نفه وإبداعه والارتقاء بإنسانيته، فإن معرفة إطار حيز الانطلاق وإدراك معالمه يقع ضمن دائرة أهم من فهم الحرية نفسها.

·                  الحريات الأساسية ( العامة ): يعتبر مبحث الحريات العامة من أهم مباحث القانون الدستوري الذي يعد بدوره أبا القوانين.[21]
إن مبحث الحريات العامة يهتم بالحريات الأساسية التي يخوّلها الدستور للمواطن، ويصونها له ضد التجاوزات ومختلف ضروب التعسّف التي قد يتعرّض لها، سواء من قبل الأفراد أو من قبل السلطة، كما تشير الحريات العامة إلى مجموع الحقوق الأساسية والفردية والجماعية للإنسان والمواطن في الدولة.[22]
ولا يقتصر الإقرار والنص للحريات العامة والأساسية على الدساتير كفالة لحظها وصونها، بل إن ميثاق الأمم المتحدة قد أعلنت الشعوب من خلاله عن إيمانها بالحقوق الأساسية لحقوق الإنسان، وبكرامة وقيمة البشر، وبالحقوق المتساوية لكل من الرجل والنساء والأمم الكبرى والصغرى.
وقد قرر هافيير بيريزدي كويار ( السكرتير العام السابق للأمم المتحدة ) بأنه لا يجوز أن يحرم أي إنسان من الحقوق الأساسية مثل: حق الحياة، والحرية، والأمن الشخصي، والمساواة أمام القانون، والعيش بحرية دون التعرض للتعذيب أو المعاملة القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة، أو المعاناة من العقاب، فإن لكل إنسان الحق في التمتع بمستوى معيشة ملائم من الصحة والرفاهية والحق في التعليم والعمل، والحق في حرية التفكير والضمير والدين، ومع هذا فهناك الكثيرون الذين يحرمون من هذه الحقوق بسبب أصلهم أو لونهم أو جنسهم أو لغتهم أو دينهم أو عنصرهم.[23]
إن الحريات الأساسية أو العامة تقررها الدساتير وتعززها مواثيق الأمم المتحدة، وهي تكاد تقع تحت حصر في كل منهما، إلا أن التحيز والتمييز والعنصرية تعد من أبرز معوقات تفعيل الحريات الأساسية وتقريرها لمختلف الشعوب على اختلاف انتماءاتها وعرقياتها وإثنياتها.

رابعا: التحيّز والتمييز والعنصرية

       إن التحيّز هو ميل لطرف على حساب الآخر، والتمييز هو تفرقة بين طرف وآخر ينتمون إلى منشأ واحد، والعنصرية كذلك الميل إلى عنصر على حساب طرف آخر، وذلك على الرغم من انحدارهم من أصل واحد.
       إن مفهوم العنصرية كما ذكر عبد العزيز كامل يقتضي وجود جماعات بشرية لها خصائص طبيعية ( فيزيائية ) متماثلة بالوراثة، مع ترك مجال للتغيرات والفروق الفردية.
       ويعتمد التصنيف على اختيار صفة أو أكثر، ومن أبرز هذه الصفات لون البشرة والعين، وشكل الجمجمة، وطول القامة، وشكل الأنف.
       ويمكن الحديث – على الأكثر – ع عنصر وجنس صاف بالنسبة إلى صفة فيزيائية معينة، ولكن ليس هناك جنس أو عنصر صاف بالنسبة إلى جميع الخصائص البشرية أو أغلبيتها.
       ونقيض التحيّز والتمييز والعنصرية يتمثل فيما قررته الوثيقة العلمية الصادرة عن اليونسكو، والتي قررت أن البشر ينحدرون من أصل واحد، وأنه ليس هناك أي ارتباط بين الصفات الحضارية لجماعة ما وصفاتها الجنسية.
       وقد عادت اليونسكو وأصدرت وثيقة ثانية في سبتمبر من العام 1967 أكدت فيها على أن جميع أبناء البشر يولدون أحرارا، ومتساوين في الكرامة وفي الحقوق، حيث وصفت العنصرية بأنها عقبة تعرقل تطور الذين يرزحون تحت نيرانها، وعامل إفساد بالنسبة إلى الذين يطبقون تعاليمها، وعنصر تفرقة بين الأمم، وان خير وسيلة لمكافحة العنصرية هو العمل على تعديل الوضع الاجتماعي الذي يتولد عنه التحيّز، ومنع المتشبعين بهذه التحيزات من التصرف وفقا لمعتقداتهم، ومحاربة المعتقدات الخاطئة نفسها.
       إن التفرقة العنصرية ما هي إلا خرافة علمية فارغة من المضمون؛ ذلك أن تقسيم الجنس البشري الحالي يقع ضمن ثلاث وحدات كبيرة هي: المغولية والزنجية والقوقازية، ولا يمكن أن يقوم التقسيم على صفة مادية واحدة كاللون، فهذه الصفة وحدها لا يمكن أن تميز جماعة عن أخرى، ولا يمكن الاستناد إلى أية صفة مادية واحدة في تفسير الآراء المتداولة عن الاستعلاء والنقص الذي يلصق بجماعة أو بأخـرى.[24]
       وبذلك فإن العنصرية والتمييز والتحيز إذا شاعوا واستشروا في مجتمع ما، فإن الحقوق  تنتهك، والحريات تستعبد، فيموت الإبداع، وبذلك لا يمكن أن تتحقق نهضة للمجتمع ما دامت هذه الخرافة مزروعة في وجدانهم، ومنعكسة على واقعهم وسلوكياتهم، وجميع الثقافات الإنسانية وعلى رأسها التشريعات الربانية تقرر في دلالاتها وسائل لاحتواء هذه السمة التي تجر العالم إلى ويلات تجعله ينتكس ويتراجع ويزداد تخلفا ورجعية.
       إن بيان المفاهيم والمصطلحات ثمرة لتوسيع مدارك الباحث عن الفكرة والتحليل كمجال تناول يعقب هذا البيان الذي لا بد منه في بعض الأحيان؛ ومن أجل ذلك جاء هذا البيان لهذه المصطلحات وهذه المفاهيم التي تتصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة بصلب موضوع هذه الدراسة.
       وفيما يلي، وضمن فصول هذه الدراسة ومباحثها يتأتى التناول المستفيض لعدد من الجوانب التي تتصل بمقاصد الشريعة وحقوق الإنسان في ظل معطيات الواقع وتحديات المستقبل، وذلك من أجل العمل على وضع الأسس التي يمكن أن تقام عليها إستراتيجية التأسيس لحقوق الإنسان وتفعيلها، بما يحقق دعما وتفعيلا لمقاصد شريعة الإسلام في مختلف مراتبها ومستوياتها.


[1] نقلا عن الزرقاء – مصطفى أحمد، المدخل الفقهي ( 3 / 10 ). وقد أورد هذا النقل الرزقي – محمد الطاهر، حقوق الإنسان والقانون الجنائي، ط: 1، 2001، دار الفكر اللبناني، بيروت – لبنان، ص 15.
[2] نقلا عن الدريني – محمد فتحي، الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، ص 193. وقد أورد هذا النقل الرزقي – محمد الطاهر، حقوق الإنسان والقانون الجنائي، مرجع سبق ذكره، ص 16.
[3] الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 92.
[4] عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، ط: 14، 1418 – 1997، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، ص 79.
[5] الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 93.
[6] نقلا عن قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ( 1 / 198 ). وقد أورد هذا النقل الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 93.
[7] الصافي – صفاء الدين محمد عبد الحكيم، حق الإنسان في التنمية الاقتصادية وحمايته دوليا، ط: 1،2005، من منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت – لبنان، ص 25.
[8] نقلا عن الصده – عبد المنعم فرج، مبادئ القانون، دار النهضة العربية، 1972، بيروت – لبنان، ص 176. وقد أورد هذا النقل الصافي – صفاء الدين محمد عبد الحكيم، حق الإنسان في التنمية الاقتصادية وحمايته دوليا، مرجع سبق ذكره، ص 25.
[9] توفيق حسن فرج، نظرية الحق، من مطبوعات جامعة الأزهر الذي يدرس لسنة أول شريعة وقانون، 1998، القاهرة – مصر، ص 33.
[10] نقلا عن عبد الرزاق السنهوري في كتابه مصادر الحق، المجمع العلمي الإسلامي، ج 1، بيروت – لبنان، ص 5. وقد أورد هذا النقل المرزوقي – إبراهيم عبد الله، حقوق الإنسان في الإسلام، ط: 1، 1997، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي – الإمارات، ص 145.
[11] محمود أبو زيد، الشرعية القانونية، وإشكالية التناقض بين السلطة والحرية ( دراسة تأصيلية لنظرية العقد الاجتماعي، غير معلوم رقم الطبعة ولا تاريخها، مكتبة غريب، القاهرة – مصر، ص 34.
[12] توفيق حسن فرج، نظرية الحق، مرجع سبق ذكره، ص 5.
[13]علي عبد الواحد وافي، المسؤولية والجزاء، ط: 5، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة – مصر،      ص 3.
[14] رأفت محمد أحمد حماد، مسؤولية المتبوع عن انحراف ( خطأ ) تابعه – دراسة مقارنة بين القانون المدني والفقه الإسلامي، غير وارد رقم الطبعة ولا تاريخها دار النهضة العربية، القاهرة – مصر، ص 5.
[15] المرزوقي – إبراهيم عبد الله، حقوق الإنسان في الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 125.
[16] محمد أبو زهرة، المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، ط: 2، 1401 – 1981، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الرياض – السعودية، ص 257.
[17] الصلاحات – سامي محمد، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، مرجع سبق ذكره، ص 88.
[18] الزين – سميح عاطف، الإسلام وثقافة الإنسان، مرجع سبق ذكره، ص 585.
[19] علي الدين هلال وآخرون، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، سلسلة كتب المستقبل العربي     ( 4 )، مركز دراسات الوحدة العربية، ط: 1، أكتوبر 1983، بيروت – لبنان، ص 177.
[20] نبيل رمزي اسكندر، الأمن الاجتماعي وقضية الحرية، سلسلة علم الاجتماع وقضايا الإنسان والمجتمع، الكتاب ( 16 )، 1988، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية – مصر، ص 235.
[21] الغنوشي – راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ط: 1، أغسطس 1993، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، ص 23.
[22] الغنوشي – راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سبق ذكره، ص 23.
[23] الأمم المتحدة والقضاء على التفرقة العنصرية – الأمم المتحدة وتصفية الاستعمار، من إصدارات الأمم المتحدة – كتيب الطالب بمناسبة يوم الأمم المتحدة: 24 أكتوبر 1983، مركز الأمم المتحدة للإعلام، المنامة – البحرين، ص 5.
[24] عبد العزيز كامل، الإسلام والتفرقة العنصرية، من أبحاث المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية،       22 ذي الحجة 1389 – 28 فبراير 1970، مجمع البحوث الإسلامية، جامعة الأزهر، القاهرة – مصر،      ص 235.

Previous Post Next Post