حقوق الإنسان بين القيمة الأخلاقية، والقانون الملزم وفلسفة الحق والواجب

       مما لا شك فيه أنه لا يمكن في ظل ما خلق الله سبحانه وتعالى عليه الإنسان من فطرة وسجية، أن تجد مجتمعا إنسانية فاضلا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينتهك العدالة والفضيلة الإنسانية؛ ذلك أن العلاقة بين المجتمعات الإنسانية يطرأ عليها الصراع لوجود عدد من العناصر والعوامل التي من شأنها أن تولّد انتهاكا لحرمة هذه الحقوق ومكانتها، وهي مسلّمة محل اتفاق
       ومن أجل ذلك فإن الالتزام لا بد أن يتأصل باحترام هذه الحقوق، وذلك في الجمع بين كونها قيمة أخلاقية تكفل الارتقاء بالإنسان في علاقته مع أخيه الإنسان، هذا بالإضافة إلى ضرورة وجود قواعد قانونية ملزمة من شأنها أن تكفل حماية لهذه الحقوق من الانتهاك. ولا يكفي الاعتبار لها بذلك، بل لا بد من تفعيل عقوبات دولية لا توظّف لمصالح القوى الكبرى ولا المصالح الفئوية؛ وذلك من أجل الحيلولة دون انتهاك المبادئ التي تقررها هذه الحقوق.
وبالنظر إلى دواعي وضع منظومة حقوق الإنسان فإنه يمكن اعتبارها بروافدها الفكرية والإيديولوجية محاولة للارتقاء بالوجود الإنساني  إلى مرتبة الإنسانية؛ وذلك لأن الامتثال إلى القوانين هو تحرر من سلطة الأهواء والانفعالات والمصالح الضيقة نزوعا إلى فضاء إنساني يأمن في الإنسان الموت العنيف.
إن حقوق الإنسان هي مقاومة للعنف، والطريف فيها أن التفاهم على ميثاق لحقوق الإنسان قد ولد في ظروف صراع وصدام - أي ظروف مواجهة الإنسان لأخيه الإنسان -، فكان في لحظة وهج القنابل ولهب الحروب يتذكر الساسة ما قاله المفكرون والفلاسفة ودعاة السلم، ويلوذون به على أمل الخروج من جحيم الموت إلى ما يجمع الثاني لا أن يفرقهم. [1]

أولا:  القيمة الأخلاقية لحقوق الإنسان

       إذا كانت حقوق الإنسان في صيغتها المعتمدة حاليا قد نشأت في ظل صراعات وحروب، وذلك بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فإن ذلك جاء بعد أن أدرك قادة العالم وساسته ضرورة إقرار ما يحفظ الأمن والسلام الدوليين، إذا كان ذلك فإنه مع استقرار الأوضاع كان لا بد من إشاعة ثقافة حقوق الإنسان كقيمة مجردة من أجل الارتقاء بها كقيمة أخلاقية يتأتى الالتزام بها من وازع الإنسان قبل أن تكون القوة الملزمة سبيل لإلزامه بها، وهذا يتطلب إشاعتها في تفاصيل حياة الإنسان كثقافة وممارسة.
       يذكر حسن الصفار في كتابه ( الخطاب الإسلامي، وحقوق الإنسان ) بأن أول خطوة في طريق إحقاق حقوق الإنسان والدفاع عنها هي التعريف بهذه الحقوق ونشر ثقافتها.
       وفي المجتمعات المتقدمة تعد الثقافة الحقوقية جزء من مناهج التعليم، وبرامج الإعلام، والتنشئة العائلية، ونظام العلاقات المهنية، وفي صيغة أي تعامل أو تعاقد بين طرفين؛ لذلك فإن حقوق الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية – كمجتمعات مناقضة في ذلك لتلك المجتمعات - بحاجة إلى بلورة جديدة وحسن صياغة وعرض لتواكب لغة العصر، وتطوّر المعرفة الإنسانية على هذا الصعيد، وفي رأيي فإنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا بإشاعة حقوق الإنسان كقيمة أخلاقية ينبغي أن تسود في المجتمع نظرا لكونها السبيل لرقيه وازدهاره وتنميته.[2]
       إن إشاعة ثقافة حقوق الإنسان كقيمة أخلاقية لا بد أن يتحقق في المجال الاجتماعي للمجتمع، وذلك فيما يرتبط بالعلاقات الاجتماعية ضمن أطرها ومكوناتها المختلفة؛ لذلك كان لا بد من نشر الوعي الاجتماعي والثقافة الحقوقية، والتأكيد على مراعاة مصالح الآخرين واحترام مشاعرهم وخصوصياتهم.[3]

ثانيا: القوة الملزمة كضرورة للحماية

       إذا كانت حقوق الإنسان تتقرر فلسفتها في المقام الأول باعتبار أنها قيمة أخلاقية من شأنها أن ترتقي بممارسات الإنسان في ميادين الحياة المختلفة، فإنه لا بد كذلك من العمل على كفالة حمايتها كقوة ملزمة؛ لذلك فإن الحقوق التي قررها الشارع الكريم لها قوة ملزمة تتمثل في الحدود التي شرعها الله لمن انتهك هذه الحقوق واعتدى عليها، وحتى منظومة حقوق الإنسان في بعدها العالمي تأخذ طابعا إلزاميا فيما صدر من عهديها وبرتوكولها الاختياري، ولكن القصور كما ذكرت لا يقع في كونها ملزمة أو غير ملزمة، بل يقع القصور في كون انتهاكها لا تترتب على عقوبة من شأنها أن تردع منتهكها.
       إن أحكام العهدين ملزمة للدول التي تصدق عليهما، والحقوق التي يعترفان بها يُستهدف منها أن تكون قانونا في تلك الدول؛ ولهذا السبب يتضمن العهدان ( تدابير تنفيذ )، وهي ترتيبات للقيام باستعراض دولي للطريقة التي تنفذ بها الدول التزاماتها بموجب العهدين.[4]
       ولم تكتف هيئة الأمم المتحدة بأن تجعل لهذين العهدين قوة ملزمة فحسب، بل عملت بموجب العهدين بإلزام الدول الأطراف بإبلاغ الهيئات الدولية بالتدابير التي اتخذتها وبأية صعوبات واجهتها في الامتثال بالعهدين. بل إن البروتوكول الاختياري قرر بأن كل فرد يستطيع أن يقدم شكوى إلى الأمم المتحدة عن أي انتهاك لأي حق تحميه إحدى معاهدات الأمم المتحدة.
إذا كانت القاعدة القانونية عامة ومجردة وملزمة وتقترن بجزاء يترتب على مخالفها، وتهدف إلى تنظيم العيش في الجماعة، وإلى رعاية المجتمع وتنظيم سلوك أفراده، فإن القاعدة الأخلاقية هي الأخرى كذلك، ولكنهما يفترقان من حيث الجزاء، حيث أن القاعدة القانونية ملزمة ومقترنة بجزاء مادي يوفر لها الإلزام، أما القاعدة الأخلاقية فجزاء انتهاكها معنوي، كما تختلفان كذلك في الهدف المخصوص، فإذا كانت كل منهما من شأنها تنظيم المجتمع وحفظ استقراره، إلا أن محور الوصول إلى ذلك لكل منهما مختلف، فالقاعدة القانونية تعكس تنظيما فعليا، أما القاعدة الأخلاقية فهي تنزع ذلك الإنسان إلى السمو والكمال.
كما تختلف كلا القاعدتين من حيث المصدر، حيث أن مصدر الأولى واضح ومحدد، أما مصدر الثانية فهو ضمير المجتمع وسلوكهم. أما نقطة الاختلاف الأخيرة فهي تتعلق بالنوايا والسلوك الخارجي، حيث أن القواعد القانونية لا تهتم بذلك، وتسلط اهتمامها على السلوك المادي، أما القواعد الأخلاقية فتهتم بصفة أساسية بالنوايا الداخلية لأنها تنشد الكمال؛ ومن أجل ذلك فهي لا تكتفي بالحكم على التصرفات الظاهرة للأفراد، بل ترتبك كذلك بنواياهم.[5]

ثالثا: حقوق الإنسان بين فلسفة الحق والواجب

ذكرت فيما سبق في تمهيد هذه الدراسة بأنه إذا كان القانون يقرر الحق، فإن  مثل هذا الحق لا تكون له قيمة عملية إلا إذا فرض على سائر المكلفين به احترامه، وهذا الاحترام الذي يفرض على سائر المكلفين به يكون واجبا يقع على كاهلهم، وهو واجب قانوني يفرضه القانون بحيث إذا لم يقم المكلفون به أجبرهم القانون على ذلك، ومن خلال ذلك تتقرر فلسفة حقوق الإنسان بين الحق والواجب.
       إن اعتبار الإنسان عضوا في مجتمعه، وجزءا من محيطه، فإن علاقته بذلك مع ما حوله علاقة تفاعل بين طرفين، وذلك يعني وجود التزام متبادل له وعليه، وقد أصبح متداولا أن يطلق على الالتزامات التي يسبغ عليها مصطلح الواجبات – أي ما يجب تجاه الآخرين -، كما يطلق على     التزامات الآخرين المفترضة نحوه عنوان الحقوق ... أي ما يستحقه هو منهـم.
وفي الأصل فإن الحق والواجب يرجعان إلى معنى واحد وهو الثبوت، فكلاهما في اللغة ثبوت وإلزام، وبناء عليه فإن الحق والواجب يؤديان معنى واحدا، وبذلك فإن الحقوق هي الأشياء الثابتة على الإنسان للآخرين، أو على الآخرين للإنسان، والواجبات هي الثابتة على الإنسان للآخرين، أو على الآخرين له، فالحقوق واجبات، والواجبات حقوق، والفرق إنما هو في النسبة للإنسان أو عليه.
إن انتظام حياة الإنسان في مجتمعه يقتضي أن يتمتع بالحقوق التي له، وأن يؤدي الواجبات التي عليه، وإذا ما حصل خلل في هذه المعادلة فإنه سيؤدي إلى الاضطراب في حياة الفرد والمجتمع.[6]
وإذا كان على الإنسان من الواجبات تجاه الآخرين، وذلك بمقدار ماله من الحقوق، فإن نقطة البداية لبناء علاقة صحيحة ناجحة تنطلق من وجوب المبادرة لأداء الحقوق المتوجبة عليه، مما يلزم الآخر ويشجعه على التعامل بالمثل، وحينئذ تنتظم العلاقة وتستقيم.
ومعنى ذلك أن يفكر الإنسان بالواجبات التي عليه قبل أن يفكر في الحقوق التي له، وأن ينجز ما عليه قبل أن يطالب بما هو له، لكن مشكلة الآخرين في ضعف فهمهم لهذه الفلسفة في العلاقة بين الحقوق والواجبات تجعلهم يتجاهلون ويتناسون ما عليهم من واجبات، ثم يتجهون ويطالبون بما لهم من حقوق.[7]
إن القواعد التي تنظم حياة المجتمع هي في المقام الأول قيما أخلاقية ينبغي أن توظف قنوات الإعلام لإشاعتها كثقافة، وهي مالم تنظم بقواعد قانونية لها صفة العمومية والتجريد والإلزام، فإنها تكون عرضة للانتهاك، كما أن إقامتها على فلسفة الحق والواجب جدير باتسامها بقدسية تكفل لها فاعليتها وتأثيرها في واقع المجتمعات الإنسانية.

[1] نجيب عبد المولى، التطور التاريخي لحقوق الإنسان، وهي محاضرة منشورة على الموقع الإلكتروني:  www.aihr.org.tn، وتاريخ دخول الموقع هو: 5/1/2009.
[2] الصفار – حسن، الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان، ط: 1، 2005، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب، ص 99.
[3] الصفار – حسن، الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان، مرجع سبق ذكره، ص 106.
[4] حقوق الإنسان – أسئلة وأجوبة، من إصدارات الأمم المتحدة، 1990، نيويورك - أمريكا، ص 11.
[5] توفيق حسن فرج، نظرية القانون، من مطبوعات جامعة الأزهر الذي يدرس لسنة أولى شريعة وقانون، 1998، القاهرة – مصر،  ص 145.
[6] الصفار – حسن، الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان، مرجع سبق ذكره، ص 111.
[7] الصفار – حسن، الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان، مرجع سبق ذكره، ص 111.

Previous Post Next Post