الأوضاع في أوروبا: 
مع استمرار الحروب مع روسيا، وإشعال فتن الاستقلال عن الدولة في ولاية الصرب، ومع تقدم الروس في الأراضي العثمانية، تجددت الخلافات بين فرنسا وروسيا، فمالت روسيا للصلح مع الدولة العثمانية؛ لكي تتفرغ لقتال الفرنسيين، فعقدت معاهدة بخارست التي تنص على سيادة الدولة العثمانية على الأفلاق والبغدان والصرب، وسيادة روسيا على بساربيا، واستطاعت روسيا أن تنتصر في حروبها مع فرنسا، مما اعتبره نابليون خيانة من العثمانيين.
ثورة الصرب وفي بلاد الصرب اشتد غيظ السكان من معاهدة بخارست على تبقيهم تحت الحكم العثماني، فاندلعت الثورة فأخضعهم العثمانيون، وفَرَّ علماؤها إلى النمسا ما عدا تيودروفتش الذي أبدى طاعته للدولة، وهو في حقيقة يعمل على زرع بذور الانفصال عنها في السكان، حتى إذا قويت شوكته أعلن التمرد عام 1230هـ؛ فاصطدمت معه الجيوش العثمانية، حتى أبدى الطاعة مرة أخرى للخليفة على ألا تتدخل الدولة في شئون الصرب الداخلية، وأن تكون السيطرة للعثمانيين في الصرب على القلاع فقط فوافقت الدولة.
ثورة اليونان: كنتيجة طبيعية؛ لعدم تدخل الدولة العثمانية في عقيدة أو حضارة أو لغة الأمصار المفتوحة؛ افتقدت هذه الأمصار الارتباط مع الدولة العثمانية، وخاصة غير المسلمين، وكان من ضمن هذه الأمصار اليونان التي سافر العديد من أبنائها إلى أوروبا، ليعودوا مشحونين بالنزعات الانفصالية عن العثمانيين، وأسسوا جمعيات سرية في النمسا وروسيا لدعم الانفصال عن العثمانيين، وما إن أعدوا العدة حتى أعلنوا التمرد على العثمانيين، فتوجه إليهم خورشيد باشا فهزم أمامهم وانتحر بعد الهزيمة.
فلم يجد الخليفة لإخماد الثورة في اليونان غير محمد علي الذي أتم فتح السودان، فأمر الأسطول المصري أن يتحرك بإمرة ابنه إبراهيم متوجهًا إلى اليونان للقضاء على الثورة، حتى يضمها هي الأخرى إلى مناطق نفوذه، واستطاعت الجيوش المصرية أن تحقق انتصارات كاسحة في اليونان، برغم الإمدادات التي كانت تنهال عليها من أوروبا بأسرها، وتمكن من دخول أثينا عام 241هـ فسارعت كل من روسيا وإنكلترا بالتدخل، وضغطت على العثمانيين لعقد معاهدة آق كرمان عام 1242هـ وكان من أغرب ما تتسم به أنها لم تذكر شيئًا عن اليونان، بالرغم من أن التدخل كان بسبب الثورة في اليونان.
ومن أهم بنودها: حرية الملاحة لكافة السفن في البحر الأسود، وأحقية روسيا في المرور في مضائق البوسفور والدردنيل بدون تفتيش، بالإضافة إلى أحقيتها في انتخاب أمير الأفلاق والبغدان، ولا يحق للعثمانيين عزل أي منهما إلا بموافقة روسيا، وأن تصير إمارة الصرب مستقلة ذاتيًّا، ويحتفظ العثمانيون فيها بثلاث قلاع فقط منهم بلغراد. 
مؤتمر لندن: واصلت أوروبا استفزازها للعثمانيين لجرهم إلى الحرب، ففي عام 1242هـ طلبت إنكلترا من العثمانيين أن تكون الدول النصرانية هي الوسيط بين العثمانيين والولايات العثمانية ذات الأغلبية النصرانية، فرفضت الدولة، فجعلت أوروبا هذا الرفض ذريعة للحرب، واتفقت روسيا وإنكلترا وفرنسا على حرب العثمانيين، إذا لم يعطوا اليونان الاستقلال التام، وأعطوا مهلة للخليفة شهر لسحب قواته من اليونان، فلم يمتثل لهم الخليفة؛ فتوجهت أساطيل روسيا وإنكلترا وفرنسا إلى اليونان، وأمرت إبراهيم باشا بالانسحاب من اليونان، فضرب بكلامهم عرض الحائط، فدمر الحلف الأوروبي الأسطول العثماني والمصري في اليونان، واستشهد ما يزيد على 30 ألف مصري في مقاومة الحلف الصليبي، ثم اضطر إبراهيم باشا إلى الانسحاب بمن بقي معه من الجنود، وعقد التحالف الصليبي مؤتمر لندن الذي دعيت إليه الدولة العثمانية، فرفضت الحضور؛ فأعلن التحالف استقلال اليونان عن الدولة العثمانية، فرفضت الدولة العثمانية الاعتراف بقرارات المؤتمر.
معاهدة أدرنه: أعلنت روسيا الحرب على العثمانيين، وتمكنت من احتلال البغدان والأفلاق، وعينت عليهم حاكمًا من قبلها، واستطاعت دخول مدينة وارنا (فارنا) البلغارية بعد خيانة أحد القادة العثمانيين، وهو يوسف باشا، الذي سلم المدينة لهم، واستطاعت روسيا أيضًا أن تدخل شرقي الأناضول، ثم كانت الفاجعة باحتلالها مدينة أدرنه، وغدت قاب قوسين أو أدنى من استنبول فأسرعت إنكلترا وفرنسا بوقف تقدم روسيا؛ وذلك ليس من أجل العثمانيين؛ ولكن لأن وصول روسيا إلى استنبول يهدد مصالح فرنسا وإنكلترا، فعقدت معاهدة أدرنه، والتي من نصوصها:
1- عودة الأفلاق والبغدان ومقاطعة دوبروجة وقارص وأرضروم إلى العثمانيين.
2- عدم تفتيش سفن روسيا المارة في المضائق العثمانية.
3- أن تتمتع روسيا بنفس الامتيازات التي تتمتع بها الدول الأخرى.
4- أن يدفع العثمانيون غرامة حربية كبيرة لروسيا كتعويض لمصاريف الحرب.
5- استقلال بلاد الصرب، وتسليم ما تحتفظ به الدولة من قلاعها.
وتأمل أخي المسلم البند الرابع؛ كي تلاحظ أن دول أوروبا لا تريد ترك الفرصة للعثمانيين أن يعيدوا بناء أنفسهم، ولا تنظيم جيوشهم، وأن تزيد عليهم الخناق، حتى يكونوا فريسة سهلة في القضاء عليها، وأيضًا من بنود المعاهدة.
احتلال الجزائر:
اختلقت فرنسا الذرائع التافهة لغزو الجزائر عام 1245هـ، واستطاعت أن تحتلها برغم استبسال المقاومة بقيادة عبد القادر الجزائري الذي اضطر للاستسلام عام 1263هـ.
إلغاء الانكشارية:
أصبح الانكشارية كما ذكرنا لفترة من الزمن هم المسيطرون الفعليون على البلاد، يعزلون خليفة ويقتلون آخرًا، ويعينون ثالثًا، فعزم الخليفة محمود الثاني على القضاء عليهم، وخاصة بعدما سر بالنظام العسكري الحديث، والذي تمثل في جيش محمد علي، فاجتمع في بيت المفتي، ودعا إلى الاجتماع مع كبار الدولة وكبار الانكشارية، وقرر إلغاء نظام الانكشارية، فوافق الجميع إلا الانكشارية وحاولوا التمرد، وتجمعوا في أحد ميادين استنبول، فحصدته المدفعية العثمانية حصدًا في عام 1240هـ، وأعلن النظام الجديد للجند، والذي قلد فيه الأوروبيين، ودرب الجيش مدربون أوروبيون، واتجه بالبلاد إلى تقليد أوروبا حتى أنه تزيا بزيهم، واستبدل بالعمامة الطربوش.
زيادة أطماع محمد علي:
بعد أن ضم محمد علي الحجاز، وجزيرة كريت إلى أملاكه، لم يقتنع بكل هذا، بل بدأ زحفه على بلاد الشام عام 1247 بقيادة ابنه إبراهيم باشا، واستطاع أن يزيح جميع العقبات في طريقه، سواء من الولاة أم من الجيش العثماني، خاصة وأن الأسطول المصري يسير بجانبه، ويمده بما يحتاج، وامتد زحفه إلى الأناضول، فهزم القائد العثماني رشيد باشا وأخذه أسيرًا، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من استنبول.
معاهدة كوتاهية 1248هـ:
وبرغم تشجيع أوروبا لمحمد علي في بداية الأمر، إلا أنها خشيت أن يستعيد المسلمون قوتهم وأن يصبح محمد علي قوة تهددهم، فعرضت روسيا مساندتها للعثمانيين، وأرسلت 15 ألف جندي لاستنبول بحجة حمايتها، فخشيت إنكلترا وفرنسا من امتداد النفوذ الروسي، وتوسطت للصلح مع محمد علي.
وبالفعل عقت معاهدة كوتاهية عام 1248هـ والتي نصت على:
1- انسحاب محمد علي من الأناضول إلى ما بعد جبال طوروس.
2- تكون مصر لمحمد علي مدة حياته.
3- يعين إبراهيم بن محمد علي واليًا على أضنه، وهو الإقليم المتاخم للأناضول.
4- يعين محمد علي واليًا من قبله على ولايات الشام الأربع (عكا، وطرابلس، ودمشق، وحلب) وعلى جزيرة كريت.
لم يقتنع محمد علي بمعاهدة كوتاهية، ولكنه أراد أن تكون مصر والشام وجزيرة العرب له ولأولاده من بعده، وراسل أوروبا في ذلك، فتشاورت معه الدولة العثمانية، فاتفق الطرفان على أن تكون مصر وجزيرة العرب له وراثية، أما الشام فتكون له مدة حياته فقط، ولكن نشب الخلاف بين الجانبين في احتلال جبال طوروس، المانع الطبيعي بين الشام والأناضول، فسار الجيش العثماني بقيادة حافظ باشا وقد استعان العثمانيون بالقائدة الألماني المشهور فون مولتكه، فالتقى بإبراهيم باشا في موقعة نزيب، وكان النصر حليف إبراهيم باشا؛ ففر الجيش العثماني تاركًا عتاده وراءه.
وتوفي الخليفة محمود الثاني عام 1255هـ.
معاهدة خونكار اسكله سي:
أبرمت معاهدة بين الدولة العثمانية وروسيا تتعهد فيها روسيا بالدفاع عن الدولة العثمانية وبالتالي أصبح لروسيا نفوذ كبير في الدولة.
الخليفة عبد المجيد الأول
(1255-1277هـ)
وهو ابن الخليفة محمود الثاني استلم الخلافة وكان عمره 18 سنة.
استمرار الحرب مع محمد علي:
ازدادت حدة الخلافات مع محمد علي، وخاصة بعدما رأى قائد البحرية العثمانية أن محمد علي هو الوحيد القادر على أن يعيد للدولة العثمانية هيبتها المفقودة، فسار بالأسطول العثماني، وسلمه لمحمد علي في الإسكندرية.
فدب الذعر في قلوب لزيادة قوة محمد علي، وبخاصة بعدما أصبحت الدولة العثمانية غير قادرة على الصمود أمامه، فقدمت كل من روسيا والنمسا وإنكلترا وفرنسا لائحة مشتركة إلى الخليفة بألا يتخذ قرارًا يتعلق بمحمد علي إلا بمشورتهم، ووعدوه بالتوسط بينه وبين محمد علي فوافق الخليفة.
ثم اجتمعت كل من إنكلترا وروسيا، وبروسيا والنمسا عام 1256هـ فعقدوا اتفاقية صدق عليها العثمانيون وانسحبت منها فرنسا، وشجعت محمد على رفضها ووعدته بأنها ستساعده في الوقوف ضد الدول الأخرى، وكانت من النصوص المقترحة لهذه الاتفاقية:
1- أن ينسحب محمد علي من الأجزاء التي دخلها في أملاك الدولة العثمانية.
2- أن يحتفظ لنفسه فقط بمصر وجنوب الشام، وأن يكون لكل من إنكلترا والنمسا الحق في مساعدة السكان في الشام على عصيان محمد علي في الأجزاء الخاضعة له، وأن يكون لكل من النمسا وإنكلترا وروسيا الحق في دخول استنبول إذا ما تعرضت لهجوم من محمد علي، أما إذا لم تتعرض فلا يدخلها أحد.
وفي مصر جاء قناصل إنكلترا وروسيا وبروسيا والنمسا يعرضون عليه في بداية الأمر أن تكون له مصر وراثية وعكا وجنوب الشام مدى حياته، ثم جاءوا ومعهم مندوب العثمانيين يخبرونه بأن مصر فقط ستكون له وراثية، فرفض وطردهم من مصر ولم تساعد فرنسا محمد علي كما وعدته فتركته يواجه مصيره أمام دول أوروبا بمفرده، وكان دور الدول المتحالفة كالآتي:
اكتفت روسيا بوجودها في استنبول، أما إنكلترا، فكان لها الدور الأكبر في نقل أساطيلها إلى الشام مع القليل من سفن النمسا، ونزلت القوات المتحالفة بيروت واستطاعت أن تحرز انتصارًا كبيرًا على جيوش محمد علي بقيادة ابنه إبراهيم باشا، فاضطر إبراهيم للانسحاب إلى مصر، وقُضِيَ على الكثير ممن معه أثناء العودة حيث انقضت عليهم القبائل العربية في الطريق.
ثم توسطت الدول الأوروبية بين محمد علي والعثمانيين على أن تكون مصر وراثية في مقابل أن يرد إلى العثمانيين أسطولهم، ويجعل جيشه محددًا بـ 18000 جندي فقط، وألا يقوم ببناء أسطول وأن يدفع للعثمانيين 80000 كيس سنويًا.
معاهدة المضائق 1257هـ:
واستغلت إنكلترا وفرنسا الفرصة لنزع نفوذ روسيا من الدولة العثمانية فاتفقوا جميعًا على إلغاء معاهدة "خونكار اسكله سي" وأن تكون المضائق العثمانية مغلقة أمام الجميع. 

Previous Post Next Post