المجال الصحي في البادية
لم تلق القرى الرعاية الصحية اللازمة من حكومة الانتداب. بينما كان في المدن عيادات للإسعافات الأولية ، ومستشفيات وأطباء وممرضون.
تأسست عيادة صحية (عيادة العيون) في اسدود في أوائل الثلاثينيات. وكانت في مبنى حجري نظيف، وبها ثلاث غرف ، واحدة عيادة واثنتان مسكن للتمرجي وعائلته. يقوم بالعمل فيها تمرجي (ممرض) واحد واختصاصه الرئيسي أمراض العيون ، وخاصة الرمد ،لأنها كانت أكثر الأمراض انتشارا في القرى. ومن الذين عملوا بها : عبد الفتاح عمر من قرية فرعون قضاء طولكرم ، وعزت العلمي من غزة ومعروف في البلدة باسم " أبو هاشم" وجاء بعده تمرجي أخر من قرية بيت اكسا قضاء القدس وأسمه محمد غيث ومشهور باسم "أبو حسين." وكان ابنه حسين طالبا معنا في مدرسة اسدود.وقد هاجر بعد النكبة مع أهل اسدود إلى قطاع غزة ، وسكن في رفح. لم يكن في العيادة طبيب مقيم ، بل كان يحضر الطبيب من المجدلأسبوعيا يوم الأربعاء، يوم سوق القرية. وكانت العيادة في ذلك اليوم تعج بالمرضى لمراجعة الطبيب أو التمرجي ، وبالطبع معظمهم من القرى المجاورة ، لأنها كانت خالية من العيادات الصحية .
أعرف من شهادة ميلادي أن طبيباً كان يحضر إلى عيادة اسدود أسمه فوزي عبلة ، وطبيباً آخر اسمه خليل أبو غزالة . لكن بشكل عام لم تكن هناك رعاية صحية ولا وعي صحي بين المواطنين ، فمعظم أمراض النساء كانت تعالجها القابله (الداية) أو بعض العجائز التي لها خبرة بذلك. وكان هناك بعض الرجال الذين لهم مهارة في تجبير الكسور ، يضعون على الكسر عجينة من المر والبطارخ ، ويضعون حول الكسر عيدان من البوص تسند الطرف المكسور . وكان بعض الناس يعالجوجع عينيه بالبصل المشوي أو ورص (فضلات) الحمام الأحمر. أمّا طلاب المدارس ، فحين كانيصاب الطالب "أبو داج" ينتفخ خده ، فيكتبون عليه بقلم كوبيا بعض آياتالقران .
وفي حالات المرض الشديد والذي كان يستعصي علاجه في القرية،كانوا يذهبون إلى الأطباء في المجدل ، يافا، غزة، وكان هناك طبيب مشهور في يافا اسمه الدجاني ، كان يتردد عليه أهل اسدود ، وكذلك طبيب يهودي في بيار تعبيا . وأذكر أنني أصبت بالملاريافي عام 1942 لأنني نمت ليلة مع أخي في مقثاة(مزرعة بطيخ وشمام) لنا في اللحامية، بجوار نهر سكرير، فتعبت جدا وارتفعت درجة حرارة جسمي ، فأركبني والدي على حمار وذهب بي إلى طبيب بيار تعبيا ، فأعطاني الطبيب إبرة(حقنة) ، وفعلا شفيت بإذن الله . وكان هذا الطبيب أحياناُ يركب فرساُ ويتجول على القرى المجاورة لعلاج المرضى ، مقابل أجر وليس مجانا.
علاوة على ذلك كان يحضر طبيب ومعه ممرض إلى المدرسة مرة أو مرتين في السنة للكشف على عيون الطلاب وللتطعيم خاصة ضد الجدري والحصبة .وأذكر في إحدى زياراته وكنت في الصف الرابع قد سمعته يعلق لأحد المدرسين مندهشا لأنه لم يجد من بين طلاب المدرسة سوى عشرة طلاب عليهم" كلسون" أي سروال داخلي تحت البنطلون القصير . وحين كان الطالب يلتحق بمدرسة المجدل بالقسم الداخلي ، يشترط عليه عدد من الملابس الداخلية وبشكير وبيجامه . هذه الأشياء لم تكن معروفة للغالبية العظمى من العائلات القروية.
وكانت أمراض العيون منتشرة انتشارا واسعا بين سكان القرى وخاصة في جنوب فلسطين. في الأربعينيات بدأت الحالة الصحية تتحسن مع انتشار التعليم ، وزيادة التطعيم، وانخفضت نسبة الوفيات بين الأطفال بسبب أمراض الأطفال كالحصبة وحمّى التيفوئيد والنزلة المعوية والإسهال وغيرها . كما أخذت إدارة الصحة ترش مبيدات ضد بعوض الملاريا على البرك(المياه الراكدة) أو وادي سكرير.
وكان في اسدود شخص اسمه جميل السندي ،ربما كان أصله من الهند كما يظهر من اسمه ، كان يسكن في مبنى قريب من مقهى غبن . وكان يقوم بخلع الأسنان وعلاج بعض الجروح والإسعافات الأولية وخاصة يوم الأربعاء في السوق الأسبوعي . وعلى العموم فالطب الشعبي كان سائدا بين سكان القرية سواء لألام البطن(المعدة) أو وجع الرأس (الصداع). وفي حالات مرضية كثيرة ، غالباً ماكان الكي أخر الدواء.
وحين يبدأ الطفل في تبديل الأسنان اللبنية ، يحاول الآباء تخفيف الألم بوضع خيط حول السن الموجوع وشده ليخلع بسرعة، أو إقناع الطفل ليخلعه بنفسه ، وأحيانا يسقط أثناء أكل شيء صلب. والعادة أن ينظر الطفل إلى الشمس ويرمي السن المخلوع قائلا: ياشمس خذي سن الحمار ، وأعطيني سن الغزال ويرميه ولا يعرف بالطبع مكانه. أويضع السن المخلوع تحت الوسادة قبل النوم ، وفي الصباح يتوقع أن يجد مكانه قرشا أو حلوى.
أما التداوي بالحجاب ، فكان شائعا للحسد وبعض الأمراض وللمصابات بالعقم من النساء أو لمن يعتقد أنهن كذلك ، أو لمن يتعثر من الشباب ليلة الدخلة . لكن للأسف كان يكتب في الحجاب في مثل هذه الحالات شيء مضحك ، فبعد البسملة ترى بعض الكتابات: "حدارجه بدارجه من كل عين وسارجه ، أو حندق بندق ، لكل من شافتك تطق ، ملح وبارود من عين كل حسود." ونوع أخر تجد فيه:"حصنتك من عين فلان ومن عين فلان ومن عين فلانة ومن عين فلانة ، وهذا الكلام مبهمومسجوع ليس به من القران الكريم غير البسملة."
وكثيراً ماكنا ونحن في المدرسة الابتدائية نفتح الحجاب حباً  للاستطلاع ، ونندهش بالكلام المسجوع الغريب والمبهم في معانيه ، ومحكم في طياته على شكل مثلث وتخاط حوله قطعة من القماش بها خيط لتعلقها البنت في رقبتها أما الطفل الصغير فيوضع الحجاب على سريره أو يثبت بدبوس على ملابسه.
وكان التداوي بالأعشاب منتشراً بين القرويين ، مثل الينسون والبابونج اللذان كانا يستعملانلترطيب الأحبال الصوتية ، والمرمية والنعناع لعلاج آلام المعدة ، والبابونج والزعتر لعلاج السعال ، والزنجبيل لفتح مسالك الأنف ، والحلبة للنساء بعد الولادة ،وحبة البركة للتقوية الجنسية للرجال وإدرار الحليب للنساء، والقرفة مع العسل لعلاج نزلات البرد.

Previous Post Next Post