الجسد  السرد

   يغدو الجسد (تيمة) دلالية في الرواية النسائية التي توظفه كمادّة حكائية، وكملفوظ تشخيصي وتصويري لجميع المشاهد السردية المنبثقة من الجسد،  المتصلة والمنفصلة بينه وبين مظاهر الطبيعة الأخرى التي يحل فيها. نجده في البحر، والشجر، والمطر، والكون.  
   إن السرد عند المرأة - عموما - موازٍ لأحوال جسدها مدّا وجزرا. هنا تكمن (شعرية) السرد عندها، كون السرد يلامس الجسد، ويلتحم به مكثّفا، مشحونا، غنّيا بحمولته اللفظية التي تغطّي النص النسائي.
   كما يمثّل (الجسد) أجواء الغبطة الراقصة المثيرة لذهن المتلقي، باعتباره بؤرة دلالية وإيقاعية ينطلق منها المخيال السردي النسوي، فتنفتح اللغة معه بكل طاقتها الترميزية، ومنتهى إيحاءاتها المجازية على جسد النص تمهيدا لإخصابه. و"إن  وصف لغة الصورة السردية بأنها لغة مكثّفة على نحو تبدو فيه بنيتها الداخلية أو حتى شكلها الخارجي أقرب ّإلى مرتبة اللغة الشعرية "[i].
   تستمدّ اللغة الشعرية، في الكتابة النسائية، طاقتها من الجسد ، حيث تمنح الفاعلية للمرأة من خلال جسدها الذي يمدها بالاندفاع والحركة تجاه الآخر، وهنا تكمن لذّة الالتحام والاختراق في إطار وعيها بالآخر المذكّر، نلمس –أثناءها - قدرة المرأة المبدعة في استثمار قدرة الجسد لتأثيث مساحتها السردية، بعيدا عن سطوة المجتمع وقيده.
   فالمرأة، حين تسرد، تبدأ بنبضات أنوثتها الحالمة، حيث ينبري المخيال ألانزياحي إثرها، في استدعاء صوت الآخر وصورته، هذه الفضاءات الحالمة المهيمنة على السرد النسائي، تجتاح المرأة الكاتبة أثناء فعل سرد، فتجسّد رغبتها الأزلية في الاستئثار بمن تحب، حيث تبقى الفضاءات الترميزية المتاحة للإسقاط الفني رهينة "الجسد".
   وكما أن (الذوات/ الأجساد) لا تلتقي، أو تتفاعل إلا بتجسيد أساليب النفاذ والاختراق، لتجسيد ما يمكن أن نطلق عليها (الذات الشعرية الكاملة)، فإنّ من هذا التوحدّ، أو من هذه الكثرة داخل الوحدة، ما يفتح  أسئلة الوجود والحياة[ii].
   يمثل الجسد عند المرأة منطلق الخصوبة، والتوالد، والكينونة، إذ لا تستقيم الكتابة عندها دون هذا الجسد، إنّه الفضاء الذي تتحرّك في جغرافيته. فها هي (آمال مختار)، في روايتها "نخب الحياة"، تسبح في فضاء الجسد الذي اتخذت من جغرافيته فضاء رحبا لتأثيث سردها، تستوقفنا، بمشاهدها السردية التي لا تخرج عن حدود (المرأة / الجسد)، حيث الشهوة وحيث الشبقية المسترسلة:

   "... كصبية تذهب إلى الموعد الأول لغرامها الأول.. كعاشقة تمشي في ضباب النشوة.. كصوفيّ في حضرة الإله، دخلت المقهى.. كنت كمن يبحث عن عمره الضائع، وعلى حافة الضياع التقينا.
   كان كما رسمته روحي، وانتظرته أعماقي. غصنا من نار تضيء.. ارتبكت وحدست أن الأمر خطير عليّ، على سكوتي، ورتابتي، وكسلي.. لم تكن أبدا أضغاث فراغ، ولا ابتكارات الوحشة والشوق إلى تلك الفوضى التي تعطّل سير خمولي.
   منذ متى لم أتجملّ، وكنت أتجمّل كل يوم ؟ .. منذ متى لم أر الكحل في عيني؟ .. منذ متى لم أتردد في اختيار عطري وألواني ؟ .. منذ زمن.. كم عمره؟.. لا أدري .. أذكر فقط أنه مرّ زمن، لم أر وجهي في المرآة.
   قبل أن يجيء، انتظرته، وكنت أكره الانتظار، لكن انتظاره متعة أخرى، وكانت ثقتي بقدّومه تعتق متعتي، لحظات كان فيها كلّ من حولي أشباحا، وكنت داخل شرنقتي أشد لهفتي حتى لا تفر، وترّبكني. لم أكن أحب أن أراه قادما؛ يخترق بهو المقهى.. لم أكن أحب أن أرى خطواته تطوي المسافة إليّ، بل أن أراه، وقد انبثق أمامي فجأة، كأنه يطلع في أرضي وردة عطرة..."[iii].

   إن المتأمّل للمسار السردي النسائي، يجد أن تشكيل حركية نمو الحدث، وتصاعده، يتم في فضاء "الجسد" الذي تتّخذ منه المؤلفة بؤرة لتوليد محكياتها السردية، كما أن الرؤيا، عند المرأة المبدعة، تكاد تكون فلسفة للجسد، إذ "الجسد" هو الوجود، والكينونة، ومن هذا الوجود يتم الأخذ والعطاء. 
   والسرد الذي يتخذ من الجسد مطيّة، يمتلك القدرة على الاستقبال والتفاعل، حتى مع النصوص والذوات المهاجرة الأخرى، كما أنّ الجسد الأنثوي يملك خاصية متفرّدة، فهو منتج ومتلقٍ، وإذا كان الجنين يتكون نطفة، فمضغة،  فعلقة، فجنينا، كذلك حال النصوص، تحبل بالحكاية، وتتحمل عسر الولادة التي تتم داخل الجسد وفي فضاءه. "فالميل والوصال الجسدي يجمع الحواس والأعضاء تأهبا للرعشة الحسية والوجودية، لذلك تقصد المتعة الجنسية لذاتها، ولغيرها، متخذةً من الحواس بؤرةً لتوليد المعاني"الفم، العين، الأذن، الأنف..."[iv].
   توظف (آمال مختار) الجسد فضاءً لتأثيث "نخب الحياة"، هذه الرواية التي تنحت من جغرافية الجسد، وعالمه، من خلال الساردة المتحررة الباحثة عن الشهوة والجنس، من خلال العلاقات الأنثوية بالآخر؛ فتسرد ثورة الجسد وتفاصيله.
    وكما توظّف "الجسد"، توظف المطر، والاغتسال، والمتعة، والحلم والتوحّد، بحيث تكاد تكون مفردات الملفوظ السردي هي المعجم اللغوي الجسدي الذي يشكّل لوحة مؤطّرة لجغرافيته، تحت غطاء البوح، ووجع الأنوثة، والالتحام بالآخر، من هنا تتوالد الوحدات السردية بتوالد الشخصيات، فتسهم في تفعيل العوالم السردية المنتشية بالحلم والحب والجنس، ويبقى صنع الحكاية عن طريق التداعي والأحلام.
   ولو أردنا تأمل المحكي الذاتي عند (أمال مختار)، وتمثّلاته في النص، نجد أن هذه التمثّلات لا تكاد تخرج عن "الجسد"؛ فحين تقول الساردة: "...منذ متى لم أتجمّل، وكنت أتجمل كل يوم ؟ .. منذ متى لم أر الكحل  في عيني..."، تكون الحكاية بضمير المتكلّم والحاضر، ممثّلة ضمير الفاعل.
   تنطلق الروائية من عالمها الحميمي، عالم جسدها، تريد أن تفجّر تلك الرغبات المكبوتة، مما يجعل الحضور السردي، وفق شكلين متطابقين: "أنا الساردة، وأنا الفعل". حيث الفعل يتمثّل في صياغة العالم الداخلي من موقع المرأة الفاعلة في سوغ بناء عالمها التخييلي: " ... قبل أن يجيء، انتظرته.. كنت أكره الانتظار، ولكن انتظاره متعة أخرى.. كانت ثقتي بقدومه تعتق متعتي...".
   وتشخّص (آمال مختار) أحداثها التخييلية من موقع كون الساردة تمثّل شخصية محورية في الرواية، وفاعلة في (زمن السرد)، و(زمن الفعل)، من خلال الحكاية عن عالمها  الحميمي الذي يستمدّ طاقته من وجع الجسد ورغباته. هذا التزاوج بين السرد والفعل، جاء نتيجة تزاوج  العالم (الخارجي) بالعالم (الداخلي) الذي تعيشه الساردة.

   إن تجلّي عنصر الأفعال المرتبطة بالضمير، مثل: "...كنت أكره.. لم أتجمل.. لم أتردّد.. لم أره..."، تثبت تمظهرات الحياة الداخلية للساردة، من خلال التأكيد على الفعل المرتبط بنفسية الشخصية التي نجدها ساردة وفاعلة في الأحداث.
   (فضيلة فاروق)، لا تختلف عن (آمال مختار)، في روايتها "اكتشاف الشهوة "، حيث توظف جغرافية الجسد في كلّ وحداتها السردية المختلفة حكائيا، والمؤتلفة دلاليا؛ فهي أشبه بتنويعات مختلفة تضرب على وتر واحد مؤتلف هو "الجسد". فالجسد هو الذي يؤطّر هذه الرواية، ومغامرة الجسد هي هاجسها ومرجعها الذي يؤلّف بين وحداتها. ورد على لسان الساردة، الشخصية البطلة في هذه الرواية:  

   "... قبلة "إيس" كانت تلك أخطر المنعرجات في حياتي.. أخطرها على الإطلاق قبل أن أتحوّل إلى امرأة أخرى تشبه سيل مطر صيفي هائج، لا يفرق بين الحجارة والكائنات. قبلة "أيس" كانت قبلة الصباح الماطر، والبرد الذي غامر من أجل حفنة من الدفء، والرضاب الذي سقى شتائل الشهوة، وأيقظ كل شياطين الدنيا؛ لإقامة حفلة تنكرية مجنونة، في سهل مقفر..."[v].

   (فضيلة فاروق) في روايتها، تشكّل سردها من شرايين الجسد الملتهب وتأخذ جميع صورها منه، تضيء نصها بعلاقات التماثل بين الرموز والمعاني، والجسد الذي تطارده ويطاردها في آن واحد، وهذه من خصوصية التعبير النسائي الذي يستمد مادته من الجسد المؤشّر الأولي على الكون والوجود، ومن خلال قراءتها لتضاريس الجسد تقرأ هويتها وأسرارها.
   وإذا كان الجسد يستهل مهمّة الوظيفة الشعرية للغة، ويفجّر تلك الطاقة الكامنة، حين تمتزج عناصر الوجود المادي بالكيان الجسدي، فإنّ قانون التماثل عند الساردة يولّد عناصره السردية؛ نلمس ذلك في مثل قولها: "...قبلة الصباح الماطر، والبرد الذي غامر من أجل حفنة من الدفء..."؛ فالصباح، والبرد، والكون، والمطر، والريح، وما شابه ذلك.. تأخذ من الجسد مذاقه ونكهته، لتتحول الكاتبة، من فضاء الجسد وتخومه إلى رحاب الكون والوجود، بل "تحفر اللغة على الجسد، فيصير الجسد لغة في لغة، ومن هنا، تبدو الأبجدية والكتابة ليست سوى تموضع في المكان، فهي وشم في جسد الكون"[vi].
   لغة الجسد حاضرة في السرد النسائي، تنسج النص من الجسد، بكلّ ما تعنيه الكلمة، (نسيج النص/ نسيج الجسد) هذا المصطلح الذي يرجعه - جان فرانسوا جان ديلو jean – froncois jean dillou  - ، إلى أصله الذي يربط النص بالنسيج. إن النص بموجب أصله الإيتيمولوجي (من اللاتينيةtissus   وtextus، المشتق من الفعل: texture، أي: نسج، فتل..) حيث يغدو شبيها بالنسج tissage [vii].
   إنّ سرد المرأة إثبات لحقيقة الذات وكينونتها، كينونة الجسد التي تختبئ داخل ظلّه، وتنجذب إلى التأمل بوجوده، حيث عالم المرأة الأنثوي راقد ساكن  في جسدها، قابل للتحرك بحيويتها وانطلاقاتها، وما تقوله المرأة هو من قبيل الحكاية الرامزة بجملة عناصر جسدها المتوازية والمتقاطعة بين نصّها وجسدها.
   وها هي (أحلام مستغانمي) تزاوج بين الجسد وشعرية اللغة، تبدأ من تضاريس الكلمات القائمة على تجسيده، حيث نشعر بتلك (الإيروسية) الممتعة بشعرية مكثفة، قائمة على تراسل الدلالات والأشياء في بوتقة التجربة الكلية للجسد. ورد على لسان الساردة التي تغامر وتجازف من أجل هذا الآخر الحبيب والعشيق:

   "... ومنذ البدء، كنت أدري تماما أن الأسئلة تورّط عشقي، لم أكن أعرف أنه، مع هذا الرجل بالذات، تصبح الأجوبة – أيضا - انبهارا لا يقل تورطا. أحب أجوبته، وأعترف أنني كثيرا ما لا أفهم ما يعنيه بالتحديد.كثيرا ما يبدو لي، كأنه يحدث امرأة غيري، عن رجل آخر، ولكنني أحب كل ما يقول، ربما لأنني مأخوذة بغموضه.
   أقول، وأنا أعبث بيده: " أحبك.. حررني قليلا من عبوديتك"..    يحتضنني، ويسحبني نحوه قائلا: "الحب أن تسمحي لمن يحبك بأن يجتاحك، ويهزمك، ويسطو على كل شيء. هو أنت.. لا بأس أن تنهزمي قليلا.. الحب حالة ضعف، وليس حالة قوة، ولكن.. ولكن.. لأنك لم تع هذا.. أنت تكررين خطأ سبق أن ارتكبته في كتاب سابق.
   أريد أن أسأله متى حدث هذا، وفي أي كتاب، ولكن شفتيه تسرقان أسئلتي، وتذهبان بي في قبلة مفاجئة.. كأجوبة، فأستسلم لاجتياح شفتيه لي، وكأنني أريد أن أثبت، مع كل مساحة تسقط تحت سطوة رجولته، كم أنا أحبه..."[viii].

   تراهن (أحلام مستغانمي) على سلطة اللغة، وسطوة الجسد المؤنث؛ فهي تحسن لعبة المجاز والسرد حين تتعامل مع اللغة، بوصفها مجازا محبوكا ومشفّرا، وهو يشتغل على النص الأنثى، والجسد الأنثوي، حيث تجد المساحة الوافرة لمعجمها اللغوي الذي يستمد مادّته من تفاصيل الجسد.
   وبما أن النص "بناء لغوي، يتمظهر داخل سلسلة تركيبية ودلالية متعددة المسارات والمستويات"[ix]، فإنه يتيح للمرأة أن تكتب نصّها الأنثوي في جسده وفي دلالته، كما نلمس سيطرة البعد العاطفي الخيالي فيه، وانجذابها إلى الآخر المذكّر الذي لا يمكن أن تعيش بدونه. "فالمرأة في صورتها الذهنية الراسخة، كائن اندماجي، وليس مستقلا "[x].
   توظف (أحلام مستغانمي) المخيال الانزياجي لتجسّيد ملامح الذات الأنثوية من الجسد الذي يعتبر الفضاء المهيمن على أفق فضاء النص السردي، حيث الرؤية الرامزة المحمّلة بالتأويل الثقافي المؤثّر. وقد وجدت الرؤية النسائية في  فضاء الجسد فضاء ملائما للإسقاط الفني، تجتاز الذات المتكلمة به عالمها الراهن، في اتجاه فضاءات باهرة، تمنحها نشوة سرابية، بوصفه فضاءً مناسبا لشعرية السرد واللغة التصويرية.
      إنّ ما هو مكتوب موجود في الطبيعية، والمرأة، حين كتبت نصّها، كتبت جسدها المغيّب، ليفرض حضوره وكينونته. فكان نصا أنثويا مثبتا بالكتابة – على حدّ قول (بول ريكور)" نسمي نصا كل خطاب مثبت بالكتابة ، ومن خلال هذا التعريف فإن التثبيت بالكتابة يكون النص ذاته".[xi] فالمرأة، حين تكتب نصّها، نجدها فعلا وفاعلا، وأنموذجا ولغة، وقد نلمس "تعامل المرأة مع اللغة، في سبيل التحوّل من كونها موضوع أو مجاز لغوي، أي من مجرد مفعول به  إلى فاعل، حيث تدخل تاء التأنيث على الفاعل اللغوي، ويدخل الضمير المؤنّث على المرجع النحوي، وحيث تقلب المرأة أوراق اللعبة؛ فتدخل الرجل معها، في سجن اللغة، ويتقابل المسجون مع السجّان، ويتبارى الرجل والمرأة، في مناورة ما بين الأنوثة والفحولة

-[i] عثمان بدري، وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ (دراسة تطبيقية)، موفم للنشر والتوزيع، الجزائر، 2000 ،ص. 216 .
[ii] - عبد القادر الغزالي، الصورة الشعرية وأسئلة الذات، مرجع سابق، ص. 85.
[iii] - آمال مختار، نخب الحياة، صص. 27-28.
[iv] - عبد القادر الغزالي، الصورة الشعرية وأسئلة الذات، مرجع سابق، ص. 150.
[v]- فضيلة فاروق، اكتشاف الشهوة، صص. 30 - 31 .
[vi] - فاطمة الوهيبي، المكان والجسد والقصيدة، مرجع سابق، ص. 13.
[vii]- Jeon – fromcais jendillou, l'analyse textuel, Armand Collin/Masson. Paris, 1997, p.29.
[viii]- أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، صص 261 - 262 .
[ix]- أحمد اليبوري، دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط.1، الرباط، 1993، ص.67.
[x]- عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، مرجع سابق، ص. 131.
[xi]- Paul Ricoueur, Du  texte a  l‘action, Edition Seuil, 1986, P15 .
Previous Post Next Post