واقع دراسات المرأة والنوع الاجتماعي في البلاد العربيّة 
إن التمعّن في مسار تمأسس دراسات المرأة والنوع الاجتماعي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة يكتشف تلازم ذلك مع صيرورة تاريخيّة طويلة اقترنت فيه جهود التأسيس بنضال حركاتها النسويّة بمختلف تيّاراتها وتوجهاتها وارتبطت كذلك بتعالي أصوات ونداءات الجامعيين والمفكرين المناصرين لتلك الحركات بضرورة إرساء حقل علمي خاص بدراسات المرأة وأهميّة تطويره لجهاز مفاهيمي ولأدوات نظريّة وتحليليّة خاصة به.
وقد فصّلنا القول سابقا في الدور الذي لعبته الحركات النسوية في الغرب بشقيها الفرنسي والأمريكي في تأسيس حقول معرفيّة خاصة بالمرأة، وربّما تمّ ذلك بنوع من الإسهاب في تناول مسيرة تلك الحركات وتطورها التاريخي وتدرّجها نحو الإرساء الفعلي لجملة من المكاسب التي نعمت بها المرأة الغربيّة، ولا بدّ من التأكيد في هذا المستوى ان ذلك كان ضرورة فرضت نفسها وواقعا نطق عن ذاته إذ أن وزن الحركات النسوية الغربيّة وحجم فعلها التاريخي وحدّة نضالها ذي الأوجه والأصعدة المتنوعة، مسائل لا يمكن القفز عليها في سياق الحديث عن مسار تمأسس الدراسات العلمية حول المرأة والنوع الاجتماعي. إلا ان الملفت للنظر ان كل ذلك تمّ مقابل غياب شبه كامل للحديث عن الحركة النسويّة العربيّة، فأي دور لعبته أو تلعبه هذه الحركة في مسيرة تأسيس حقول معرفيّة خاصة بالدراسات حول المرأة في العالم العربي ؟
         يبدو من المتأكد، قبل ذلك، الإشارة إلى أنّنا لن نفصّل القول في ما يتعلّق بتاريخ الحركة النسويّة العربيّة ومسيرتها وتطوّرها، فذلك من الأمور التي قد لا تسمح لنا بها حدود هذا البحث وإشكاليته المركزيّة التي تحاول تلمّس مسار التطور التاريخي لتمأسس الدراسات العلمية حول المرأة دون البحث في تاريخ الحركات النسويّة، ولكن ما يستحق الذكر في هذا المقام هو أن العالم العربي  لم يتمكّن –في نفس مرحلة التاريخية التي برزت فيها الحركة النسوية الغربيّة- من إنتاج حركات نسويّة ذات طابع عربيّ بقدر ما أنتج نسخا متناثرة من الحركة النسويّة الغربيّة، كانت في مجملها رجع صدى لتلك الحركات ،لم تتمكن من التأصّل في سياقها المجتمعي العربي بخصوصيته وتفرّده.
وربّما يفسّر ذلك الى حد كبير ما شاب مسيرة تلك الحركات من تعثَّر ومحدودية في الدور المجتمعي والمعرفي الذي كان من الممكن أن تلعبه بشكل رائد ورسمي مثل نظيرتها في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكيّة. ولعلّ لذلك بعض الأسباب الأخرى التي لا يمكن إغفالها مثل التصدي القوي الذي ابدته بعض قوى الرفض العربيّة وما كان لها من دور بارز في مناهضة تعالي أصوات النساء، والتي لم تكن بأي حال من الأحوال أشدّ ضراوة من القوى المناهضة للمرأة في الغرب، ولكن ذلك لا ينسي في السياق ذاته ما أنتجه العالم العربي من أصوات فكرية ذائعة الصيت ناصرت قضايا المرأة العربيّة ، ودعت إلى تحريرها وتعليمها وتعزيز مسار اندماجها في العالم الخارجي، وهو مناخ كان بإمكان الحركة النسويّة العربيّة- ضمن مراحل مبكرة - تطويره في اتجاه يخدم قضاياها وشواغلها.
ومن الملفت للنظر أننا عند التطرّق لإشكالية التأسيس العلمي للدراسات حول المرأة في العالم العربي لا نكاد نعثر على أثر يذكر للحركة النسويّة ودروها في ذلك. صحيح ان الاجتهادات والكتابات والدراسات حول واقع المرأة العربيّة قد تناثرت هنا وهناك في البلاد العربيّة منذ عقود إلا أن المطالبة الرسميّة من قبل صاحبات التوجه النسوي في البلاد العربيّة او الاجتهاد في ارساء حقول معرفيّة قائمة الذات ومتصلة بالمرأة  لم يحدث.
         ولكن في مقابل ذلك نشهد اليوم مسارا يحاول في سياق إقليمي وعالمي تعزيز التوجه نحو المأسسة العلميّة والفكريّة للدراسات حول المرأة وحول النوع الاجتماعي، ولئن كان هذا المسار يسير بوتيرة متعثرة وبنسق بطئ فانّه على الرغم من ذلك أصبح يتجذّر من يوم إلى آخر، علما أن الفاعل الرئيسي في ذلك يتمثل في السلطات الرسميّة وبعض الهيئات والمنظمات الإقليمية العربيّة المعنيّة بشأن المرأة.
         لقد بدأ العالم العربي يشهد منذ فترة بداية انتشار تخصّصات المرأة والنوع الاجتماعي كتخصّصات معرفيّة قائمة الذات تُدرس وتُدرّس في بعض الجامعات العربيّة، ولئن كانت هذه المبادرات لا تزال محدودة للغاية، فإنها على الرغم من ذلك تتعزّز من وقت للآخر بحكم الدعم الرسمي المحلّي والإقليمي والدولي الذي تلقاه ، إذ من المعلوم أن المعاهد العليا والمراكز البحثيّة المختصة والشهائد الجامعيّة في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي قائمة الذات حاليّا في عدد من الدول العربيّة مثل  فلسطين والأردن والسودان ولبنان ومصر([i]) الى جانب تونس والمغرب الأقصى . وتختلف درجات الشهائد المسندة من قبل هذه المؤسسات العربيّة بين المراحل النهائيّة في مستوى التخرّج في بعض تخصصات العلوم الإنسانية وبين المراحل العليا في مستوى دراسات الماجستير والدكتوراه، كما تختلف تسميات هذه التخصصات وطبيعة التكوين المتلقّى ضمنها متراوحة في عمومها بين الاتصال المباشر بدراسات المرأة وبين مقاربات ونظريات ومناهج النوع الاجتماعي.
         ولا بدّ لنا في هذا المقام من التأكيد على أن وضع دراسات المرأة والنوع الاجتماعي في البلاد العربيّة ما يزال بحاجة ماسة إلى الدّعم والتطوير خاصة من قبل المختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعيّة، الذين بالرغم من اهتمام بعضهم الشديد بقضايا وشواغل المرأة،فان ذلك لم يتوازى مع مسار بعث وتأسيس هياكل مؤسساتيّة بحثيّة وأكاديمية تتبنّى جهودهم وتطّور دراساتهم بشكل رسمي.

وضع الدراسات والبحوث المتعلّقة بالمرأة والنوع الاجتماعي في تونس
ان الاهتمام الرسمي في تونس بقضايا وشواغل المرأة على أكثر من صعيد وخاصة فيما يتعلّق بالجوانب التشريعيّة والقانونيّة، يُعتبر مسارا انطلق منذ السنوات الأولى لاستقلال البلاد، ليتعزّز بشكل بارز في العقود الأخيرة بفضل ما وقع سنّه من قوانين وتمّ رسمه من برامج ووضعه من مخطّطات ساعية في مجموعها لتعزيز مكانة المرأة في مختلف المواقع وجعلها محورا مفصليّا لمسيرة البلاد التنموية.
        امّا في ما يتعلّق بمسار الاهتمام المؤسساتي بالمرأة في تونس فيُعد مطلع التسعينات و ما شهده من إنشاء وزارة خاصة بالمرأة، وتأسيس مركز الدراسات والبحوث والإعلام والتوثيق حول المرأة كهيئة علمية تابعة للوزارة، الانطلاقة المؤسساتية الأولى التي جعلت من المرأة محورا لتوجه بحثي ودراسي. وقد أوكلت الوزارة المستحدثة للمركز مهام تطوير الدراسات والبحوث حول المرأة وجمع البيانات والمعطيات حولها،ونشر كل المعلومات المتعلقة بها، الى جانب إعداد تقارير دورية حول تطور وضعيتها. ويذكر أن "الكريديف"،على حداثة عهده،  أنجز كهيكل بحثي متخصص في شؤون المرأة عددا مهمّا من الدراسات النوعيّة والكميّة التي قامت بتشخيص واقع المرأة التونسيّة في مجالات عديدة كالريف والمدينة والشغل والثقافة و الابداع والصناعات التقليديّة وغيرها.
أما في ما يتعلّق بمقاربات النوع الاجتماعي فيعتبر "الكرديف" من أوائل المبادرين باستخدام هذه المقاربات في بحوثه ودراساته وقواعد بياناته. إلا أنه و بالرغم من هذا الاهتمام الرسمي بالبحوث والدراسات حول المرأة والنوع الاجتماعي ولاسيما في علاقتها بالتنمية فإن مسار التمأسس العلمي في مستوى برامج التدريس الجامعي والدراسات العليا بقي دون ذلك ، إذ لم تشهد الجامعة التونسيّة ولاسيما أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية بروز تخصصات معرفيّة مرتبطة بشكل مباشر بالدراسات حول المرأة إلاّ مؤخرا وذلك في سنة 2003 من خلال بعث  ماجستير متخصص في الدراسات النسويّة بالمعهد العالي للعوم الإنسانية بتونس ، علما أن حجم الدراسات والبحوث الجامعيّة سواء في مستوى رسائل التخرّج أو الماجستير أو الدكتوراه المتعلّقة بالمرأة خاصة في أقسام علم الاجتماع الثلاثة تبقى على قدر كبير من الأهميّة من حيث الكمّ.
         وكمحاولة لتقريب حجم هذا الاهتمام قمنا بجرد لمختلف رسائل الماجستير وما كان يسمّى بشهادة الكفاءة في البحث المعادلة لها ورسائل الدكتوراه المناقشة بقسم علم الاجتماع بكليّة الآداب والعلوم الإنسانية والمتعلّقة بشكل مباشر بالمرأة، وقد تمّ حصر خمسين رسالة بدءا من سنة  1970 و الى سنة  2004 ، وهو ما يبرزه بكل وضوح الرسم البياني التالي:











وتجدر الإشارة إلى أن عددا من هذه الدراسات المنجزة حديثا والمتصلة بشكل أو بآخر بالمرأة سواء في مستوى كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة تونس أو رسائل الماجستير المتخصص بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية، أخذ في التوجه نحو استخدام مقاربات النوع الاجتماعي كأطر نظريّة يتمّ توظيفها في البحث، وهو مؤشّر هام برأينا يعزّز مسار التبنيّ الأكاديمي لمثل هذه المقاربات بالجامعة، ويزكّي ما تم تحقيقه من خطوات في هذا المجال .
         ولا بدّ من التذكير بأنّ تأخر مسار الإرساء الأكاديمي والجامعي لدراسات المرأة والنوع  الاجتماعي في تونس بشكل خاص وفي العالم العربي بشكل أعم، يعود برأينا بدرجة أولى إلى قلة مبادرة المختصين والمهتمين بشأن العلوم الإنسانية والاجتماعية والمنشغلين بقضايا المرأة في اتجاه تكثيف المحاولات وإثارة انتباه الأكاديميين ومختلف الجهات العلمية المتخصصة بأهمية تأسيس وتركيز حقول تعنى بدراسات المرأة والنوع الاجتماعي.   

الخاتمة
لأن المرأة موضوع حمّال أوجه، شائك ومعقد،  لم يكن من الهيّن، شأنه شأن كل المواضيع ذات الحساسيات المفرطة، تبلوره كحقل بحث ودراسة، وبالرغم من التطور الكمّي والنوعي لمختلف مباحث العلوم الإنسانية والاجتماعيّة منذ لحظات بروزها، بقي مبحث الدراسات حول المرأة بعيدا عن حلبات الفكر والمعرفة إلى وقت قريب جدا، كما ظلّ الخوض في متاهات موضوع المرأة والمطالبة بحقوقها لصيقا بأجواء السياسة والتمرّد التي نسجتها حوله أصوات الحركات النسويّة في كل من الولايات المتحدة الأمريكيّة وفرنسا منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، أكثر من ارتباطه بساحات العلم والبحث.
         ومنذ السبعينات خلقت أصداء مناضلات الحركة النسويّة الأمريكيّة أجواء ملائمة فُتحت فيها أقسام الجامعات الأمريكيّة أمام ما سمي بالدراسات النسويّة التي دشّنت مسار التمأسس العلمي للدراسات الأكاديميّة حول المرأة، وقد ساهم ذلك في بدايات تركّز تراكمات معرفيّة حولها، توسّع مداها باتجاه فرنسا ثم مختلف دول العالم لتؤول فيما بعد إلى بروز حقل دراسات النوع الاجتماعي باعتبارها تتأسس حول مفهوم ومقاربات جامعة تحيط بشواغل كل من الرجال والنساء معا.
ويمكن القول بأن هذا التطور والتحوّل الفكري من معالجة قضايا المرأة كإشكالية منفردة، كانت في حالات عديدة تقارب في إطار حقل "الدراسات حول المرأة" وكأنها طرف نقيض للرجل،  إلى تناولهما كعنصرين أساسين في إشكالية واحدة ضمن مقاربات النوع الاجتماعي، يعتبر تحوّلا عبقريّا نسجته المرأة بذكاء ملفت لتزكّيه وتتبناه المنظمات والهيئات الدوليّة، فتتأسّس له بذلك مشروعيّة فكريّة وسياسيّة لم يعد بالإمكان القدح فيها أو التراجع عنها رغم بعض المعارضات التي تطفو على السطح من هنا و هناك.
ان المرونة الفكرية لمفهوم النوع وتجاوزه لمنطق التضاد بين الرجل والمرأة ونضجه في التعاطي مع مسألة الذكر والأنثى، خوّلت له تطوير نفسه ومقارباته وجملة شواغله واهتماماته، ومكنته تدريجيا من اقتحام عدد من فروع العلوم الانسانيّة ليتدعّم من يوم لآخر مسار حضوره كحقل معرفي قائم الذات.
وقد يسّرت ولادة مفهوم النوع الاجتماعي اختصار مسيرة مأسسة الدراسات العلمية المتعلّقة بموضوع المرأة من خلال إعادة إنتاج الموضوع في صيغة جديدة اعتبرت المرأة في علاقتها التكامليّة بالرجل جزءا من ظواهر النوع الاجتماعي كما مثّل ذلك عمليّة "سحب بساط "ذكيّة من تحت أقدام الرافضين والمناهضين لحضور المرأة في باحات العلم والمعرفة.
         ومع تسليمنا في نهاية المطاف باعتبار مقاربات النوع الاجتماعي ضرب من ضروب المعرفة المرتبطة بسياق سوسيوتاريخي اصطلح على تسميته بالعولمة  ألا يمكن للمتتبع أن يستجلي خيوطا رابطة بين هذه وتلك؟ ألا يمكن أن يتحسّس ذلك في تلك النزعة التجزيئيّة الجامعة التي تتأكد في كلا منهما، والمتمثّلة أساسا في اهتمام بالأجزاء وبالأطراف يسير بالتوازي مع مقاربة شموليّة تحاول التأليف بين مختلف تلك الأجزاء وصهرها في محور واحد؟
ان مقاربات النوع الاجتماعي تمثّل تأكيدا على ضرورة الاهتمام بالمرأة وتعزيز اندماجها في المجتمع ولكنها في ذات الوقت تهتم بالرجل باعتبار ما يربطهما من علاقة جامعة، ألا يتقاطع ذلك مع أنفاس هذه العولمة التي هي بدورها تجزيئيّة جامعة فهي دعوة للإحاطة بمختلف دول العالم وبمختلف الشرائح الاجتماعية وبمختلف الثقافات والخصوصيات وهي في ذات الوقت نزعة لصهر كل ذلك في نمط واحد يشكّـل ويصاغ بأسلوب واحد؟ وهل لكلّ ذلك علاقة بازدواجية الطرح وثنائية التفكير التي أصبحت تميّز توجهات هذه العولمة فهي جهر بمساعي الاستقطاب واحتضان لمختلف الشرائح الاجتماعيّة

([i] ) في فلسطين تقدم جامعة بير زيت برنامجا في مستوى الدراسات العليا اسمه النوع الاجتماعي : القانون ودراسات التنمية، كما تقدم جامعة النجاح في نابلس برنامجا في مستوى  الإجازة في علم الاجتماع يحمل عنوان المرأة والمجتمع، وتأمّن كذلك جامعة القدس  شهادة جامعيّة في مستوى الإجازة تحمل عنوان التنمية الاجتماعيّة والأسرة. أما في تونس فإن المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس  يمكنح شهادة  ماجستير متخصصة في الدراسات النسويّة  وذلك منذ  سنة 2003 كما يتمّ في  الأردن تقديم ماجستير متخصص في دراسات المرأة منذ 1998  . وتقدّم جامعة أحفاد في السودان برنامجا في مستوى الدراسات العليا بعنوان "النوع الاجتماعي والتنمية" أما في   مصر فإن بالجامعية الأمريكيّة تخصصا في دراسات النوع الاجتماعي في مستوى الإجازة في العلوم الإنسانية والاجتماعيّة و كذلك الحال  في الجامعة الأمريكية في لبنان ، و لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع  الى البحث الموسوم بـ  " دراسات المرأة في الجامعات العربيّة "  ورقة مقدمة طرف سلوى جمعة الشعراوي لمنظمة المرأة العربيّة ضمن الدورة التدريبيّة حول إدماج  مفهوم  النوع الاجتماعي في مناهج البحث، القاهرة 8-11 ماي 2006 .

Previous Post Next Post