شروط  صحة التكليف بالفعل :
يشترط في الفعل حتى يصح التكليف به عدة شروط ، منها :
1.               أن يكون معلوماً للمكلف [1]علماً حقيقياً حتى يتصور قصده إليه وقيامه به كما هو مطلوب منه ، فلا يصح التكليف بالمجهول .  فلا يطالب المكلف بالصلاة والزكاة والحج وترك الربا والخمر إلا بعد أن يعلم حكم الله تعالى بالإيجاب أو التحريم .
وكذلك فإن التكليفات التي جاءت في القرآن منها ما كان مجملاً ، ولا يصح التكليف بها إلا بعد بيانها ، كالصلاة والزكاة فقد بيّنها رسول الله r على وجه ينفي إجمالها بما له من سلطة بيان أحكام القرآن الكريم { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (  النحل 44 .
والمراد بعلم المكلف : إما علمه فعلاً ، أو إمكان علمه : بأن يكون قادراً بنفسه أو بواسطة على معرفة ما كلف به ، بأن يسأل أهل العلم عما كلف به ، ووجوده في دار الإسلام قرينة على إمكان علمه ، إذ لا عذر للجهل بالأحكام في دار الإسلام .
ولهذا لو أسلم رجل في دار الحرب وجهل وجوب الصلاة لم يلزمه قضاؤها إذا عرف الوجوب بعد ذلك . وإذا شرب الخمر جاهلاً بالتحريم لم يعاقب على فعله إذا رجع إلى دار الإسلام .
2.               أن يكون الفعل المكلف به مقدوراً للمكلف [2] : أي يمكن للمكلف أن يفعله أو أن يتركه ، إذ المقصود من التكليف الامتثال ، فإن خرج الفعل عن قدرة المكلف وطاقته فيكون التكليف عبثاً ينزه عنه الشارع الحكيم . 
 ويترتب على هذا :
‌أ.                  لا تكليف بالمستحيل [3]، سواء أكان مستحيلاً لذاته أم كان مستحيلاً لغيره .
 والمستحيل لذاته : هو ما لا يتصور العقل وجوده : كالجمع بين النقيضين ، كالعدم والوجود  ، وتواجد شخص في مكانين في وقت واحد [4].
والمستحيل لغيره : هو ما لم تجر العادة بوقوعه وإن كان العقل يُجَوِّزُ ذلك ، كالطيران بغير آلة .
 والتكليف بالمستحيل بنوعيه تكليف بما لا يطاق . ولهذا لم يأت به الشرع [5] .
‌ب.             لا يصح شرعاً التكليف بالأمور الفطرية التي طبع عليها الإنسان ، فلا تكليف بما لا يدخل تحت إرادة الإنسان ، كالانفعال عند الغضب ، والفرح والحزن ، والحب والبغض . فهذه لا يصح التكليف بها لأنها أمور وجدانية تستولي على النفس ولا تخضع لإرادة الشخص واختياره ، وكل نص يفيد بظاهرة التكليف بشيء مما لا قدرة للإنسان عليه فهو مصروف عن ظاهره إلى التكليف بما يسبق ذلك الشيء أو يعقبه . ومن ذلك : قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (  آل عمران 102 ) ، فهو ينهى عن الموت على غير الإسلام والنهي للتحريم ، ولا قدرة للإنسان على دفع الموت ، وبالتالي فهو مطالب بما يسبق الموت من الالتزام بالإسلام .
وعليه فإنه مطلوب منه أن يلتزم الإسلام دائماً فإن ماتَ ماتَ على ما هو مطلوب منه .
وكذلك قوله r : " لا تغضب " [6] ، والغضب شيء فطري ، فإن المطلوب هو الابتعاد عن كل ما يُغضب ، وأن يمسك الإنسان نفسه عند الغضب ، وأن يفعل ما يؤدي إلى ذهاب غضبه وغيظه ، وهذه أفعال تقع في مقدور الإنسان ، ويمكنه القيام بها أو تركها.
ومنه أيضاً : تكليف الإنسان أن يفعل غيرُه فعلاً ، أو يكف غيرَه عن فعل : فإنه لا يصح شرعاً ، لأنه تكليف للإنسان بما لا يدخل تحت إرادته وقدرته ، إذ المطلوب منه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . فلا يكلف شخص بأن يتصدق عن غيره أو يصلي ويصوم ، أو أن يكف صديقه عن فعل المحرمات . وإن ما يمكن التكليف به هو أن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ، وهذا فعل مقدور له ، ويكلف به بحسب طاقته عملاً بقولهr  [7] " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ".
3.             أن يعلم المكلف أن الفعل المكلف به صادر ممكن له سلطة التكليف وهو الله تعالى ، وبهذا يكون التنفيذ طاعة وامتثالاً لأمر الله تعالى .
ولهذا فإن الفقهاء في مباحثهم يتعرضون لذكر الأدلة وحجيتها لإقامة الحجة على المكلفين وحملهم على الطاعة والامتثال [8] .
       ثم إن من المعلوم أن عمل الفقيه هو استخراج الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية ، وهو يبحث في فعل المكلف ، ولا بد أن يكون الحكم الشرعي الذي توصل إليه مستنداً إلى دليل شرعي معتبر .
4.                أن يعلم المكلف أنه مأمور بالمكلف به ، وإلا ـ أي إن لم يعلم أنه مأمور به ـ  لم يُتصور منه قصد الطاعة والامتثال بفعله ، إذ الطاعة موافقة الأمر ، والامتثال : هو جعل الأمر مثالاً يتبع مقتضاه ، فإن لم يعلم الأمر لم يتصور موافقته له ، ولا نصبه مثالاً يعتمده ، فيكون أيضاً من تكليف ما لا يطاق [9] .
5.                  أن يكون المكلف به معدوماً ـ أي غير موجود عند الأمر به  ـ ، إذ إيجاد الموجود محال ، فلا يُقال لمن بنى حائطاً ، أو كتب كتاباً : ابنه ، أو اكتبه ، مع بقائه مبنياً أو مكتوباً مرة أخرى . فالتكليف بالفعل إما أن يتعلق بالفعل قبل حدوثه : كالحركة قبل التحرك ، وهذا لا خلاف في جوازه ، وإما أن يتعلق به بعد حدوثه وهذا لا خلاف في امتناعه [10]. فلا يقال لمن أكل طعاماً وانتهى منه " لا تأكل منه " .

تقسيم الحنفية للمحكوم فيه :       
ويرى الحنفية أن المحكوم فيه من حيث صلته بحق الله تعالى أو حق العباد أربعة أقسام [11]:
1.               ما كان حقاً خالصاً لله تعالى .
2.               ما كان حقاً خالصاً للعبد .
3.               ما اجتمع فيه الحقان وحق الله تعالى فيه غالب.
4.               ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد فيه غالب .
وفيما يلي بيان لتلك الأقسام الأربعة في الفروع التالية :
الفرع الأول :   ما كان حقاً خالصاً لله تعالى [12] :
ويقصد بحق الله تعالى تحقيق مصلحة ونفع عام للمسلمين من غير نظر إلى مصلحة فرد أو أفراد معينين ، وينسب إلى الله تعالى تعظيماً ، وهذا الحق لا يجوز لأحد التنازل عنه أو التهاون فيه لعظم شأنه ، وشمول نفعه ، أو لشدة خطره ، ويقابله في القوانين الوضعية ما يعرف بالنظام العام .
وأما حق العبد : فهو ما قصد بتشريعه مصلحة خاصة  .
وحقوق الله تعالى ثمانية أنواع [13] :
1.               عبادة خالصة ليس فيها معنى المؤونة أو العقوبة : كالإيمان ، والصلاة ، والحج...، فليس في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته أي معنى للمؤونة ، ولا تعتبر عقوبة ، بل هي عبادة خالصة لله ، وتشترط في هذه العبادة النية ، والإخلاص لله في ذلك ، والمقصود بهذه العبادات إقامة الدين .
2.               عبادة فيها معنى المؤونة : كصدقة الفطر، فإنها عبادة لكونها صدقة يُتقرب بها إلى الله ، وتشترط فيها النية ، ويتعلق وجوبها بالوقت ، وتصرف في مصارف الزكاة .
أما الزكاة : فهي عبادة خالصة لله تعالى عند الحنفية ، ولهذا لا تصير حقاً للفقراء إلا بعد صرفها إليهم ، أما قبل الصرف إليهم فهي حق لله تعالى ، ولذا فهي لا تجب عندهم في مال الصبي والمجنون .
أما عند الشافعية فهي عبادة فيها معنى المؤونة ، لأن حق الفقير ثابت فيها قبل صرفها إليه ، ولذا تجب في مال الصبي والمجنون . وتشترط في هذه العبادة النية لأدائها .
3.     مؤونة فيها معنى العبادة : كالعشر، ونصف العشر فيما تنبته الأرض .
 والمؤونة فيه من ناحية أن به دوامَ الأرض في أيدي أصحابها ، وفيها معنى العبادة : لأنها من قبيل الزكاة عن الخارج من الأرض ، ولهذا تصرف في مصارف الزكاة .
4.   مؤونة فيها معنى العقوبة : كالخراج . فهو مؤونة من حيث إنه ضريبة تدفع لبقاء الأرض في أيدي أصحابها غير معتدى عليهم .
 وأما إنه عقوبة : فلما فيه من الانقطاع عن الجهاد بسبب استثمار الأرض ، وذلك سبب للذلة والمهانة .
5.               عقوبة كاملة : كحد الزنى ، وحد السرقة ، وحد الشرب ، وحد البغاة ،..........
فهذه كلها حقوق خالصة لله تعالى ، لأنها شرعت لتحقيق مصلحة المجتمع ، والحاكم هو الذي ينفذها ، وليس لأحد إسقاطها أو التهاون في إقامتها .
6.               عقوبة قاصرة : أي ناقصة : كحرمان القاتل من الميراث والوصية .
 أما إنه عقوبة : فلأنه غرم مالي لحق القاتل بسبب القتل . 
وأما إنها قاصرة : فلأنها عقوبة مالية ، وهي قاصرة بالنسبة إلى العقوبة البدنية ، وكذلك اقتصر أثره على امتناع ثبوت ملك جديد للقاتل من جهة المقتول مع وجود سبب الملك وهو القرابة .
7.               عقوبة فيها معنى العبادة : كالكفارات . فهي عقوبة من حيث إنها وجبت جزاءً على أفعال محظورة ، وفيها معنى العبادة لأنها تتأدى بما هو عبادة : كالصوم والعتق والإطعام .
8.               حق قائم بنفسه : وهو الثابت بذاته من غير أن يتعلق بذمة العبد ليؤديه طاعة لله ، كخمس الغنائم ، وما يستخرج من المعادن ، ونظراً لأنه حق قائم بنفسه فلا تشترط له النية عند إخراجه .  

الفرع الثاني : ما كان حقاً للعبد : 
وهو ما قصد به تحقيق مصلحة خاصة بالعبد : كبدل المتلفات ، وملك المبيع للمشتري ، وملك الثمن للبائع ، وحق الزوج في الطلاق ، وحق الشفعة........
وحكم هذا القسم : أن لصاحبه الحق في الاستيفاء أو التنازل عنه [14] مجاناً أو على عوض .

الفرع الثالث : ما اجتمع فيه الحقان وحق الله مقدم : 
كحد القذف عند الحنفية [15]، ـ ويرى الشافعية أن حق العبد هو الغالب فيه فيجري فيه الإرث ـ ، إذ القذف جريمة تمس الأعراض ، وتشيع الفاحشة في المجتمع ، وفي العقوبة صيانة للأعراض ، وردع للمجرمين ، وإخلاء للمجتمع من الفساد ، وهذا هو حق الله تعالى .
 ثم إن في هذه العقوبة مصلحة خاصة للمقذوف ، إذ فيها إظهار شرفه وعفته .
ولكون حق الله تعالى غالباً فيه ، فإنه لا يسقط بإسقاط العبد له ، ولا يفوض إلى المقذوف إقامة العقوبة ، بل الإمام هو الذي يستوفيها لأنها حق لله تعالى .


الفرع الرابع : ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد مقدم :
 كالقصاص [16] ممن قتل عمداً عدواناً . فهو باعتبار أن فيه مصلحة عامة ـ وهي صيانة الدماء وحفظ الأمن وتقليل الجرائم ـ ، كما إن الإنسان مملوك لله تعالى ، ولا يحل الاعتداء على أي جزء منه ، أو إيذاؤه إلا بحق ، ومن هنا يكون حقاً لله تعالى .
وباعتبار أن القصاص يحقق مصلحة لأولياء القتيل هي شفاء صدورهم ، وإزالة الحقد والانتقام من قلوبهم يكون فيه حق للعبد .
  وأما كون حق العبد غالباً فيه : فلأن مساس الجريمة وأثرها بالمجني عليه وأوليائه أكثر وأقوى من مساسها بالمجتمع ، ولذلك كان لولي القتيل أن يعفو عن القاتل أو أن يأخذ العوض وهو الدية . كما إنه لا يُقتص من الجاني إلا بطلب من المجني عليه أو وليه { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } (  الإسراء33 ) .
ولما كان في القصاص حق لله تعالى ، فإن القاتل إذا نجا من الموت بالعفو فإن الواجب عليه أن يخرج كفارة [17]، وهي تحرير رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، وللدولة أن توقع عليه عقوبة تعزيرية إن رأت في ذلك مصلحة للمجتمع .



[1] ) القرافي ، الذخيرة 1 / 69 ، 5 / 372 ، المغربي ، مواهب الجليل 4 / 245 ، 6 / 232 0
[2] ) أمير باد شاه ، تيسير التحرير 1 / 142 0
[3] ) ذهب الجمهور إلى عدم جواز التكليف بالمستحيل ، وهو الراجح ، وقال جمهور الأشاعرة وبعض معتزلة بغداد بالجواز ، الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1 / 191 ، ابن النجار الفتوحي ، شرح الكوكب المنير 1 / 269 ، أمير باد شاه ، تيسير التحرير 1 / 139 ، الشوكاني ، إرشاد الفحول 9  0
[4] ) الإسنوي ، نهاية السول 1 / 347  0
[5] ) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1 / 192  الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 221 ،  العبد خليل ، مباحث في أصول الفقه 128 0
[6] ) الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب الأدب ، باب الحذر من الغضب 7 / 35 0
[7] ) مسلم ، صحيح مسلم ، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان 1 / 167 0
[8] ) العبد خليل ، مباحث في أصول الفقه 128 0
[9] ) الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 222 0
[10] ) المرجع نفسه / 223 0
[11] ) البزدوي والبخاري ، كشف الأسرار 4 / 230 ، أمير باد شاه ، تيسير التحرير 1 / 150 0
[12] ) الزحيلي ، وهبة ، أصول الفقه الإسلامي 1 / 153 ـ 155 0
[13] ) البزدوي ، أصول البزدوي / كشف الأسرار 4 / 231 ، أمير باد شاه ، تيسير التحرير 1 / 175 0
[14] ) السرخسي ، المبسوط 9 / 110 ، ابن عابدين ، حاشية ابن عابدين 5 / 481 0
[15] ) السمرقندي ، تحفة الفقهاء 3 / 145 ـ 147 ، ابن عابدين ، حاشية ابن عابدين 4 / 73، صدر الشريعة ، التوضيح 2 / 154 ،
[16] ) صدر الشريعة ، التوضيح 2 / 155 ، والتلويح 2 / 155 0
[17] ) ذهب الحنفية إلى أنه لا كفارة على القاتل عمداً مستدلين بقوله تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } ( النساء93) ، ووجه ذلك : أن الله تعالى جعل الخلود في النار جزاء القتل العمد ، والجزاء اسم لما يكون كافياً ، وهذا ينفي وجوب شيء آخر ، إذ لو وجب شيء آخر لم يبق هو كافياً .
السمرقندي ، طريقة الخلاف بين الأسلاف / 532 0
وذهب الشافعية إلى وجوب الكفارة في كل قتل غير مباح 0 الغزالي ، الوسيط في المذهب 6 / 391 0

Previous Post Next Post