المحكوم فيه :
المطلب الأول : مفهوم المحكوم فيه :
 وهو فعل المكلف الذي تعلق به خطاب الشارع ،  وهو لا يكون إلا فعلاً إذا كان خطاب الشارع حكماً تكليفياً ، كالصلاة والصوم والجهاد .
فهو في الحكم التكليفي : فعل المكلف ، لأن هذا الفعل هو الذي يوصف بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما ، وهو الذي يكون عزيمة أو رخصة ، صحيحاً أو باطلاً أو فاسداً .
أما في الحكم الوضعي : فقد يكون فعلاً للمكلف ، كما في العقود والجرائم ، وكالطهارة التي جعلها الشارع شرطاً للصلاة ، وكالبيع الذي جعله سبباً للملكية ، وكالقتل الذي جعله مانعاً من الميراث [1] .
وقد لا يكون فعلاً له ، ولكن له ارتباط بفعله : كدلوك الشمس : فإنه ليس من فعل المكلف ، ولكنه مرتبط بفعل المكلف من ناحية أن الدلوك سبب لوجوب صلاة الظهر التي هي من أفعال المكلف ، وكشهود الشهر الذي جعله الشارع سبباً لوجوب الصيام ، والصيام فعل للمكلف .
فالأحكام كلها تتوجه إلى فعل المكلف ابتداءً أو انتهاءً .
والمحكوم فيه يسمى أيضاً المحكوم به ، ولكن التسمية الأولى أفضل وأولى [2].
   والمحكوم به هو فعل المكلف ، فمتعلق الإيجاب يسمى واجباً ، ومتعلق الندب يسمى مندوباً ، ومتعلق الإباحة يسمى مباحاً ، ومتعلق المكروه يسمى مكروها، ومتعلق التحريم يسمى حراماً [3] .
ففي قوله تعالى : (وآتوا الزكاة) : الإيجاب المستفاد من هذا الحكم تعلق بفعلٍ للمكلف ، وهو إيتاء الزكاة ، وجعله واجباً .
وفي قوله تعالى : (ولا تقربوا الزنى) : التحريم المستفاد من هذا النهي تعلق بفعل للمكلف وهو الزنى ، فجعله محرماً .
وفي قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (  البقرة 282 ) ، الإرشاد المستفاد من هذا الحكم تعلق بفعل المكلف وهو كتابة الدين ، فجعله مندوباً .
ولكن : ليس كل فعل يصدر عن الإنسان بصالح لأن يكون محكوماً فيه في الحكم الشرعي ، إذ الأفعال الإنسانية من حيث صلاحيتها للحكم شرعاً أنواع [4] :
1.                الأفعال التي تخرج عن طاقة الإنسان فلا يكلف أداءها لتعذر قيامه بها ، سواء أكان خروجها عن طاقة الإنسان لاستحالتها :
  أ )  عقلاً : كالجمع بين النقيضين ، كالنوم واليقظة في وقت واحد ، أو الجمع بين الضدين : كإيجاب الفعل وتحريمه في وقت واحد وعلى نفس الشخص .
ب ) أم كان لاستحالتها عادة وعرفاً : كرفع الجبل ، وتفكير فاقد العقل ، وكتابة فاقد اليدين ، ومشي فاقد الرجلين ، وكطيران الإنسان في الهواء .
ج )  أم كان لمنافاتها التامة لما طبع عليه من شهوتي الطعام والشراب ، فلا يكلف إزالة ما طبع عليه من حاجة إلى الطعام ورغبة فيه ، كالامتناع عن شرب الماء ، أو النوم ، وكالانفعال عند الغضب ، والحزن والفرح ، والحب والبغض .
 فكما إن الإنسان لا يطالب بتحسين ما قبح من خلقته ، كذا لا يطالب بالامتناع عن حاجاته الغريزية تماماً ، وإنما يطالب بكبح جماحها والاعتدال في إشباعها من حلال .
2.                الأفعال التي تكون في حدود الطاقة البشرية ، ولكن يكون فيها من العناء ما يتجاوز المعهود في الأعمال العادية ، بأن تكون المواظبة على إحداها مؤدية إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في صاحبه : في نفسه أو ماله أو حالٍ من أحواله .
وهذا النوع لا يقع التكليف به كذلك للأدلة التالية :
‌أ.                   ما ورد في كتاب الله : مثل قوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (  البقرة185 ) ، وقوله تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (  الحج 78 ). وقوله سبحانه : {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } (  المائدة 6 ) ، ونحو ذلك من الآيات التي تقرر أن الشريعة الإسلامية بنيت على اليسر ورفع الحرج ودفع المشقة .
‌ب.              ما ورد في السنة مثل قوله r : " بعثت بالحنيفية السمحة " [5] ، وقوله r : " إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا " [6]. وقول عائشة رضي الله عنها : "ما خُيّر رسول الله r بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً " [7] .
‌ج.               ما شرع من الرخص : من قصر الصلاة وجمعها في السفر ، والفطر في رمضان عند السفر وعند المرض ، وتناول المحرمات عند الضرورة، وأمثالها . وهذا يدل على أن الشارع لا يقصد من التكليف إعنات المكلف ، بل يرفع الحرج عند وقوعه .
3 . الأفعال التي لا تخرج عن طاقة المكلفين ووسعهم ، وليس فيها من العناء خروج عن المعهود في الأعمال العادية ، وإن ثقلت على النفس باعتبارها تكليفاً ، إذ إن العمل وإن كان يسيراً إذا وقع التكليف به أحس المكلف بعبء لم يكن قبل التكليف يحس به. وهو شعور فطري لا يمكن دفعه .
فالسعي إلى المعاش بالحرف والصناعات لا يسمى مشقة ، بل إن المتخلي عنه يوصف بالكسل والضعف .
وهذا النوع من الأفعال هو مجال التكليف الشرعي ، وهو الذي يكون محكوماً فيه ، فإذا طرأ عليه ما يجعله من النوع السابق كان ذلك باعثاً على التخفيف المستمد من الرخص الشرعية ، وهذا معنى قولهم : ( المشقة تجلب التيسير ) .
وعلى هذا : نلاحظ أن المشقة ليست غرضاً من أغراض التشريع ، وإنما هي لازمة للأعمال نتيجة لاختلاط الملاذ بالآلام في هذه الحياة ، وعدم تمحض الأعمال فيها لأحد الأمرين .
وليس للمكلف أن يقصد إلى المشقة ويستزيد فيها رغبة في الثواب ، فمن كان له طريقان إلى المسجد مثلاً لا ينبغي أن يذهب إليه من أبعدها بقصد الاستزادة من الأجر ، ولكن حين يخير بين عملين من أعمال الخير يحسن به أن يختار أعظم العملين مشقة لعظم الثواب فيه .

[1] ) العبد خليل ، مباحث في أصول الفقه 127 0
[2] ) قال ابن الهمام " المحكوم فيه أقرب من المحكوم به " ، وبيّن أمير باد شاه ذلك بقوله : " يريد أن التعبير عن فعل المكلف بالمحكوم فيه أقرب من حيث المناسبة ، وأولى من حيث التعبير عنه بالمحكوم به كما ذكر صدر الشريعة والبيضاوي وغيرهما "  / تيسير التحرير 2 / 184 – 185 0
[3] ) الشوكاني , إرشاد الفحول  9 0
[4] ) القرافي ، الذخيرة 1 / 72  خلاف ، علم أصول الفقه 129 0
[5] ) رواه الإمام أحمد ـ المسند ، مسند أبي أمامة الباهلي ، رقم الحديث 21260 ، والطبراني في المعجم الكبير ، 7 / 187 ، حديث رقم 7617 ، 7776 0( صحيح ) ، الألباني ، السلسلة الصحيحة 7 / 125 رقم 2924 0
[6] ) البخاري ، الجامع الصحيح ـ باب الدين يسر 1 / 69 0
[7] ) المرجع نفسه ، باب إقامة الحدود ، حديث رقم 6288 0

Previous Post Next Post