البنية الفنية
       عالجت سميحة خريس وقائع لحظات تاريخية هامة مستلهمة الماضي, مستقصية شروطه في الزمان والمكان, من خلال رؤية فكرية متعمقة تؤهله لأن يكون عملاً معاصراً؛ فلم يكن هم الروائية سرد وقائع التاريخ على نحو تسجيلي, بقدر ما كان همها توظيف شخصيات التاريخ ووقائعه عبر خطاب فكري وسياسي وإنساني وفني وجمالي معاصر, تتوجه فيه إلى مثقف معاصر في سياق اجتماعي ثقافي سياسي معاصر. وكانت الرواية حريصة في بداية كل فصل على تحديد الفترة الزمنية على نحو دقيق, مما يعزز تاريخية الحدث التاريخي, كذلك حظيت الأمكنة الثلاثة المختلفة التي طوف فيها البطل( الكرك, سيناء, الفيحاء) باهتمام واسع باعتبارها مسرحاً للأحداث التي مرت بيحيى, وهو الاهتمام الذي ينبئ عن دراسة دقيقة لكثير من السمات الجغرافية والبيئية التي كان لها دور كبير في الظاهرة التاريخية, أحسسنا فيها أنها بقيت محكومة بمحددات المكان التي يفرضها التاريخ, كما اطلعت عليه, وأنبأتنا بذلك عبر كم من المصادر التاريخية المشهورة, من مثل: ( خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر), (عيون الحكمة لابن سينا), وهو الكتاب الذي رافق يحيى منذ البدايات وكان له أثره البين فيه, ( الأعلام للزركلي), وغيرها من مراجع أعانت الروائية على الإحاطة بالوقائع العسكرية والسياسية الكبرى, كذلك أمدتها بأخبار القادة والسلاطين والخلفاء والأمراء والأعيان, التي كنا نصادفها بين الفينة والأخرى, وهو ما يمكن رصده في الرواية على نحو مقتدر مارست فيه الروائية خيالها وإبداعها على نحو يخدم البناء الفني لعملها, إذ قامت بابتداع شخصيات تمثل نتائج اجتماعية وإنسانية في عصر الأحداث, انطلاقاً من فهمها وتحليلها للعلاقات الاجتماعية السائدة, وقواها الفاعلة, محافظة على محددات المكان التي يفرضها التاريخ, إذ لا سبيل لاستحضار ملامح مكانية تتعارض والتاريخ الذي اطلعت عليه. ولا سبيل أيضاً إلى ابتداع شخصيات خارجة عن شرائح المجتمع في السياق التاريخي الذي تستوحيه[1].
يلاحظ قارئ هذه الرواية أن هناك دافعاً اجتماعياً خارجياً تتعامل معه الكاتبة من خلال خلق إطار فني جمالي يعمل على تكثيف هذا الواقع,  بما يدل على إيمان بقدرة الأدب على اتخاذ مواقف نقدية من العالم الاجتماعي خارج النص, ومن هنا تفترق هذه الرواية عن كثير من روايات ما بعد الحداثة التي اعتمدت حالة من الفوضى والتشويش في عمليات التلقي والاستقبال, ومن هنا لمسنا اهتماماً بالشكل والنظام والترتيب, وكان التكامل صفة حققت نوعا ًمن الوحدة فيها, وهو ما كان يتم عبر أطر فنية ما فتئت تؤطر الحدود الفاصلة بين عالم النص والعالم الخارجي. كان بإمكان القارئ أيضا أن يتلمس ترابطاً منطقياً يربط أحداث القصة, وهو ما كان له أثره في تحقيق صفة الوضوح, والتخلي عن تعقيدات تقنيات ما بعد الحداثة.
أما عن الشخصيات فبرزت ذاتاً تجريبية وليست مجرد كائن من ورق أو تركيب خيالي, ومن هنا جاء يحيى وهو يتحرك داخل إطار الرواية ممثلا لجانب غاية في الأهمية من جوانب التجربة الإنسانية وطبيعة المواقف الوجودية, وكان الغرض من بنائه, مساءلة المواقف الإنسانية والثقافية والاجتماعية للأفراد في العالم الخارجي, والبحث عن ممكنات ثقافية أخرى للإشكالات الوجودية والثقافية التي تواجه الذات الواقعية في الخارج. لذلك كان من الضروري إبراز فاعلية يحيى الإنسانية والتذكير المتعمد بحقيقتها الواقعية لا المتخيلة, وبالتالي امتلأت الشخصية والحبكة التي اعتمدتها الرواية بذلك المحتوى الإنساني, أو إمكانية إحالتها على الواقع الإنساني خارج عالم النص, وهو ما يقصيها إلى حد بعيد عما يراه نقاد بعد ما بعد الحداثة من شوائب قص ما بعد الحداثة. وهو ما كانت له تداعياته من حيث خلق حالة من التواصل والتعاطف القويين بين القارئ والشخصية المتخيلة, بما تعرضت له من أزمات, أو بما اتخذته من مواقف وتجاوز لتقنيات التغريب وكسر الألفة التي كثيراً ما تم توظيفها في أدب ما بعد الحداثة[2].
لذلك تفاعلنا ويحيى الذي كان يردد على نحو دائم أن القلب موقع الفكر والهوى, والعقل يسير الجسد, ولكن العمى عن الحق يصيب القلوب التي في الصدور, وإنه اجتاز خطوات مجهولة في مسافة ظلماء عمياء من زمانه[3]. وكانت الرواية حريصة على أن لا تقدمه دفعة واحدة؛ وإن كانت علامات مبكرة دفعتنا إلى التعاطف معه, إذ رأيناه مسامحاً مفسراً الخير الذي وقع له بالسفر, مرجعاً الفضل للأستاذ الذي كانت الغيرة قد أوغرت قلبه في البدايات. كذلك بدا قريباً إلى القلب بخروجه عن الصورة النمطية للأستاذ, مما دفع فئة من المغرضين إلى اتهامه بافتقار الوقار, خصوصاً حين يرونه خالعاً " عقاله وكوفيته أو يرميها على كتفيه, غير مراع لهيبته أو هيئته المعتادة, والتي يلاقي المعلمون والمربون التبجيل لوقارها والتزامها بالمتعارف عليه" وهو ما يدفعه إلى الإشارة إلى الرأس " مرجعاً العلم والوقار والهيبة إلى ما تحتويه الجمجمة, لا إلى ما تغطى به من منسوج الخيوط"[4].
على الأغلب نأت شخصية يحيى عن التسطيح, وكنا نتابعه حائراً متقلباً في أكثر من شأن, لذلك تصفه الرواية أنه" لا يملك رداً جاهزاً, ما زال يقلق ليله مقلباً السؤال على وجوه عديدة, يعرف في قرارة الروح أن الصمت والاستسلام ذهاب بالهمة ومرتع للظلم والظلام, لكنه لا يجد وسيلة تليق باليد لتغير المنكر, يخاف على صحبه الخائفين من خوفهم, يخاف على المتحمسين من حماستهم, ويخاف على المستسلمين من التعفن في حوض الهزيمة المفجعة.."[5]. وعن انتقام المظلومين لأنفسهم يقول: "...ولا يصير فعل النهب والضرب حلالاً إذا ما سلكه مظلوم, لا يمكن أن نرتضي الكون ساحة صراع بين مظلومين تحولوا إلى ظلمة, ونعاجاً تصير ذئاباً, فيتساوى التبر والتراب"[6]. لكن أسئلة التردد لم تعد تقف مطولاً عند بابه- وهو الأستاذ المعني ببطون الكتب- بات مقتنعاً أن التخلص من المنغصات بإيداعها زوايا النسيان والتسامح والتعالي, ليس من الحكمة في شيء..فقد وضعت جروح جسده وروحه نصب عينيه فكرة محاربة الباطل بأشد ما يتمكن المؤمن على حمل نفسه عليه, نبذ اعتراضاته السابقة على غضب الغاضبين, ولم يعد يرتضي بأضعف الإيمان, وإن لم يعثر على مسلك عملي بعد"[7].
وإذ يحيد يحيى عما رأته السلطة وأنواعها بأنه الصواب, مستغلين ما تجتاحه من شطحات صوفية, غافلين عن إمكانية أن يكون الشطح طريقاً للاقتراب من الحقيقة, فإن قراراً يُتخذ بأنه مجنون وفاقد لعقله, وحسب ما استخلصه فوكو, فإن جملة من القوانين والإجراءات التي تحدد ما يعد سوياً وعقلانياً تفلح في إسكات ما تستبعده, وبالتالي لا يمكن للأفراد العاملين في داخل ممارسة معينة مطردة أن يفكروا أو يتكلموا دون إطاعة أرشيف القوانين والقيود المسكوت عنه, وإلا فإنهم يتعرضون لوصمة الجنون أو الصمت. وبالتالي كان على السلطة أن تقر بجنون يحيى, ذلك أنه لم يشأ أن يردد صدى كل شيء سواه, ويعيد إنتاج كل ما هو قائم[8].
الشخصيات برمتها عبرت عن جوانب حقيقية قريبة من التجربة الإنسانية, وهو ما تشهد عليه- على سبيل المثال- شخصية أستاذ يحيى المولى, الذي اعترف ليحيى بغيرة الماضي, ويحيى يحاول منعه من أن يفيض في الاعتراف. وهو الندم ذاته الذي انتاب علان حين مشاهدته جسد يحيى مسجى, فعلى الرغم مما عرفنا عنه من قسوته على زوجته المريضة, وتنصله من مسؤوليات ابنته, ونفاقه للانكشارية ومبعوثي السلطان, وحتى المكائد التي كان يحيكها, فإن هذا لم يمنع من أن يبسط ملاكه نوره فوق الظل الأسود المنتشر في ضميره ليوقظ فيه المؤمن المداوم على ذكر الله في حضراته[9]. وبالمثل شهدنا الميداني - رغم تخاذله إزاء ما يرتكب من ظلم ليحيى- مستعظماً القول بالتكفير لمن قال بالشهادتين, وكان يرى أن تكفير امرئ أو أي إنسان حمل ثقيل يكسر ظهر صاحبه. يقول في هذا الشأن: "..وهل نحل دم وعرض ومال رجل نحن مثله بشر خطاؤون؟"[10]. ولعل صيغة السارد العليم الذي يعرف داخل الشخصيات وخارجها, أمّن لذات الكاتبة حركة طليقة في الكشف عن الشخصيات, بل وترك المجال مفتوحاً أمامها للحكم عليه على نحو مباشر في بعض الأحيان. وكان من الطبيعي أن يحس كل من يملك بعداً إنسانياً ثقل أم خف أن يحس بلوعة اللحظات الأخيرة, بمن في ذلك أولئك الذين تسببوا فيها, لذلك نقع في الرواية على السرد الآتي: فكر الميداني في إطراقته متمنياً سيعتذر سيعتذر, وفكر الساعور مفجوعاً, سأعتزل مهنتي والحياة, وفكر البوريني دائخاً, أي نهار مفجع طلع علينا[11].
كنا قد ذكرنا عزوف هذه الرواية عن حالة الفوضى والتشويش في عمليات التلقي والاستقبال, وهو ما كان له تبعاته على صعيد الصيرورة الزمنية, التي كانت تسير وفق حركة أمامية من الماضي إلى الحاضر, وإن كانت في بعض الأحيان قد اختارت أسلوب الأحلام, بما يتضمنه من اهتمام بالزمن المستقبلي, من خلال التنبؤ بما سيكون, ولعلها هنا تنسجم وملمح من ملامح فترة زمنية عرف عنها انتشار الاتجاهات التنبؤية. ولو تأملنا هذه الأحلام, بما تحمله من إشارات او علامات سيميائية لوجدنا أنها ترتبط على نحو كبير بذلك المصير الذي انتهى إليه يحيى, وهو المصير الذي لا ينقطع عن طبيعة يحيى المختلطة برؤى إشارية صوفية الخاصة, وهو ما تبرزه أحلام ذات طابع رمزي التفافي.
 الحلم الأول: " يرى جسده يدور عريا  في بيداء واسعة, يتطاير حولها بشر وبهائم وجبال وشجيرات قصيرة, لكنه لا ينظرها, بل يعلق عينيه في الأعالي, يرى نوراً عظيماً يعجزه عن التحديق, يواصل بلهفة تفحص الفضاء, ويشتهي أن يطير"[12].
الحلم الثاني: " رأى نفسه على ظهر سفينة فرداً, يبحر في امتداد رملي, والفضاء حوله يتقلب أرجوانياً وأزرق في سواد حالك, تتنازع بصره وبصيرته أسياف النور وأعمدة الظلمة, وتطوح ذراعيه مثل شراعين لا يقلعان, أو جناحين زغبيين لا يطيران"[13].
الحلم الثالث: " اجتاز عارياً باباً منخفضاً ناتئ المسامير, فأحنى رأسه متفادياً الارتطام بالسقف المدور الصلد المحيط بالمدخل كأنه النفق, سار, طقطقت عظامه, وأنّ عاجزاً عن الالتفات خلفه لضيق الممر, قادته خطوات الترقب والتوجس والتطلع إلى نور ساطع, أغمض جفنيه وهلة وقد أوجعه هجوم الضوء على ناظريه, فتحهما متمهلاً حذراً على صحن شديد البياض, لا سطح ولا جدران ولا حدود لهو ولا نهاية لاتساعه وامتداده, ضربه الانبهار وخالط النور دمه, فمضى يدور مترنحاً نشواناً, ثم استقام جسده على التفاف متسارع مثلما الدراويش, تمدد اللحم أجنحة تحف به..دار ودار حتى داخ وتبدد"[14].
الحلم الرابع: " جسده الثقيل يخف ويعلو..تتكشف دمشق ...يحاذي سفح قاسيون يستوي مجدداً مقترباً من السطح الترابي, فإذا به في ضريح ابن عربي..يرى ابن سينا وإلى جواره رابعة العدوية..يقف ابن رشد والحلاج وابن عربي والسهروردي ..وغيرهم من مشاهير التصوف..ينتظرون بلهفة ملامسة قدميه الأرض بينهم"[15].
وكما يحضر الاستباق عبر الحلم, فإنه يحضر صيغة سردية تتقدم الأحداث في لحظات الذروة لتنبئ القارئ على نحو مسبق بمصير يحيى المأساوي, فنقع على جمل من مثل "..تسربت الجرذان السمينة والفئران الصغيرة بين الجمع متسارعة قلقة, والتقطت أذنا الأندلسي خفق أجنحة تتخبط, وإذ حدق في الظلام المدلهم, تبينت لناظريه المدربتين على الدقة أسراب الحمام المبعثرة في غير انتظام على عرض الأفق, أوجس خيفة وصمت متفكراً"[16]. كذلك كان لفعل هيجان الحصان وفقده عند باب القلعة واختفائه في الظلمة الأثر ذاته[17]. وهو ما ينسجم وما ساد الفضاء من غموض عجيب, وما ساد الكون من حلكة خالطتها صفرة كابية, وما انتاب الهواء من سرعة حملت أتربة وذرات سناج خفية أثقلت صدور المتنفسين, ضمن أجواء حطمت فيها الخيول مصاريع وأقفال حظائرها, ولم يتمكن أحد من السيطرة عليها, ففرت مفزوعة[18].
وجدنا في أكثر من موقع أن الكاتبة تستدعي نصوصاً بعينها, وهو ما لا يتم على نحو عشوائي, فما يتم اختياره من شذرات من النصوص هنا وهناك جاء منسجماً وحالة يحيى النفسية والوجدانية والفكرية, أو بما يمكن أن يعد حالة من المشابهة الممكنة بين الحالة الشعرية التي يتضمنها النص, وتلك التي كان يحس بها يحيى. وتأتي النصوص الصوفية لتكون لها الغلبة في هذا المجال, وهو ما يظهر من خلال أكثر من شخصية صوفية؛ كان على رأسها ابن العربي الذي اهتمت الروائية بتصوير رؤى صوفية خاصة به مستمدة من انفصاله عن الواقع المادي, واتصاله أو انتمائه إلى غاية الصوفي من مجاهداته, أي المشاهدة والاتصال بالله, بما في ذلك من أحوال, على الصوفي أن يجتازها. ومن هنا تعترضنا مقتبسات مأخوذة من هذا الخطاب, ويبرز المصطلح الصوفي بكل ما يحمله من تحد في الفهم من مثل ما ينقل عن النفري في قوله: :" اقعد في ثقب الإبرة ولا تبرح, إذا دخل الخيط في الإبرة, فلا تمسكه, وإذا خرج, فلا تمده, وافرح فإني أحب الفرحان, وقل لهم: قَبلني وحدي, وردكم, فإذا جاؤوا معك قبلتهم, ورددتك, وإذا تخلفوا عذرتهم, ولمتك, فالناس كلهم براء"[19]. وهو ما ينسجم وطبيعة اللغة التي تختارها الروائية, وهي في مجملها تهتم بالإيقاظ الشعري للناس الذين تتحدث عنهم, وتدفع بالقارئ إلى معايشة الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي.[20] وهذا شأن طبيعي من شؤون الروائي الذي يبتدع الشخصيات الروائية لكي يسد النقص الذي يعتري التاريخ عادة في هذه النواحي، وهو بذلك يقدم البعد الغائب في الكتابة التاريخية، وهو البعد العاطفي والوجداني الذي تسكت عنه المصادر التاريخية عادة[21].
كغيرها من كتاب الرواية التاريخية, يبرز لدى الروائية تجاذب وانشطار واضح بين صيغتين من صيغ التعبير, ويبدو جلياً تلك المشقة التي تكبدتها وهي تعيد حبك المادة التاريخية, بغرض إخضاعها لشروط الخطاب الأدبي, وهو ما اقتضى إدراج المادة السردية في سياقات مجازية, بحيث تمتثل لشروط الخطاب الأدبي، فكان الحلم واحداً من السبل المعتمدة لتحقيق هذا الأمر, كذلك كان عليها أن تستنبط ما أمكن لها استنباطه لغرض توثيق حبكة لمادتها السردية, وفي ظني هنا أن الكاتبة تمكنت من استنباط مركز ناظم للأحداث المتناثرة عبر أكثر من سببيل, يتصدرها فكرة المشخص الذي آمن يحيى أن مصيره مرتبط به على نحو بعيد, لذلك ما كان لهذا المشخص أن يحضر أو يغيب, إلا ليشكل تطوراً ما على صعيد الأحداث التي يمر بها يحيى؛ ولادته, مغادرته الكرك إلى سينا, سفره إلى مصر, لحاق جمان به إلى الفيحاء, وأخيراً اللحظة الأخيرة التي واكب فيها المشخص لحظة قطع رأسه. مما يترتب عليه ابتكار حبكة للمادة التاريخية، تحيلها إلى مادة سردية أدبية، تنفصل عن السياقات الحقيقية، وتندرج في سياقات مجازية. ليكون شرط نجاح العمل استنباط مركز ناظم للأحداث المتناثرة، يحيلها إلى مادة سردية. ومن هنا صح القول إن الرواية التاريخية تقدم التاريخ من خلال صورة فنية كلية، تبث روحاً في الجسد الذي يصوره التاريخ جامداً بارداً، بفضل العناصر الفنية المتنوعة التي يستخدمها الروائي، ومن خلال السرد والحوار، وغيرها من الأدوات الروائية[22].
لذلك حضرت اللحظات الأخيرة في الرواية غاية في الرفعة الأدبية؛ فحين حلت اللحظة الحاسمة نجد يحيى وقد" تبسم متذكراً ولعه بلعبة الضوء والظل في طفولته, ثم فكر راضياً أنه في لحظاته الأخيرة, وإن الروح سيف الله, والبدن المكثف غمده, فكأن اللعبة انكشفت له تماماً, وغمرته بهجة المعرفة, فألهته عن وجل الموت"[23].  وأجمل منها وأشدها تأثيراً كانت بعد انقطاع رأس يحيى إذ " نط المشخص من جيب القتيل, برم مثل مخروط الدوامة ولعبة البلبل التي يحب, ثم انزلق في الفتحة المنشقة عند أرض العتبة وغاب. تذكر به طفلاً في الكرك. جاءتني نفل في معمعة الزلزلة أنقذتني من الدهس بين أقدام الضائعين, حملت الرأس المقطوع مثل قمر بين كفيها يخر دماً, وتبسمت فتبسمت, ثم راحت تصعد بي سلماً من ضياء والعالم من تحتنا, يجوح, ينوح, يتجلل بالسواد والدم, وقد صعقته الزلزلة"[24].
 وإن كنا بطبيعة الحال لا نلغي لغة تاريخية تسجيلية تفوح منها رائحة القرن السابع عشر الميلادي, من مثل "...فطعم الناس وشربوا حتى العصر, وما دخل المحكمة كاتب أو قاض أو صاحب حاجة, كأنما عطلت القضايا في ذلك اليوم, وإذا دارت الشمس دورتها وافية من مشرقها حتى قرب المغيب, أطل موكب القاضي"[25]. أو مثل ما يكتبه الوراق في المحروسة من عبارات تنتمي إلى هذه الفترة فنجد " خطه العبد الطامع بمرضاة ربه....كل من يقرأه, أو يعيد نسخه, يمنحه الله بيتاً في الجنان, ويباعد بينه وبين المرض والحزن, ويهبه الذرية الصالحة والرزق الوفير, ويجعل مقامه في الجنة مع العلماء"[26].
وأخيراً نقول إن الروائية لم تقم بترحيل ما هو قديم إلى زمن جديد, وإنما كتبت نصاً جديد الموضوع يستدعي زمناً تراثياً, زمن التحول السلبي الذي يقوض الأخلاق. ومن هنا نعود لنؤكد أن التجربة السياسية المعاصرة هي الهم الأكبر لمؤلف ملتزم بقضايا المجتمع وهمومه ومشكلاته, لذلك لم يكن المصير المأساوي للبطل إلا تعبيراً مؤلماً عن استنكار حالة القهر وإدانة لممارسيها. لذلك تفصح الروائية في أسطرها الأخيرة أن ما قدمته من عوالم فسيحة انبعث من مخيلتها التي صنعت الشخوص والأماكن والأحداث لكنها " ارتكزت على عالم حقيقي

[1] انظر في هذا الموضوع , إبراهيم, رزان, الرواية التاريخية بين الحوارية والمونولوجية, دار جرير للنشر والتوزيع, 2012, عمان, ص44-46.
[2] انظر في هذا الموضوع الطائي, معن, أبو رحمة, أماني, الطريق إلى ما بعد الحداثة, أدب وفن, 1-8-2011.
[3] الرواية, ص376.
[4] الرواية, ص269.
[5] الرواية, ص253.
[6] الرواية, ص252.
[7] الرواية, ص267.
[8] انظر, سلدن, رامان, النظرية الأدبية المعاصرة, ترجمة سعيد الغانمي, المؤسسة العربية للدراسات والنش, 1996,ص148, 149.يبين فوكو في كتابه ( الكلمات والأشياء) أن التشابه لعب دوراً مركزياً في بنية المعارف جميعاً, فكل شيء يردد صدى كل شيء سواه.
[9] الرواية, 395.
[10] الرواية, 424, 425.
[11] الرواية, ص442.
[12] الرواية, ص112.
[13] الرواية, ص135.
[14] الرواية, ص181.
[15] الرواية, ص303-304.
[16] الرواية, ص430.
[17] الرواية, ص430.
[18] الرواية, ص434, 435.
[19] الرواية, ص438.
[20] لوكاش, جورج, الرواية التاريخية, ترجمة صالح جواد الكاظم, دار الشؤون الثقافية العامة, ط2, 1986, ص46.
[21] قاسم, عبده, الروايةالتاريخية العربية: زمن الازدهار, المستقبل, 27 تموز 2010, العدد 3723, ثقافة وفنون.
[22] انظر في هذا الموضوع, إبراهيم, عبد الله, من الرواية التاريخية إلى المتخيل التاريخي. صحيفة العرب القطرية, 28 إبريل, 2010. وانظر  قاسم, عبده, الرواية العربية التاريخية: زمن الازدهار, مرجع سابق.
[23] الرواية, ص442.
[24] الرواية, ص445-446.
[25] الرواية, ص402.
[26] الرواية, ص164.

Previous Post Next Post