الأسرة المسلمة كوسيط تربوي
يأتي الاهتمام بالأسرة اليوم، مواكباً لما تقوم به من وظائف حيوية في حياة الأفراد والمجتمعات فهي "المؤسسة الفريدة في تربيتها وتنشئتها للأجيال الطالعة ولا يمكن لمؤسسة أخرى أن تباشر مهامها في عملية التنشئة الاجتماعية بنفس المقدرة والكفاءة  ، فالأسرة تتوسط بين الفرد والمجتمع، فمن ناحية تنقل ثقافة المجتمع إلى الأفراد ومن ناحية أخرى، تزود أفرادها بالأدوار التي تمكنهم من التفاعل والتعامل مع المؤسسة الاجتماعية "(132) .
الطفل الإنساني في حاجة ماسة إلى رعاية الأسرة وملازمة الأبوين، أكثر من حاجة أي طفل لحيوان آخر وذلك لأن الطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة من غيره، كما أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيئة وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته، ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة ودوره في الأسرة أعظم دور، امتدت طفولته لتحسين إعداده وتدريبه للمستقبل(133).
وتكتسب الأسرة أهميتها التربوية، من خلال كونها المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية وهي تزاول تنشئة العنصر الإنساني وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصور الإسلامي(134) .
ويؤكد قطب على أن الأسرة، لا يمكن أن يناظرها –كمحضن تربوي– أي جهاز وقد عبر عن ذلك بقوله " فقد أثبتت التجارب العملية، أن أي جهاز غير جهاز الأسرة، لا يعوض عنها ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وبخاصة نظام المحاضن الجماعية، التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسّفة، أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشاردة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي قبله الله للإنسان "(135) .
ويشير قطب إلى الآثار السلبية الناتجة عن إقصاء الطفل الصغير – في بدايات حياته– عن الأسرة فيقول : " إن الطفل الذي يحرم من محضن الأسرة، ينشأ شاذاً غير طبيعي في كثير من جوانب حياته، مهما توافرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة"(136).
ويشير قطب إلى أن الوالدين، يندفعان – بالفطرة – إلى رعاية الأولاد وهما يضحيان بكل شيء حتى بالذات، ليمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهدٍ واهتمام منهما وهما سعيدان بذلك(137) .
فالوالدان يقومان برعاية الأولاد رعاية تلقائية، مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير ولذا تتكرر في القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الوصية بالإحسان إلى الوالدين ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادراً وبمناسبة حالات معينة(138) .
وما من شكٍّ في أن الآباء، فطروا على حب الأبناء وهم يدعون ربهم أن يرزقهم الذرية وقد عبر عن ذلك قوله تعالى – على لسان زكريا عليه السلام : " هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء " (آل عمران، آية : 38) .
ويؤكد قطب على المفهوم الشامل للرعاية الأسرية، فهي لا تقتصر على الجانب البيولوجي الجسدي فحسب، بل تتعداه إلى جوانب أخرى حيوية ومطلوبة وقد لخص أبرز الوظائف التربوية للأسرة، في تنمية النشء جسدياً وروحياً وعاطفياً، كما أنها مطالبة بتزويد النشء، برصيد من المعرفة الإنسانية والتجارب التي تؤهله في حياة المجتمع الإنساني والمشاركة في حمل تبعته(139) .
وحتى تقوم الأسرة المسلمة بوظائفها التربوية تجاه الأبناء، لا بد من توافر بعض المقومات في الأبوين، وعلى رأسها الالتزام بالإسلام ولذا يوصي قطب الرجل المسلم، بأن يبحث عن الفتاة الصالحة الأمينة إذا أراد أن يبني بيتاً مسلماً(140) .
وما من شك في أن التزام الزوجين بالدين " يشكل قاعدة للتفاهم بينهما ويوحد ميولهما واتجاهاتهما وأهدافهما ورغباتهما وسيجدان فيه - دائماً – المرجع الذي يحتكمان إليه ويطمئنان لحلوله السليمة "(141) وهكذا يكون الأبوان أقدر على أداء دورهما تجاه تربية النشء في ظل الاستقامة على منهاج الله والتدين الإيجابي، فلا تنازع في هذا الدور ولا تناقض ينعكس سلباً على تربية الأبناء .
وينصح قطب المرأة المسلمة، بأن لا تفني جهدها في العمل خارج البيت، على حساب رعاية الأبناء، مما يعني التضحية بالصحة النفسية للطفل، الذي هو أغلى ذخيرة على وجه الأرض(142) .
ويرى قطب أن الأم المكدودة بالعمل والكسب، لا يمكن أن تمنح الطفولة الناشئة حقها ورعايتها ويذكر بأن الإسلام، أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة عليه، كي يتاح للأمم من الجهد والوقت وهدوء البال، ما تشرف به على النشء(143) .
ويرى الباحث أن لا غضاضة في عمل المرأة خارج البيت لا سيما في ظل وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة، طالما كان هذا العمل نافعاً ونظيفاً يمكنها من الحفاظ على كرامتها وعفتها وتوازن بين واجباتها في البيت وعملها خارجه ومن خلال التجارب الواقعية، يتضح أن هناك الكثير من النساء المسلمات العاملات، لم يمنعهن العمل من الوفاء بالتزاماتهن تجاه البيت وتنشئة الأبناء، طالما توفر لديهن الوعي بدورهن وانطلقن في أدائه من الوازع الديني واستشعار المسئولية أمام الله عز وجل .
ويشير قطب إلى أن " الأصل في التقاء الزوجين، هو السكن والاطمئنان والاستقرار ليظل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب وينتج فيه المحصول البشري الثمين ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه "(144) .
ويحذر قطب من مخاطر انتفاء الاستقرار في البيت المسلم وتصدعه وانهياره مما يؤدي إلى تشريد الأبناء وتعريضهم إلى الأمراض النفسية والعصبية(145) .
ويرى قطب أن مراعاة مبدأ القوامة للرجل، من الوسائل التي تكفل رصانة البناء الأسري وتُمكن الزوجين من أداء دورهما في تربية الأبناء وأما الأطفال الذين يعيشون في مؤسسة عائلية، القوامة فيها ليست للأب، قلما ينشأون أسوياء كما أنهم أكثر عرضة للانحراف الخلقي والشذوذ في تكوينهم النفسي والعصبي وسلوكهم العملي(146) .
ويبين قطب أن القوامة بالنسبة للرجل، لا تعني إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني، فهي بالنسبة للرجل ذات مضمون أخلاقي ووظيفة داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة وصيانتها(147) .
ومن الجدير ذكره في هذا المقام أن " دور القوامة لا يتحقق والأمر المطلوب في سلوك الأهل، لا يبرز إلا إذا كان الرجل ذا شخصية قوية جذابة محببة وخلق نبيل وتسامح وإغضاء عن الهفوات الصغيرة ووقوف حازم عند حدود الله "(148) .

أقوالٌ حكيمة
مما لا شك فيه أن كتابات سيد قطب، تقع في زمرة تلك الآثار المبدعة الموحية، التي نعثر خلالها على تعابير وكلمات رائعة يهتز لها الوجدان وتطرب لها الآذان لما تتضمن من حقائق ومعاني أصيلة خالدة يمكن أن تشكلَ نبراساً يهتدي به الناس ويعتبرون، وإليك أيها القارئ مقتطفات من أقوال الشهيد الملهم :
·  " إنه إله واحد يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه، فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل…" (الظلال، ج1، ص 207).
·  " الإسلام ليس كلمة باللسان، إنما هو نظام حياة ومنهج عمل، وإنكار جزء منه كإنكار الكل " (الظلال، ج1، ص 328) .
·  " والبشرية إما أن تعيش – كما يريدها الإسلام – أناسي تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور .. وإما أن تعيش قطعاناً خلف سياج الحدود الأرضية، أو حدود الجنس واللون .. وكلها حدود مما يقام للماشية في المراعي كي لا يختلط قطيعٌ بقطيع" (الظلال، ج1، ص 413) .
·  " الكون كتاب الله المنظور . والقرآن كتاب الله المقروء " (الظلال، ج1، ص 349) .
·  "ولا بد من بصر ينظر وبصيرة تتدبر، لتبرز العبرة وتعيها القلوب، وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار " (الظلال، ج1، ص 372) .
·  " هذا هو الطريق : إيمان وجهاد.. محنة وابتلاء.. وصبر وثبات.. وتوجه إلى الله وحده .. ثم يجئ النصر . ثم يجئ النعيم .. " (الظلال، ج1، ص 219) .
·  " الشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة " (الظلال، ج1، ص 145) .
·  " الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله . وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات . وبواقعيتها المثالية، أو مثاليتها الواقعية، التي تضع قدميها على الأرض، وترف بروحها إلى السماء، دون تناقض ودون انفصام " (الظلال، ج2، ص 770) .
·  "لا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال" (الظلال، ج1، ص 732).
·  " الأمم تربى بالأحداث " (الظلال، ج1، ص 461) .
·  " إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان .. مع هواه وشهواته.. مع مطامعه ورغباته" (معالم في الطريق، ص ص 75، 76).
·  " إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، ليرفض أن يكتب حرفاً يقرّ به حكم طاغية .. فإن كنت مسجوناً بحق فأنا أرضى حكم الحق وإن كنت مسجوناً بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل " (العظم، رائد الفكر، ص 46) .

Previous Post Next Post