التفاوت في الثروة والدخل في فكر الاقتصاديات الوضعية
التفاوت في الثروات والدخول ظاهرة ملازمة  للاقتصاد الرأسمالي؛ لأنَّ الأسس التي يقوم عليها تولَّد التفاوت ضرورة من الإيمان المطلق بالملكية الخاصة، وإعمال السوق في تحديد أثمان عوامل الإنتاج. ولكن أصحاب المذهب الرأسمالي ينكرون وجود فكرة الصراع الطبقي كنتيجة لهذا التفاوت – رغم ما تعانيه منه المجتمعات الرأسمالية – لأنَّ هذا النظام مؤسس على تفاعل قوى السوق، والسوق في نظرهم لا يحكمه إلا القوى الموضوعية المادية فلا مجال إذن لوجود صراع اجتماعي([1])"، وهناك معنىً أبعد في مسألة عدم الاعتراف بالطبقية وهو الإيمان بنظرية »اليد الخفية« التي قال بها أدم سميث ([2]) وهو يتحدث عن الرأسمالية البحتة بأنها مجتمع يتخذ فيه الأفراد قرارات معزولة مبنية على دوافع أنانية (أرباح ) لشراء وبيع وإنتاج مختلف السلع، ولكن يسفر الأمر عن أنَّ هذه القرارات هي بعينها ما كان المجتمع يريده، كأنما القرارات المعزولة موجهة بأيد خفية ما، فتكون النتيجة بهذا المفهوم أنْ يكون هناك توافق بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة فلا يحصل صراع بين الطبقات؛ لأنَّ يد السوق الخفية تؤدي إلى استفادة المجتمع بكامله من ممارسة النشاط الاقتصادي في السوق دون أن تكون هناك طبقة معينة متضررة ([3]).
وأرجع الأسس المؤثرة في حصول التفاوت في كتابه دراسة في طبيعة ثروة الأمم (1776م) إلى ثلاثة أسس رئيسة: وهي حماية الملكية الخاصة، وعامل الحافز الشخصي والذي يعتبر الدينامو المحرك للحياة الاقتصادية والمنظم لها، وما يجري من أنشطة في السوق([4])، فالسوق يُنظِّم كلاً من الإنتاج والاستهلاك، فالسوق يحدد أسعار كلٍ من خدمات عناصر الإنتاج، وكذا أسعار السلع النهائية. أي يحدد الدخل الذي يحصل عليه الفرد نتيجة ما يملك من عناصر الإنتاج. ويحدد دخله الحقيقي بما يحصل عليه من سلع وخدمات.
والأسس التي وضعها سميث سار عليها الاقتصاديون التقليديون زمناً طويلاً، ومن أجل ضرورة تدخل الدولة لتحقيق العدالة ظهرت أصوات أخرى، فجون ستيوارت ميل([5]) دعا في عام 1848م بضرورة الفصل بين مجال الإنتاج الذي لا يجوز للدولة التدخل فيه، ومجال توزيع الدخل الذي فيه إجماع تام –كما زعم- على ضرورة تدخل الدولة لإعادة توزيع الدخل لإيجاد المساواة الاجتماعية ([6]).
حتى جاءت أزمة الكساد الكبير في 1929م فزلزلت الاعتقاد بصحة تلك الأسس تمامًا، وظهر كتاب: النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود في عام 1936م لجون.م. كينز (J.M.Keynes)، فرد على من قال بالتعارض بين الاعتبارات الاقتصادية الفنية المتطلبة لوجود دخول كبيرة تسمح بعمل المدخرات اللازمة لتكوين رأس مال المجتمع، والاعتبارات الأخلاقية الداعية إلى توزيع الدخل توزيعاً أقرب للعدالة؛ فقال: " إنَّ ادخار الأغنياء الذي يعتبره الرأي السائد دعامة نمو الثروة القومية هو أبعد ما يكون عن ذلك؛ بل الأرجح أنه يسبب عرقلة نمو هذه الثروة، وهكذا تزول أهم المبررات الاجتماعية لعدم تحقيق العدالة في توزيع الدخل([7])"، فانتهى الأمر بالثورة الكينزية إلى زيادة النفقات العامة الاجتماعية، واتساع نطاق الضرائب التصاعدية، واعتبار ضرورة إعادة توزيع الدخل والثروات في صالح الطبقات ذات الدخل المحدود، أحد أهم الأسس الهامة للسياسات الاقتصادية التي تهدف إلى تحقيق التشغيل الكامل، وإنْ لم يهدف كينز إلى تغيير البنيان الاجتماعي، بقدر ما يهدف إلى معالجة مشكلة انخفاض الطلب الفعلي عن طريق رفع معدل استهلاك الطبقات ذات الدخول المحدودة([8]).  
ومن أهم الضغوط التي أدت إلى تَغيُرِ رؤية الاقتصاد الرأسمالي لتدخل الدولة في تحقيق العدالة ضغط الواقع الإنساني فقد اشتدت المناداة بالتدخل لإعادة توزيع الدخل، وعلاج التفاوت الكبير في الثروات والدخول؛ بسبب النزعة الإنسانية الرافضة لحرمان أكثر أفراد المجتمع من الضروريات، وتمكن أقلية من الحصول على ما يشتهون وأكثر، ولذا تركزت المطالبة على زيادة حجم الإنفاقات الاجتماعية، وضرورة توفير خدمات الصحة، والتعليم لجميع أفراد الوطن، وظهرت التنظيمات العمالية (نقابات، هيئات، اتحادات)، ولكنها كانت تُغطي العمال القادرين على الانتظام في النقابات، ولم تغط كل الفئات المحرومة ([9]).
وفكرة دولة الرفاهية ظهرت كنتيجة لأزمة الكساد الكبير (1929- 1933م)، وذلك لإبقاء النظام الرأسمالي على قيد الحياة في ظل إشراف الدولة وتدخلها في السوق عن طريق الإنفاق العام، وتحفيز الطلب الكلي الفعال من جهة، ومن جهة أخرى كانت رداً على المد الشيوعي، وتَوسعه بعد الحرب العالمية الثانية (1934م)([10])، والذي كان يرفع شعارات العدالة الاجتماعية والمساواة بين الأفراد، وبفضل هذه السياسات الاقتصادية لدولة الرفاهية هبطت حالات عدم المساواة في كثير من الأقطار بين العام 1945م والسبعينيات([11]).
لكن هذه الرؤية تغيرت كثيراً بإحلال رؤية الليبرالية المُحْدَثَة محلها، والتي ركزت جهودها في بداية الأربعينيات على مواجهة الاشتراكية عامة، والماركسية منها بصفة خاصة، إلا أنَّ اهتمامها تحول من سبعينيات القرن العشرين إلى الرأسمالية الكينزية التي هيمنت على السياسات الاقتصادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حين ظهرت أزمة الركود التضخمي في مطلع السبعينات، وعجزت النظرية الكينزية عن إيجاد الحلول لها، وكان هجوم الليبرالية المحدثة يتمحور حول ادعاء مفاده أنَّ النظرية الكينزية لم تعد تلبي متطلبات الوضع السائد، ووجهت أصابع الاتهام إلى تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، وأنَّ نظام السوق الحرة هو أفضل نظام اقتصادي يحقق الكفاءة في الإنتاج، والعدالة في توزيع الدخل([12]).
وقد كانت الدولة في الفكر الوضعي هي الكفيل الأخير بخلق الشروط الضرورية لتحقيق شيء من المساواة بين الفقراء والأغنياء، فأدى تقليص نشاط الدولة إلى محاباة الأغنياء على حساب الفقراء([13])، وفي الربع الأخير من القرن العشرين انخفضت دخول العاملين بأجر، وارتفعت نسبة عبئهم الضريبي، ومن ناحية أخرى ارتفعت دخول المشاريع وأصحاب الثروة، وانخفضت نسبة العبء الضريبي الذي كانت تتحمله هذه الشريحة الاجتماعية([14])، فزاد التفاوت بشكل واضح، ووجدنا أنَّ الذين يعيشون في فقر مدقع – باعتبار هؤلاء هم من يقل دخلهم عن دولار واحد يومياً- قد زاد عددهم هذه المدة في جميع الأقطار النامية في العالم([15]).
وأدت الخصخصة خاصة في الدول النامية إلى زيادة الأعباء الاقتصادية على الأفراد وعلى الحكومات، فلم يكن هناك معنى على الإطلاق من بيع مشروع عام إذا كان المشروع ناجحاً ومُدِرًّا مالياً ويدار على أساس اقتصادي سليم، حيث ستخسر الدولة تلك الفوائض التي كانت تتدفق سنوياً من تلك المشاريع العامة الناجحة. بل إنَّ تلك الأرباح التي خسرتها هي وربحها المستثمرون الجدد أصبحت معفاة من الضرائب لفترات زمنية طويلة باسم تشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي، وبالتالي ستفقد الخزينة العامة الضرائب المتوقعة من تلك الأرباح([16]).
ونلاحظ من خلال مؤشرات عام 2007-2008 في الدول المتقدمة أن عدد العاطلين في الولايات المتحدة قد بلغ قرابة (7,002,000) عاطل، وبالنسبة لدول منظمة التعاون والتنمية فقد بلغ عدد العاطلين قرابة (34,366.6) أي ما يعادل 6.0 من إجمالي القوة العاملة، وتختلف النسبة في الدول الأعضاء فمثلا فرنسا بلغت نسبة العاطلين من القوة العاملة ((9.4، ومن الدول التي بلغت فيها نسبة العاطلين نسبة قليلة آيسلندا 3 % . ونلاحظ من خلال الأرقام الأخيرة الارتفاع الأخير في نسب العاطلين وتجاوزها في كثير منها النسبة الطبيعية للعاطلين ([17]) .
ونلخص أنَّ العلاج للتفاوت بحسب آليات النظام الرأسمالي يتجه بشكل مباشر في اتجاهين: الأول في كبح انطلاقات الأغنياء من خلال الضرائب التصاعدية، والثاني في رفعة مستوى الفقراء من خلال تأمين الخدمات الاجتماعية لهم.
ولكن بعض الدراسات التطبيقية لاحظت أنَّ إعادة توزيع الدخل في معظم دول أوروبا الغربية تتم من خلال الإنفاق العام، وليس من خلال الضرائب، فالإنفاق لأغراض إعادة توزيع الدخل (الذي يؤخذ عادة على أنه يكافئ الإنفاق على الصحة والتعليم وأوجه الرفاه الاجتماعي والإسكان والخدمات الاجتماعية) يُشكِّل حوالي 40-50 % من إجمالي الإنفاق العام في هذه الأقطار ([18]).
والحق يقال أنَّ هذه البلدان الغنية بلغت شأنًا متقدمًا في تأمين الخدمات الاجتماعية لأفرادها من خلال تأمين الصحة والتعليم والمسكن لهم وبمستوى جيد، وإنْ كان التفاوت يظهر جليًا في بقية أنواع الخدمات الاجتماعية مثل القدرة على الانتقال والاتصال وأنماط إشباع الحاجات الأخرى. ولكن رغم التوسع في الإعانة فإنه محدود بأمرين: بالدخل السابق للمحتاج إلى الإعانة، وبفترة زمنية معينة ([19]).
كما أن هناك سياسات اقتصادية تحقق بصورة غير مباشرة أهداف العدالة الاجتماعية، كارتفاع القدرة الشرائية للفئات ذات الدخل المحدود، من خلال سياسة اقتصادية قائمة على الاهتمام بالتنمية الاقتصادية، من أجل تحقيق معدل نمو اقتصادي قومي عالٍ.
وهذه السياسات تؤثر في العدالة الاجتماعية من خلال زيادة الناتج القومي نتيجة ارتفاع معدل النمو، وهذه الزيادة في الناتج القومي تؤدي إلى خفض معدلات الفقر بصورة مباشرة وغير مباشرة. والثاني: بارتفاع معدلات الطلب على استخدام الموارد ولاسيما العمل، وكلا الأمرين يؤديان إلى تزايد القوة الشرائية للفئات المنخفضة الدخل([20]).
ومن منطلق علاج التفاوت من خلال الاهتمام بالتنمية، فقد عَنِيت الدول حديثة الاستقلال بالتنمية الاقتصادية دون العناية بكيفية توزيع ثمراتها، لاعتقاد القائمين على السياسة الاقتصادية أنَّ الثمرات ستعود إلى الفقراء من خلال قوى السوق، وأنَّ الحكومات سوف تهتم بأمر الفقراء عن طريق فرض الضرائب التصاعدية وتأمين الخدمات الاجتماعية، ولذا لم يكن الاهتمام بالفقراء هو الشغل الشاغل لتلك البلاد([21]).
وحتى تؤدي ارتفاعات معدلات النمو الاقتصادي دورها في تحقيق العدالة فلا بد من الاهتمام بنمط توزيع ثمار النمو لإجمالي الناتج المحلي([22])، ولا يُكتفى بالاهتمام بالسياسات التوزيعية لما بعد الإنتاج، فقد أكدت دراسة أجراها غريفين (Griffin) أنَّ ثمار النمو في العديد من البلدان النامية تستأثر بها فئات المجتمع من مرتفعي الدخل بصفة رئيسية، ومن ثم فإنَّ توزيعه لا يتسم بالعدالة، بقدر ما يتسم  بالتفاوت([23])، وهذه الإشكالية لا يختص بها النمو فحسب بل والنفقات العامة التحويلية، فقد أظهرت دراسة تطبيقية في الوطن العربي أنَّ اسْتِفادة الفئات الغنية من الإنفاق العام على التعليم والصحة أعلى من استفادة الفئات الفقيرة، ومنها برامج تنظيم النسل والتقليل من عدد أفراد الأسرة([24]).
ومن الملاحظ أنَّ الدراسات التطبيقية تعتمد على المقاييس الحالية، ولا تأخذ بالاعتبار تحقيق العدالة التي تتم من خلال العمر كله، أو من خلال الأجيال المختلفة، وخاصة تلك التي تحدثها سياسات الضمان الاجتماعي التي قد يتضح أنَّها في المدى البعيد قد لا تنطوي على أية إعادة لتوزيع الدخل([25]).
وقد يوصى في الاقتصاد الرأسمالي باستخدام السياسة المالية في مواجهة حدة التفاوت وتحقيق العدالة كما ذهب إليه جون كينز([26]) من ضرورة تخفيض سعر الفائدة إلى أدنى حد ممكن حتى يشجع رجال الأعمال على التوسع في أعمالهم وزيادة الإنتاج، وبالتالي زيادة العمالة، وإيجاد الفرصة لتشغيل المزيد من الناس ([27]). وقد تختلف الرؤية الاقتصادية الرأسمالية في معالجة التفاوت في الدخل من بلد إلى آخر باختلاف تقدم هذه البلاد، ولذا فقد رأى بعض الاقتصاديين أنه خلال فترة بناء البنية الأساسية وزيادة الطاقة الإنتاجية، لا بد للمساكين من شد الأحزمة على البطون، لكن الواقع قد دل على أنه في خلال تلك الفترة كانت منافع التنمية الاقتصادية تذهب إلى الأغنياء فقط، فالمشكلة لها أبعاد وأسباب ومظاهر مختلفة فقد أجرى البنك الدولي عدة دراسات أظهرت أنَّ الفقر في معظم هذه البلاد –البلاد النامية- ليس ناتجًا من البطالة وحدها، بل أحيانًا من العمل لساعات طويلة بأجر زهيد، أو من عدم الرغبة في أعمال ذات دخلٍ عالٍ، ولكنها ليست مقبولة اجتماعيًا، أو من سوء مبدئي في توزيع الثروة بخاصة الأرض، وكذلك من غياب مؤسسات التمويل للحرفيين الصغار، وتركز موارد التمويل والإعانات الحكومية للفئات المقتدرة([28]).
فالعلاج الذي استخدمته الدول الرأسمالية لمواجهة آثار التفاوت عبارة عن مجموعة من الوسائل، يمكن القول أنَّ أهمها ما يرتبط بالسياسات المالية من استخدام وسيلة الضرائب، وتخفيض سعر الفائدة. ووسائل مرتبطة بالسياسات الاقتصادية من الاهتمام بتأمين الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والإسكان، والدعم المباشر للطبقة المحتاجة بما يسمى الإعانات المادية، وتشجيع دور التأمينات الاجتماعية.
بعض هذه الوسائل ظهرت بشكل جيد خاصةً أداة تأمين الخدمات الاجتماعية الأساسية، ومنها ما كان له أثر سلبي كمؤسسات التأمين الاجتماعي والضرائب والتعامل بسعر الفائدة.

وأما الاقتصاد الاشتراكي فقد كان وجوده أساسًا على الإيمان بوجود التفاوت في الثروة والدخل، وما ينبني عليه من صراع طبقي، وأوجه حل هذا التفاوت من خلال نظرته الخاصة.
وخلاصة هذه النظرة أنَّ التفاوت في الثروة والدخل يقوم على حتمية تاريخية هي أنَّ هذا التفاوت يؤدي إلى قيام طبقتين: الأولى البرجوازية (مالكة غنية) والثانية البروليتاريا (عاملة فقيرة)، فتحدث ظاهرة مستمرة هي ظاهرة الصراع بين الطبقتين، ويرجع المذهب الماركسي هذه الظاهرة إلى وجود الملكية الخاصة التي ينادي بإلغائها للقضاء على الصراع الطبقي([29]).
فالفكر الاشتراكي الماركسي بتفسيره المادي التاريخي نظر من زاوية ضيقة للتاريخ الإنساني، فتصوره صراعًا مستمرًا بين طبقة مُستغِلة وطبقة مُستغَلة، وما يجعله الفكر الاشتراكي كسبب لتَكُّون الاختلاف الكبير في التفاوت في الدخل والثروة هو آلية المنافسة بين كبار الرأسماليين وصغار الرأسماليين، والذي يؤدي التنافس إلى قتل الرأسماليين الصغار، وزيادة استخدام رأس المال الثابت.
حيث أنَّ صغار الرأسماليين تضعف قوتهم التنافسية لعدم قدرتهم على شراء الآلات، مما يؤدي إلى اختفاء الرأسمالي الصغير، ونمو المؤسسات الضخمة عن طريق التكتلات والتجمعات، وبهذا تصبح وسائل الإنتاج تبعا لذلك متزايدة متركزة في أيدٍ قليلة تحتكر الإنتاج([30])، فيحصل صراع بين الطبقتين يؤدي إلى سيطرة طبقة البرولتاريا على الحكم فيما يسمى دكتاتورية البرولتارية، وتقوم بإلغاء الملكية الخاصة ويتم توزيع الأجور على حسب قاعدة (من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته).
وحاولت الشيوعية في روسيا تحويل هذه الأفكار إلى برامج عملية، وبالفعل بدأت الثورة السوفيتية سياستها في الأجور بالمساواة، فما لبث أن شاع الكسل والتواكل، ونقص الإنتاج بصورة كبيرة هددت بالخراب، ولم يُجْدِ استخدام الإرهاب والإكراه في حفز العمل، ثم كانت المراجعة، فكان من أولِّ خطوات المراجعة السماحُ بالتفاوت في الأجور بحسب العمل والمهارات، ثم السماح بملكية خاصة في حدود معينة، وسُمح أيضاً بالميراث. وكان هذا التغير قد بدأه لينين بعد الثورة بقليل، عندما اضطر للكفاح من أجل فرض مبادئ السياسة الاقتصادية الجديدة NEP ، والتي أبرزت أهمية الدافع المادي للعمل، فقامت بعض الأصوات التي تقول أنَّ هذا خروج على الفكر الماركسي، فقام خليفته ستالين بحملة تصفيةٍ واسعةٍ ضد معارضيه في الرأي قتلا وتشريدًا، وصرح سنة 1934م: "إنَّ هؤلاء يحسبون أنَّ الاشتراكية الشيوعية تستلزم المساواة في الأجور، ألا ما أسخفه من رأي، إنَّ المساواة التي نادوا بها أضرتنا أكبر الإضرار"([31])، وبالتالي سقط الشعار السابق في الميدان العملي، ولكن لم يحافظ النظام الاشتراكي على تفاوت معقول في الأجور أيضاً فقد " فشلت الاشتراكية فشلا ذريعًا في القضاء على التفاوت الكبير في الأجور الذي كانت تحلم به ليتحقق للجيل الثاني في ظل الاشتراكية الإحساس بالعدالة، والتقارب في الأجور بين الناس ليزيد تشبثه بمبادئ الاشتراكية، على أساس أنَّ الجيل الأول هو جيل الكفاح، ولن تستقر الأمور إلا في الجيل الثاني وما بعده من الأجيال، ولكن كانت الاشتراكية في جيلها الثالث تعاني من التفاوت الرهيب في الأجور بين أفراد شعوبها الذي بلغ في عام 1962م فروق المرتبات في الاتحاد السوفيتي مابين 1:50"([32])، أي: أنَّ أكبر مرتب يمثل خمسين ضعفًا من مرتب الصغير في روسيا، أي: أنَّ التطبيق الاشتراكي وصل إلى نفس النتائج التي وصل إليها النظام الرأسمالي بحرياته غير المنضبطة - حرية التملك وحرية الاستغلال وحرية الاستهلاك- والتي أدت إلى التفاوت الرهيب في الدخول، وتسلط قلة الرأسماليين على توجيه الحكم كتسلط الحزب في النظام الاشتراكي بغير اعتبار للأغلبية الساحقة([33])".

[1] - انظر: التوزيع للعوضي، ص247. و إعادة توزيع الدخل القومي من خلال السياسة المالية. رفعت المحجوب. دار النهضة العربية. 1967م ، ص39. وعدالة توزيع الثروة، ص77. مراجع سابقة.
[2] - آدم سميث (1723م-1790م): من كبار المفكرين الاقتصاديين، اسكتلندي الأصل، نشر كتابه "بحث في طبيعة ثروة الأمم " في عام 1976م، ويعتبر هذا الكتاب أساس علم الاقتصاد الحديث. ترك سميث أثرًا عميقًا في المعاصرين واللاحقين من علماء الاقتصاد الوضعي حتى يمكن القول أنهم عاشوا أمدا طويلا على أفكاره تطويرًا أو نقدًا، انظر: الموسوعة العربية الميسرة، لمجموعة من العلماء، مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر- مصر، ط 1، 1967م، ص 1016.
[3] - انظر: النظام الاقتصادي الدولي المعاصر، حازم الببلاوي، سلسلة عالم المعرفة- إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، العدد 257، مايو 2000م، ص 21.
[4]  - انظر: التوزيع للعوضي، بتصرف، ص 248-260.
[5] - جون ستيورات مل (1806- 1873م): فيلسوف انجليزي درس القانون، ثم تركه للعمل كموظف، من أهم مؤلفاته "مذهب في المنطق" ومبادئ الاقتصاد السياسي" له مشاركة في نظرية التجارة الدولية، (الموسوعة العربية الميسرة، ص1738).
[6] - انظر: التوزيع للعوضي، ص 262.
[7] - انظر:  The General Theory: J. M. Keynes, P:341، مرجع سابق.
[8] - انظر: إعادة توزيع الدخل القومي لرفعت المحجوب، بتصرف، ص139.
[9] - انظر: التوزيع للعوضي بتصرف ص 264-265. والتوزيع، صلاح الدين نامق، بتصرف، ص 25-28.
[10] - انظر: عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية، لأحمد منصور، مرجع سابق، ص26.
[11] - السيطرة الصامتة، الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية، نورينا هيرتس، ترجمة، صدقي حطاب، سلسلة عالم المعرفة، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، العدد (336)، فبراير2007م، ص 52.
[12] -انظر: السياسات الاقتصادية الكلية في ظل الأزمة العالمية الراهنة، منير الحمش، مجلة بحوث اقتصادية عربية، إصدار الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية ومركز دراسات الوحدة العربية- العدد 47، صيف 2009م، السنة 16، ص9.
[13] - اقتصاد يغدق فقراً. التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه. ترجمة: عدنان عباس. سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت. العدد (335). ذو الحجة 1427هـ- يناير2007م، ص58.
[14] - انظر: اقتصاد يغدق فقراً، ص61.
[15] - السيطرة الصامتة، نورينا هيرتس، بتصرف، ص 52.
[16] - الثورة والثروة في خصخصة القطاع العام لدولة الكويت، ناصر المصري، مقدمة إلى المؤتمر العالمي الثالث للاقتصاد الإسلامي، جامعة أم القرى – كلية الشريعة والدراسات الإسلامية- مكة المكرمة- السعودية، 1426هـ- 2005م، ص9.
[17] - انظر: تقرير التنمية البشرية السابق، ص 286.
[18] - انظر: الحكومة والفقراء والإنفاق العام. دراسة لظاهرة عجز الموازنة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية. عبدالرزاق الفارس. مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت. ط 2. نوفمبر2001 ، ص168.
[19] - عدالة التوزيع، مرجع سابق، ص73.
[20] - انظر: السياسات الاقتصادية الكلية والفقر. مع إشارة خاصة إلى الوطن العربي. سالم توفيق النجفي. وأحمد فتحي عبدالمجيد. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. ط 1. أغسطس 2008م ، ص17.
[21] - الحاجات الأساسية، مرجع سابق،ص 64.
[22] - انظر: المرجع السابق، ص 135.
[23] - انظر: المرجع سابق، ص17.
[24] - انظر: الحكومة والفقراء والإنفاق العام، ص177. واقتصاديات المالية العامة، ص249.
[25] - انظر: الحكومة والفقراء والإنفاق العام، ص168.
[26] - جون ماريند كينز (1883-1946)، رجل الأزمة العالمية الاقتصادية 1930، وَضعَ حلولا نظرية لإخراج العالم الرأسمالي من أزمته العادية، فقد وضع كتابه "النظرية العامة في النقود والتوظيف وسعر الفائدة" 1936، وفيه أن على الدول الرأسمالية اتخاذ إجراءات تدخُلِية في اقتصادها القومي، تهدف إلى زيادة الاستثمارات في المجتمع، والحد نوعًا ما مِنْ الإدخارات، فأعلن بهذه الرؤية عن ميلاد رأسمالية جديدة تؤمن بتدخل الدولة، ولذا سميت نظريته بالثورة الكينزية، وهي التي أخرجت العالم الرأسمالي من أزمته الخانقة. (انظر: قادة الفكر الاقتصادي، لنامق، مرجع سابق، ص36-42)
[27] - انظر The General Theory of Employment, Interest, and Money: J. M. Keynes, Atlantic, New Delhi, 2008, P:343.
[28] - الحاجات الأساسية، مرجع سابق، ص 64.
[29] - انظر: عدالة توزيع الثروة، مرجع سابق، ص77. والإسلام والمذاهب الاقتصادية المعاصرة. يوسف كمال. دار الوفاء – المنصورة. ط 2. 1410هـ-1990م ، ص181.
[30] - الإسلام والمذاهب الاقتصادية المعاصرة. يوسف كمال. ص 85.
[31] - انظر: نحو طريق ثالث في الاقتصاد. أوتاشيك. ترجمة: خليل أحمد خليل. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر –بيروت. ط 1. 1406هـ-1986م ص:16. والإسلام والمذاهب الاقتصادية، ص 99.
[32] - نظرية التوزيع، للعوضي، مرجع سابق، ص287.
[33] - انظر: عدالة توزيع الثروة، مرجع سابق، ص 113.
Previous Post Next Post