علماء اللغة وخصائص الحروف العربية:

لقد تبين مما تقدم أن استيحاء معاني الحروف العربية بالرجوع إلى خصائص أصواتها عن طريق الاستبطان، فيه الكثير من المشقة والمخاطرة. ولعل هذا السبب هو الذي جعل علماء اللغة يتجنبون هذه العملية  الصوتية النفسية كمنهج لهم، وإن كان لامفر لهم من معاناتها، ولو في صور من رهافة السمع والتذوق الأدبي الرفيع.
ولقد نشرت لي مجلة المعرفة السورية في عددها(407) لشهر آب 1997 دراسة مطولة بعنوان ( فطرية العربية على موائد علمائها). عرضت فيها خلاصة ماجاء به خمسة من القائلين بفطريتها وهم :( ابن جني، وأحمد فارس الشدياق، وعبد الحق فاضل، والعلايلي، والارسوزي) .
وقد بينت فيها بعضاً من ايجابيات وسلبيات ما توصلوا إليه حول فطرية العربية وخصائص حروفها.
لذلك وحذر الأطالة اكتفي هنا بالحديث الموجز عن مناهج ثلاثة منهم للكشف عن بعض الثغرات فيها، ممايشير إلى صعوبة التعامل مع خصائص الحروف العربية ومعانيها، ومن ثم لمقارنتها مع نهجي الخاص بهذا الصدد. وهؤلاء الثلاثة هم (ابن جني-عبد الله العلايلي-زكي الارسوزي).
اولاً-حول منهج ابن جني: في كتابه الخصائص.

لقد لجأ ابن جني إلى استخلاص معاني الحروف العربية من معاني الألفاظ، بدلاً من الاتجاه مباشرة إلى تأمل صدى أصواتها منفردة في وجدانه. ولقد استهدى في ذلك تارة بقاعدته الذكية: (لا ينكر تصاقب الألفاظ، لتصاقب المعاني). أي تقارب الأصوات لتقارب المعاني. كما استهدى تارة أخرى بقاعدته الأذكى (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).. ومع ذلك لم ينج مع هاتين القاعدتين المستحدثتين من عمليات الاستبطان من التناقض حيناً بمعرض الكشف عن خصائص الحرف الواحد، ولامن الخطأ حيناً آخر في تعيين خصائص بعض الحروف ومعانيها.
فلقد ضرب ابن جني لتحديد معاني الحروف وخصائصها، الأمثلة التالية:
(القاف) فيه صلابة، وفي (الخاء) رخاوة. هذا صحيح. إلا أنه يعود فيقول:
(الحاء) فيه رقة، وفي (الخاء) غلظة. فقيل للماء القليل نضح بمعنى رشح، ونضخ للماء الغزير، بمعنى اشتد فورانه في ينبوعه. فكيف يجتمع في حرف (الخاء) خاصيتا الرخاوة والغلظة، وهما متناقضتان؟.
كما قال ابن جني أيضاً:
الهمزة في (أزّ) ، أقوى من (الهاء) في (هزّ).
وهنا اكتفى ابن جني بالكشف عن خاصية القوة الانفجارية في صوت (الهمزة)، وعن خاصية الضعف في صوت (الهاء) . وفي الحقيقة، إن صوت الهمزة يوحي بالبروز والنتوء، أكثر مما يوحي بالقوة، كما سوف نرى في دراستها. ولفظة (أزّ) معناها لغة (تحرك واضطرب)، وهما صورتان مرئيتان . والقوة في (أزّ) تعود إلى فعالية )(الزاي) المشددة، ليقتصر دور الهمزة على إظهار فعالية الزاي في صورة مرئية تشاهد بالعين. كما أن لفظة (هزالشي هزا)، بمعنى حركه بشيء من الشدة، مدينة بما في معناها من شدة للزاي المشددة، أما الهاء فهي للاضطرابات. وإذن فالشدة في كلتا اللفظتين تعود أصلا إلى (الزاي) المشددة، بفارق من أن الهمزة للظهور والبروز والهاء للاضطرابات والانفعالات النفسية. على أن شخصية الهاء من حيث تأثيرها في معاني الألفاظ التي تتصدرها، إنما هي على خفوت صوتها، أقوى بكثير من شخصية الهمزة في هذا المضمار، على الرغم من جهارة صوتها وانفجاريته، كما سوف نرى في الحديث عن الهمزة والهاء.
كما إن قيام ابن جني بتحديد معاني الحروف عن طريق المقارنة بين معاني الألفاظ أخذا بقاعدته (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، على وجه ماسبق ذكره، قد أوقعه في أخطاء كثيرة، كما في قوله:
العين في (عسف)، أخت الهمزة في (أسف)، وأضعف منها.
وسنرى أن العين حرف شعوري، والهمزة حرف بصرى، فأين الإخاء بينهما؟.
كما قال: الباء في (علب) أخت الميم في (علم). والدال في (قرد) أخت التاء في (قرت) والزاي في (علز) أخت الصاد في (علص). والسين والحاء في (سحل) أختا الصاد والهاء في (صهل) . الخصائص -الجزء الأول-ص145-160).
كل ذلك بمعنى تقارب معاني الحروف لتقارب مخارجها الصوتية ، وإن تفاوتت في القوة والشدة. وسوف نرى وكأنه لا علاقة ولاقربى معنوية بين هذه الحروف الإخوة أحياناً كثيرة، إلا كتلك التي كانت بين قابيل وهابيل.
ولو أن ابن جني تأمل صدى أصوات الحروف في نفسه لمعرفة خصائصها، لما وقع في هذه الأخطاء لمجرد تلك المصادفات من تقارب المعاني لتقارب الألفاظ في بعض الأحيان.
ثانياً-حول منهج العلايلي في كتابه: تهذيب المقدمة اللغوية

لقد حدد العلايلي معاني حروف الجدول الهجائي(بما تسمح به النصوص) دون أن يعتمد صدى أصواتها في نفسه. ولذلك غابت عن معاني حروف جدوله بصورة عامة خصائص أصواتها الحسية والشعورية كما سنرى. ونحن لانتهم العلايلي بالعجز عن استبطان أصوات الحروف، فلقد قرر مثلاً، أن (اللام) معناه الملاصقة والمساس، وذلك بمعرض تحليله لمعنى لفظة (جبل).(ص47من المقدمة). وهذا صحيح . ولكنه يعود فيقرر في جدول معاني حروفه: (إن اللام يدل على الانطباع بالشيء بعد تكلفة) المقدمة (ص64).
فأين معنى الملاصقة والمساس المستوحى من صوت اللام، من معنى الانطباع بالشيء بعد تكلفة المستخلص مما (سمحت به النصوص)؟.
ولعل العلايلي قد رأى أن اعتماد النصوص المحفوظة في استخراج معاني الحروف هو أقل شططا ومخاطرة وأسلم عاقبة من استخراج معانيها عن طريق صدى أصواتها في النفس. ولكن نهجه هذا هو أقل دقة وأكثر شططا كما سنرى في دراسة الحروف.
ثالثاً-حول منهج الارسوزي:

وهكذا كان الارسوزي هو الوحيد الذي اعتمد قاعدة صدى الاصوات في الوجدان لاستيحاء معاني الحروف. ولكنه وقف جل اهتمامه على استيحاء معاني الالفاظ العربية من صدى جملها الصوتية في نفسه، فلم يولِ الحروف العربية إلا القليل من عنايته منصرفاً إلى المقاطع الثنائية، وذلك على العكس مما فعل العلايلي الذي بدأ بالحروف العربية، ومنها انتقل إلى المقاطع كما مر معنا، ولذلك قد اقتصر الارسوزي على تحديد خصائص أحد عشر حرفاً فقط، وباقتضاب شديد كما سنرى.
حول المنهج الذي ابتعته في استيحاء معاني الحروف العربية:

الحروف العربية كأصوات فطرية مقتبسة من الطبيعة (المادية أو الانسانية)، لابد أن توحي بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية.
وإذن فإن منهجي يقوم على الاستبطان الشعوري لاستيحاء الخصائص الصوتية لكل حرف. خطوة أولى لابد منها للكشف عن معانيه. وهكذا يتلخص منهجي في مرحلتين اثنتين:
أ-المرحلة الأولى:
أقوم باستيحاء خصائص صوت كل حرف بتأملّ صداه في نفسي بعد تفخيمه، عودة به إلى طريقة النطق بصوته حين أبدعه العربي للتعبير عن معانيه. وذلك بأن أسلط عليه أحاسيس الحواس الخمس- ومختلف المشاعر الإنسانية، فأتحرى مختلف خصائصه الحسية، ثم الشعورية.
فإذا وجدت في صوته ما يوحي بإحساس لمسي، بحثت عن شتى لمسياته، من ليونة أو صلابة أو خشونة أو برودة أو حرارة..كما أنني أتبع هذا النهج بالذات لاستخلاص موحياته الذوقية والشمية والبصرية والسمعية والشعورية .
فإذا اقتصرت إيحاءات صوت حرف ما على اللمسي فقط، صنفته في فئة الحروف اللمسية، وإذا تجاوزت هذه الايحاءات حاسة اللمس فوقفت عند الحدود الذوقية أو الشمية أو البصرية أو السمعية ، صنفته في الطبقة العليا التي تنتهي عندها ايحاءاته صعوداً.
على أنني قد تخطيت هذه القاعدة مع بعض الحروف، فصنفت بعضها في الطبقة الأدنى وصنفت بعضها الآخر في الطبقة الأعلى لأسباب خاصة تتعلق بطبيعة الحرف أو ببعض خصائصه المتميزة، كما سيأتي .
وهكذا توصلت إلى توزيع الحروف العربية بين الحواس الخمس والمشاعر الانسانية، فكان لكل منها حرف أو أكثر عدا حاسة الشم التي لم تختص بحرف معين وإن كان ثمة أكثر من حرف يوحي صوته بأحاسيس شمية.
وإذن، فإن هذا المنهج يتميز عن سواه من المناهج بالكشف عن الرابطة الفطرية بين أصوات الحروف العربية وبين الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية.
أما المنهج الموازي الذي اعتمدته أيضاً في استخراج معاني الحروف من طريقة النطق بها إيماء وتمثيلاً، فإني لم اهتد إليه إلا مصادفة بعد إنجاز هذه الدراسة للمرة الأولى. وذلك عندما أخذت في مراجعة معاني المصادر التي تبدأ بحرف (الفاء). فلقد تبين لي أن تلك المعاني تتجافى مع موحيات الضعف والوهن في صوت الفاء، خلافاً لما نهج عليه العربي في تحديد معاني حروفه وفقاً لصدى أصواتها في النفس. فانتبهت إلى ظاهرة التوافق بين معاني المصادر التي تبدأ بالفاء، من شق وفصل وتوسع ، وبين طريقة النطق بهذا الحرف، كما مر معنا في بحث الجذور الزراعية في الحروف العربية(الحرف العربي والشخصية العربية  ص131 ومابعدها).وكما سيأتي لاحقاً في دراسة حرف (الفاء).
ب - المرحلة الثانية:
وبعد أن أحدد الخصائص الصوتية والإيمائية التمثيلية لكل حرف على وجه مامر معنا في المرحلة الأولى، أقوم باستخراج المصادر التي تبدأ بكل حرف مع معانيها، أقوياً كان الحرف أم ضعيفاً. أما الحروف التي في أصواتها رقة وشاعرية، فلقد نهجت على استخراج المصادر التي تنتهي بها أيضاً، حيث تكون هنا أوحى بمعانيها، كما عمدت إلى استخراج معاني المصادر التي تنتهي ببعض الحروف القوية وكذلك المصادر التي تتوسطها أحرف (ظ-ص-ض-خ-ح-هـ-ع) ، وذلك للتثبت من مدى قوة شخصياتها.
وبمقارنة معاني المصادر التي تبدأ بحرف ما مع معاني المصادر التي تنتهي به، تبين لي أن تأثير كثير من الحروف في معاني المصادر يختلف بحسب مواقعه منها، وذلك لتغير تمثيلها الإيمائي أو إيحائها الصوتي في الموقعين. مما يقطع بأن العربي لم يعط أصوات حروفه قيماً رمزية محددة، ولا معاني مطلقة أيضاً، وإنما ترك ذلك لإيحاءاتها الصوتية، ولطريقة النطق بها أنى كانت مواقعها من الكلمة. وهذا يتطلب حساسية سمع ورهافة في الشعور، ونباهة وانتباها دائبين.
وهنا لابد لي من وقفة قصيرة لتوضيح نهجي في انتقاء هذه المصادر.
لقد اقتصرت تقصياتي على الأفعال أو الأسماء العربية القحّة، مما ليس مولداً بعد عصر الرواية والتدوين، أو معرّباً عن لفظ اجنبي، أو دخيلاً دون تعريب أو عامياً أو اسماً لحشرة أو نبات ليس وصفا لفعل أو اسم . ولقد اخترت من هذه الأفعال والأسماء، ماقدّرت أنه هو الألصق جذوراً بالأرومة الأم. كما اخترت من مختلف معاني المصدر الذي وقع عليه الخيار المعنى الحسي لقربه من أصالة اللفظة العربية وفطريتها، مبتعداً ما أمكنني عن المعاني المجازية وإن كانت هي الشائعة الاستعمال حالياً. وذلك لأن غالبية أرومات الألفاظ العربية قد  أبدعت في عهود سحيقة تعود إلى مرحلة الرعي، اقتباساً من أشياء وأحداث محسوسة، أو انفعالات هيجانية فطرية، كما سبق ولحظنا ذلك في بحث (الجذور الغابية والزراعية والرعوية في أصوات الحروف العربية) المرجع السابق ص125ومابعدها ).
وهذا المنهج في انتقاء المصادر هو المنهج الموضوعي الصحيح، لأنه هو الألصق بواقع نشأة اللغة العربية، فعندما كان العربي يحتاج إلى التعبير عن معان معنوية مجردة في مراحل ثقافية واجتماعية متطورة لاحقة، كان يجد نفسه مضطراً إلى البحث عن اللفظة المناسبة في جذور مابين يديه من المصادر، مما يتوافر فيها رابطة ما بين الوظيفة المحسوسة للفظة وبين الوظيفة الذهنية للمعنى المجرد المراد، كما في لفظة (عقل) البعير (ربطه بالعقال) على الطبيعة، وعقل الأشياء أدركها على حقيقتها (بذهنه).
وهكذا نرى أن الرابطة الذهنية بين المعنيين تتجلى في التماثل بين وظيفة العقال في ربط البعير في موضعه، وبين وظيفة العقل في ربط الأشياء بحقائقها. فالربط إذن هو العامل المشترك بين العقل المجرد والعقال المحسوس، وما أصدقه من حدس فلسفي. وكما في غفر الشيء(ستره) ، وغفر الذنب (محاه) ، واللغة العربية مليئة بهذه الشواهد من الأمثلة. فنادراً جداً مانجد معنى مجرداً ليس مستنبطاً من معنى حسي.
وهذه الطريقة التي اتبعها الإنسان العربي بمعرض التعبير عن معانيه الذهنية، تعود أصلاً إلى استحالة تقمص هذه المعاني لإبداع الصور الصوتية الملائمة لها، على مثال ماكان يفعل بصدد الأشياء والأحداث الخارجية المحسوسة .
وهذه الظاهرة اللغوية الحسية، ليست مقتصرة على العربية فحسب، وإنما هي مشتركة بين مختلف اللغات السامية(فقه اللغة للدكتور وافي ص13-14).
وما كان أشق عملية اختيار المصادر ومعانيها. فمن ألفين وتسعمئةٍ وستين مصدراً ومشتقاً تبدأ بحرف النون عثرت عليها في المعجم الوسيط مثلا، وقع اختياري على ثلاثمئة وثمانية وستين مصدراً فقط (فعلا أو اسما) اعتبرتها مصادر. ومن المعاني العديدة المتداخلة لكل مصدر، اخترت معنى واحداً، وفي قليل من الأحيان معنيين اثنين، كما أشرت إلى ذلك في المقدمة، وكما سيأتي في دراستها.
ثم بعد أن أستخرج المصادر التي تبدأ أو تنتهي بحرف ما على وجه مابينت آنفا، أقوم بتصنيفها في جداول خاصة تجمع بين معانيها رابطة حسية أو معنوية، وذلك للتثبت من أمور ثلاثة:
أ-مامدى تطابق الخصائص الصوتية والإيمائية للحروف مع معاني المصادر المستخرجة؟.
ب-ما نسبة هذا التطابق؟ وذلك لمعرفة مدى قوة شخصية كل حرف.
ج-مامدى التزام الحرف موضوع الدراسة بطبقته الحسية؟. وإذا تجاوزها في بعض المصادر فما الأسباب؟.وهكذا فإن مطابقة الخصائص الصوتية والإيمائية للحروف العربية على معاني جميع المصادر التي تبدأ أو تنتهي بها، إنما هي ميزة موضوعية لمنهجي هذا، لم يجشم أحد من الباحثين نفسه مثل هذا العناء.
وفي الحقيقة، إن استخراج جميع المصادر الجذور التي تبدأ بحرف ما أو تنتهي به، على وجه مابينت آنفا، ومن ثم تصنيفها في جداول تجمع بين معانيها رابطة حسية أو معنوية، إنما هو عمل في غاية الدقة والإجهاد والمخاطرة والمسؤولية، يحتاج إلى فريق متكامل من ذوي الاختصاص.

Previous Post Next Post