الرجعية في نظر الدول التي لا تدين بدين الملحدة
عبرت بالدول ولم أعبر بالشعوب،  لأنّ حرية الفرد في شعوبها أمر مستهجن لا قيمة له، فلا سبيل إلى معرفة مقدار تمسك شعوبها بالدين أو عدمه، فلا نستطيع أن نحكم على حكامه فهم يزعمون أنّ الدين (أفيون) الشعوب؛ قالوا: "لأنّ الدين شيء لا تفهمه العامة فهو منحصر في رؤساء الكنائس وهؤلاء الرؤساء يستحوذون على الشعب بالترغيب والترهيب، ويتصرفون فيه وفي رؤسائه وأمرائه وسوقته حسب أهوائهم ويوجهونه إلى أي وجهة شاءوا كما تسوق الرعاة الأغنام".
ولو أنّ هؤلاء الحكام طالبوا بالتحرير من سلطان رجال الكنيسة ليختار الشعب الوجهة التي يريدها في عقيدته ونظامه وحكمه وعلمه ومعيشته وتعليمه وشؤونه الاجتماعية كما فعل الخارجون على الكنيسة البابوية لربما كان قولهم مفهوما؛ ولكنهم يدعون إلى محو سلطان الكنيسة الذي يخوف الناس بعذاب الله ويبشرهم بالسعادة الروحية بعد الموت، ليقيموا بدله سلطاننا ماديا تحت لمعان السيوف والنفي والقتل والتعذيب وكتم الأنفاس وكبت الحريات ومضايقة الناس في أرزاقهم وأعمالهم وتعليمهم ومساكنهم وأطعمتهم وإقامتهم.
والطامة الكبرى أنّهم يفرضون عليهم دينا آخر وعقيدة أخرى لا يقولون لهم أنها جاءت من الله ولا من الرسل ولا من الأنبياء، ولكن من أشخاص مثلهم من أبناء جلدتهم ومن يتجرأ على رفض شيء من تلك العقائد فالويل له ماذا ينتظره من العذاب المهين أو الموت الزؤام فهم ينقلونهم من ضيق إلى أضيق ومن دين

ص -12-   غير مفهوم بادعائهم إلى عقائد غير معقولة يجزمون ببطلانه ويكرهونها ولا يجدون عنها محيصا فهم كما قال الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته  كالمستجير من الرمضاء بالنار
وإن كان القسيسون يبشرون أتباعهم بنعيم الفردوس فتمتلئ أرواحهم سعادة وغبطة، ولا يأخذون من أموالهم إلاّ ما تبرعوا به عن طيب نفس؛ فإنّ الحكام التقدميين يسلبونهم كل شيء، ولا يبيحون لهم أن يملكوا شيئا: لا مسكنا، ولا حيوانا، ولا شبر أرض يزرعونه، ولا تجارة، ولا صناعة يستغلونها، ولا يتعلم الطلبة من العلوم إلا ما يشتهون أعني الحكام، ولا يلقي مدرسا درسا في علم من العلوم الاجتماعية أو يكتب كلمة في كتاب أو صحيفة أو رسالة في البريد، بل لا يتكلم بكلمة أمام رفاقه بل أمام أهل بيته إلاّ إذا وزنها بميزان الذهب خوفا من أن تكون مخالفة للتعليم والقوانين والعقائد الاشتراكية فتخطفه الزبانية.
وإذا أراد الحكام تسلية عامتهم وتبشيرهم حدثوهم بمتخيلات لا يمكنهم تصديقها أبدا يقولن لهم:
نحن الآن في البداية، وكل بداية صعبة كما يقول المثل الألماني، فاصبروا على قلة الغذاء، وضيق المسكن، وخشونة الملبس، وكثرة ساعات العمل وقسوته وصعوبته، فسيأتي زمان هو المقصود بالذات إن لم ندركه نحن فستدركه الأجيال المقبلة، وحينئذ لا يشتغل العامل إلاّ خمس ساعات في اليوم والليلة، ولا توضع أقفال على مخازن الطعام والثياب، وتكون الأموال مشاعة بين أبناء الشعب كل واحد يأخذ لنفسه منها ما شاء ويشتغل إذا شاء، وينام إذا شاء، ويسافر أين شاء، ويلبس ما شاء، ويركب ما شاء.
وهذا التبشير من السادة الحاكمين وأذنابهم وأبواقهم يجب على المحكومين وهم عامة الشعب أن يتلقوه بالتصفيق والهتاف والتمجيد، وإلاّ توجه إليهم تهمة خطيرة وهي الرجعية والبرجوازية والميل إلى الرأسمالية وما أشبه ذلك، ولو كان أولئك العامة يستطيعون التعبير عما في ضمائرهم لأنشدوا قول ابن فراس:
معللتي بالوصل والموت دونه  إذا مت ظمآنا فلا نزل المطر
-فالتقدم عند هؤلاء الحكام ينحصر في إمامين مقدسين معصومين من الخطأ، جميع آرائهما حق، وليس لأحد أن يفسر هذه الآراء إلا الحكام الحاضرون، ولو فرضنا أنّ هؤلاء الحكام استبدلوا بحكام آخرين لم يبق لهم صلاحية للتفسير، وما فسروه من قبل لا تلزمه العصمة من الخطأ، وقد ينسخ كله دفعة واحدة، والقول ما يقوله الحكام الحاضرون، وكل شيء يخالف آراء الإمامين حسب تفسير الحكام

ص -13-   الحاضرين فهو رجعية تتنافى مع التقدم.
ولو فرضنا أنّ حاكما فسر شيئا من آراء الإمامين اليوم لوجب على الشعب كله بعلمائه وحكمائه وكتابه أن يتلقى تفسيره بالقبول والتقديس؛ وإلاّ كان رجعيا، وإن لم ينته يكون خائنا، فلو عزل ذلك الحاكم غدا لأصبح تفسيره عديم القيمة مرغوبا عنه، بل قد يكون منكرا وضلالا، وهذا كله شاهدناه بأعيننا وسمعناه بآذاننا، ولكننا لم نفهمه والله المستعان.
كنت في برلين الغربية أتيمم للصلاة، لأنّي كنت مريضا لا أقدر على استعمال الماء، فرآني شاب من برلين الشرقية، فقال لي: "ماذا تصنع؟" فقلت: "هو ما ترى"، فقال: "وهل هذا من الدين؟"، قلت: "نعم"؛ قال: "هذا شكلي لا معنى له ولا فائدة، أما الوضوء ففيه تنظيف للأعضاء المغسولة، وأما المسح بالتراب فليس فيه إلاّ التلويث".
فقلت: "سمعتك تذكر أن - ستالين - ألف كتابا في التربية وتثني على ذلك الكتاب مع أن ستالين رجل عسكري، قضى عمره كله في المراتب العسكرية، ولم نسمع أنّه كان يوما ما معلما ولا مدير مدرسة ولا مشتغلا بالتربية، فمن أين جاءه علم التربية حتى ألف فيه كتابا نفيسا!؟؛ فثناؤك عليه شكلي وتقليد، وإنما أثنيت على كتابه الذي ألفه في علم التربية لأنّه رئيس دولة وزعيم حزب، فشهادتك له تملق محض.
أما معنى التيمم فهو معنى الصلاة، فإنّ الله غني عن العالمين،فإذا عظموه بالصلاة والدعاء والتمسح بالتراب فإنّما ذلك لتزكية نفوسهم وتكملتها".
وبعد موت ستالين أسقطه خلفه من درجة التقديس، وظهرت له ذنوب، وأخطاء كثيرة، وهذا الخلف نفسه شرب بالكأس نفسها.
وحاصل ما تقدم أن الدول التي لا تدين بالنصرانية تقدس نحلتها وتعدها تقدما، وتعد كل ما خالفها رجعية أو برجوازية، وتذم كل مخالف، ونحن لا نستطيع أن نفهم أن سويسرا مثلا رجعية أو ناقصة التقدم.

Previous Post Next Post