التوقف عن الدفع لفتح مساطر معالجة صعوبات المقاولة

تحديد الوقت الذي تكون فيه المقاولة في حالة التوقف عن الدفع المبرر لفتح مسطرة المعالجة :
يظل شبح التوقف عن الدفع يخيم على مختلف مراحل تطور الصعوبات التي يمكن أن تعاني منها المقاولة، والمبرر لافتتاح مسطرة المعالجة، بالإضافة إلى الإخلال باتفاق التسوية الودية.
ü   الفقرة الأولى : معنى التوقف عن الدفع لفتح مساطر معالجة صعوبات
   المقاولة
يعد التوقف عن الدفع من الشروط الموضوعية الأساسية الموجبة لفتح مسطرة المعالجة، ومما لا شك فيه أن مفهوم التوقف عن الدفع يطرح عدة إشكالات، سيما أن هناك غياب تعريف تشريعي على مستوى هذا المفهوم. فالمشرع المغربي على غرار التشريعات الأخرى نهج سياسة عدم إعطاء تعريف لهذا المفهوم، على اعتبار أن التعاريف من اختصاص الفقه والقضاء. وقد نص المشرع في المادة 561 على عنصر التوقف عن الدفع كعنصر أساسي لفتح مسطرة المعالجة، وفي محاولة إيجاد تعريف لمؤسسة التوقف عن الدفع هناك نظريتين : فالأولى تنطلق من منظور قانوني صرف لتحديد مدى اعتبار المقاولة متوقفة عن الدفع (أولا) وأخرى تنطلق من منظور اقتصادي لتجعل من الوضعية المالية أو الإقتصادية للمقاولة مرجعا للقول بما إذا كانت المقاولة في وضعية توقف عن الدفع أم لا (ثانيا).

أولا : المعيار القانوني للتوقف عن الدفع :
يقتصر هذا الإتجاه على التفسير الحرفي لمصطلح التوقف عن الدفع، بحيث تعتبر المقاولة في وضعية توقف عن الدفع عندما لا تبادر إلى إبراء ذمتها من الديون المستحقة عليها في المواعيد المحددة لذلك من قبل[1].
وبالتالي وحسب المفهوم القانوني فإن كل تاجر أو حرفي توقف عن أداء ديونه يشهر إفلاسه ويتم إغلاق محله التجاري كيفما كانت الأسباب المؤدية للتوقف ولو أن المقاولة لها من الإمكانيات لتتجاوز هذه الوضعية، فقط لابد أن نذكر أن هذا التوجه لم يطبق إلا عندما كان نظام الإفلاس هو المعتمد وعندما كانت التجارة بسيطة لا تختزل نسيجا اقتصاديا متشابكا.
والغريب في الأمر، فإن بعض الفقه الفرنسي، رغم التطور الكبير الذي طرأ على التشريع عصرنة وتحديثا، لم يتخلص كلية من هذه النظرية التقليدية، البعيدة كل البعد عن منطق القرن الحادي والعشرين، وعن درجة التطور الإقتصادي والمالي والقانوني الذي لحق التشريع، وما يؤكد هذا هو قول "إيف شاريتي" : «فلا أهمية للتساؤل حول ما إذا كان المدين لا يؤدي لا لشيء إلا لكونه لا يرغب في القيام بالأداء، أو أنه غير قادر على الأداء. فالذي يهم هو أن الأداء لم يقع، ولا أهمية كذلك ما إذا كانت الوضعية أولا ميؤوسا منها أو مختلة بشكل لا رجعة فيه، لأن قانون 1985 تخلى بصفة نهائية عن هذا المعيار».
بالإضافة إلى هذا فقد أخذت به وزارة العدل حيث ورد في دليل لها يتعلق بالقانون التجاري «بعد التأكيد على ضرورة توافر هذا الشرط لم يعرف القانون المقصود من التوقف عن الدفع، والذي يمكن قوله في هذا الصدد وهو أن الأمر يتعلق بواقع وهو امتناع التاجر عن الوفاء بديونه، إلا أنه يجب التمييز بين حالة التوقف عن الدفع وحالة الإعسار، فحالة الإعسار واقعة تظهر جلية في وجود ديون تفوق بكثير أموال التاجر. أما حالة التوقف عن الدفع فهي الحالة التي لم يفي التاجر فيها بديونه، وذلك دون البحث عما إذا كانت هذه الديون تفوق أموال التاجر أم لا، فالتاجر يعتبر في حالة إفلاس حتى ولو كان ذا أموال كثيرة»[2].
ويبقى أساس الآخذ بهذا الإتجاه في تحديد التوقف عن الدفع هو كون أن التجارة في عموميتها تقوم على الإئتمان، وبالتالي فإن هناك علاقات متشابكة، فالتاجر الذي هو دائن تجده مدين في علاقة تجارية أخرى، وهكذا دواليك. وعليه فإن إخلال أحد الدائنين بأداء الديون المستحقة من شأنه أن يجعل جميع التجار في نفس الوضعية، وهو ما فرض اتخاذ نوع من الصرامة على هذا المستوى وإعلان إفلاس أي تاجر عاجز عن أداء ديونه بغض النظر عن السبب في ذلك. لكن هذا المنظور هو ما أصبح متجاوزا في تحديد التوقف عن الدفع  .
ثانيا : المعيار الإقتصادي للتوقف عن الدفع :
فرض تطور التجارة واعتمادها بالأساس على المقاولة كنواة أساسية للإقتصاد اعتماد المشرع على المعيار الإقتصادي لمفهوم التوقف عن الدفع، بمعنى أن التوقف عن الدفع لا يؤدي مباشرة إلى الإغلاق بل لابد من تشخيص مقومات المقاولة فيما إذا كانت تستطيع تجاوز هذه المرحلة. وبالتالي البحث حول ما إذا كان التوقف عن الدفع الملاحظ على المقاولة عارضا أم أن هذه الأخيرة توجد في وضعية ميؤوس منها ومركز مالي مضطرب بشكل يجعل إمكانية استعادتها لملائتها مستحيلة، مما لا يكون معه مفر من افتتاح المسطرة الجماعية ضدها.
ويعتبر الأخذ بالتوقف عن الدفع على هذه الصورة من إبتكار محكمة النقض الفرنسية التي كان لها قصب السبق في هذا الصدد في استعمال عبارة "مركز مالي ميئوس منه" إذ ورد في قرارها المذكور أنه «مجرد الإمتناع عن دفع دين واحد أو عدة ديون تجارية لا يكفي وحده لاعتبار التاجر متوقف عن الدفع بل يجب أيضا أن يكون هذا التاجر في مركز مالي ميئوس منه وبدون مخرج»[3].
وهو الإتجاه الذي سلكه القضاء المغربي في عدة مناسبات حيث قضت المحكمة التجارية بالرباط في إحدى قراراتها «إنه نظرا لغياب تحديد مفهوم التوقف عن الدفع تشريعيا، إذ لم تحدد النصوص القانونية معنى التوقف عن الدفع، فإن الإجتهاد القضائي ذهب إلى أن التوقف عن الدفع هو الذي ينبئ عن مركز مضطرب وضائقة مستحكمة يتزعزع معها إئتمان التاجر وتتعرض بها حقوق دائنيه إلى خطر محدق أو كثير الإحتمال»[4].
وهو ما أكدته محكمة الإستئناف التجارية بمراكش في قرار لها الذي قضى بأن «عدم أداء المقاولة لبعض ديونها ليس وحده كاف لاعتبارها متوقفة عن الدفع، بل يتعين إثبات كون مركزها المالي في وضعية ميؤوس منها وبدون مخرج، عن طريق إثبات وجود ديون حالة ومطالب بها ووجود اختلال في موازنتها المالية»[5].
ومما يمكن تسجيله بهذا الخصوص أن المعيار الإقتصادي للتوقف عن الدفع له العديد من المزايا تكمن بوجه عام في كونه يسمح بتجاوز السلبيات التي قد تنتج عن التطبيق الآلي للتوقف عن الدفع في إطار المعيار القانوني والتي تتلخص في إغلاق مجموعة من المقاولات لمجرد صعوبة عابرة .خاصة إذا ما علما أن الحياة الإقتصادية قد تتخللها بعض الأزمات الطارئة وبعض التحولات المفاجئة التي قد تحول دون إمكانية أداء الديون المترتبة على المقاولة في مواعيد الإستحقاق المحددة.
ü   الفقرة الثانية : حالة عدم تنفيذ الإلتزامات المالية الواردة في الإتفاق
 الودي    
يعتبر الإتفاق الودي صورة من صور العقود المبرمة في نطاق الفصل 230 من قانون الإلتزامات والعقود فإنه كسائر هذه العقود يرتب التزامات على عاتق الأطراف الموقعة عليه ذلك أنه لا يلتزم به إلا هذه الأطراف. وبعبارة أخرى فإن الدائنين غير الموقعين على اتفاق التسوية الودية سواء كانوا دائنين عاديين أم رئيسيين لا يلتزمون ببنود هذا الإتفاق وبإمكانهم المطالبة بديونهم بمجرد حلول آجالها وديا أو قضائيا[6].
وكما هو معلوم، أن الإتفاق الودي المبرم في إطار مسطرة الوقاية من صعوبات المقاولة يخول حقوقا لرئيس المقاولة المعنية بالأمر ويترتب عليه في مقابل ذلك العديد من الإلتزامات اتجاه الدائنين. فيقع على عاتق رئيس المقاولة المستفيدة من مسطرة التسوية الودية تنفيذ بنود الإتفاق بحذافيرها تحت طائلة فسخه عند الإخلال بأحد هذه البنود، ونفس الإلتزام يقع على عاتق الدائنين الموقعين. غير أن المشرع كان أكثر دقة ووضوحا في تحديده للآثار المترتبة عن اتفاق التسوية الودية أثناء مدة تنفيذه بالنسبة لهؤلاء الدائنين في المادة 558 من مدونة التجارة[7].
فأهم الحقوق التي يخولها الإتفاق الودي لرئيس المقاولة هو أن هذا الإتفاق يوقف أثناء مدة تنفيذه كل دعوى قضائية وكل إجراء فردي يكون الهدف منه الحصول على سداد الديون موضوع الإتفاق، وذلك سواء تعلق الأمر بمنقولات المدين أم بعقاراته، بالإضافة إلى إيقاف الآجال المحددة للدائنين تحت طائلة سقوط أو فسخ الحقوق المتعلقة بهؤلاء الدائنين[8].
أما الإلتزامات التي يرتبها الإتفاق الودي على رئيس المقاولة الخاضعة لمسطرة الوقاية من الصعوبات، فتتمثل أساسا في ضرورة أداء الديون وفق الجدولة والشروط والكيفيات المحددة في مخطط التسوية الودية، كما تتمثل كذلك هذه الإلتزامات في ضرورة تنفيذ بعض التعهدات الأخرى التي يكون رئيس المقاولة قد تعهد بها[9]. ويلاحظ أن الآثار المتعلقة بوقف الدعاوى القضائية وآجال الديون إنما تسرى أثناء مدة تنفيذ اتفاق التسوية الودية وتتعلق بالديون موضوع هذا الإتفاق، بمعنى أنه إذا فسخ الإتفاق بخطأ رئيس المقاولة فإن الدائنين بوسعهم المطالبة بحقوقهم لأن الإتفاق أصبح في حكم العدم. ومن جهة أخرى فإن الديون التي لم يشملها اتفاق التسوية يمكن المطالبة بها من طرف أصحابها حتى ولو كانوا من الموقعين على هذا الإتفاق، أي أنه يمكن لهم المطالبة بديون أخرى لم يشملها اتفاق التسوية الودية[10].
تنص المادة 558 من مدونة التجارة في الفقرة الأخيرة على أنه في «حالة عدم تنفيذ الإلتزامات الناجمة عن الإتفاق تقضي المحكمة بفسخ هذا الأخير وبسقوط كل آجال الأداء الممنوحة».
إلا أن أول ملاحظة يمكن إثارتها بخصوص نص المادة 558 أعلاه هي الجهة المختصة بتقرير فسخ اتفاق مسطرة التسوية الودية، فإذا كان رئيس المحكمة التجارية هو المحور الرئيسي والذي يرجع إليه الإختصاص بفتح المسطرة، فإنه على العكس من ذلك لا يملك أية سلطة في فسخ هذا الإتفاق. ذلك أن المشرع خول هذا الإختصاص لمحكمة الموضوع وهي بطبيعة الحال المحكمة الموجود في دائرتها إما المؤسسة الرئيسية للمقاولة أو المقر الإجتماعي للشركة.
وفي هذا الإطار، تنص المادة 560 من مدونة التجارة على أنه «تطبق مساطر معالجة صعوبات المقاولة على كل تاجر وكل حرفي وكل شركة تجارية ليس بمقدورهم سداد الديون المستحقة عليهم عند الحلول، بما في ذلك الديون الناجمة عن الإلتزامات المبرمة في إطار الإتفاق الودي المنصوص عليه في المادة 556». كما تنص الفقرة الثانية من المادة 563مدونة التجارة على أنه «يمكن للمحكمة أيضا أن تضع يدها على المسطرة تلقائيا أو بطلب من النيابة العامة، لاسيما في حالة عدم تنفيذ الإلتزامات المالية في إطار الإتفاق الودي».
وهنا يطرح السؤال حول إذا ما كان عدم تنفيذ أحد الإلتزامات غير المالية، الواردة في الإتفاق الودي، من شأنه أن يؤدي إلى فتح مساطر المعالجة ضد المقاولة الخاضعة لمسطرة التسوية الودية، أم أن الأمر يقتصر فقط على الإلتزامات ذات الطبيعة المالية[11].
في غالب الأمر لا يتضمن الإتفاق الودي سوى الإلتزامات ذات الطبيعة المالية، إلا أنه لا يمنع من أن يتضمن الإتفاق بعض الإلتزامات غير المالية، أو التي ليست لديها طبيعة مالية صرفة مثل (تقديم ضمانات، عدم تفويت أموال المقاولة، عدم تسريح العمال...)، ففي هذه الحالة وإن كان عدم تنفيذ أحد الإلتزامات غير المالية لا يعد توقفا عن الدفع، إلا أنه يؤدي على افتتاح مساطر معالجة الصعوبات في وجه المقاولة التي أبرم رئيسها اتفاقا وديا مع الدائنين، أي يتم فسخ الإتفاق الودي وبسقوط كل آجال الأداء الممنوحة، حسب المادة 558 للمدين، وإن كان الأمر لا يقتصر على هذا الأثر بل يشمل جميع بنود الإتفاق بما في ذلك إلغاء تخفيضات الديون الممنوحة للمدين.
غير أن أهم أثر قد يترتب عن فسخ اتفاق التسوية الودية هو ذلك المتعلق بإمكانية فتح مسطرة التسوية أو التصفية القضائية التي نصت عليها المادة 560 من مدونة التجارة. غير أن فسخ اتفاق التسوية الودية وعدم سداد الديون المتصلة به لا يعني أوتوماتكيا فتح مساطر المعالجة في مواجهة الصعوبات، بل يبقى ذلك مشروط بتوقف هذه المقاولة عن سداد ديونها الحالة[12].

[1] - امحمد لفروجي : التوقف عن الدفع في قانون صعوبات المقاولة، دراسة تحليلية نقدية بعينات من عمل القضاء في الموضوع، دراسات قانونية معمقة عدد 1 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ص: 33.
[2] - أورده أحمد شكري السباعي : "الوسيط في مساطر الوقاية من الصعوبات التي تعترض المقاولة ومساطر معالجتها"، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص: 126
[3] - امحمد لفروجي : مرجع سابق، ص: 39.
[4] - أمر رقم 12 المؤرخ في 10/04/2002 ملف عدد 5/12/2002 صادر عن المحكمة التجارية بالرباط، منشور في مجلة دراسات قانونية عدد 1، ص: 164.
[5] - القرار رقم 1960 المؤرخ في 25/09/2013 رقم الملف 2013/1071.
[6] - محمد كرام : "الوجيز في مساطر صعوبات المقاولة في التشريع المغربي"، الجزء الأول، الطبعة الأولى 2010، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ص: 35.
[7] - محمد كرام : مرجع سابق، ص: 35.
[8] - المادة 558 من مدونة التجارة.
[9] - امحمد لفروجي : مرجع سابق، ص: 139.
[10] - محمد كرم : مرجع سابق، ص: 36.
[11] - امحمد لفروجي : مرجع سابق، ص: 140.
[12] - محمد كرم : مرجع سابق، ص: 37.

Previous Post Next Post